هل ترتبط لغة المتكلّم بموقعه الطبقي، أم بمكانته الاجتماعية، أم بالمستوى الثقافي الذي استطاع تحصيله؟ أم بشخصيته المختلفة عن الآخرين؟ يُمكن متابعة السؤال أكثر من ذلك؛ فالخلاف حول طبيعة اللغة التي ينطق بها كلُّ واحدٍ منّا لا يزال قيد الدرس، أي قيد الاختلاف. للفلّاح لغته وللعامل لغته، وللتابع لغته أيضاً، نرى هذا اليوم في الصحافة، وقد ازداد عدد الأتباع هذه الأيام. كما نراه في وسائل التواصل وفي الفضائيات.
تكمن صعوبة الكتابة عن لغة الشخصية، بوصفها تمثيلاً لفئة أو شريحة أو طبقة اجتماعية، بسبب التنوُّع الكبير للطبائع البشرية، والملاحظ أن النقد العربي، والروائي العربي أيضاً، متساهلان تجاه الأمر، ذلك أن المضمون أو الرسالة التي يُراد تبليغها تتضمّن تجاهُل مثل هذه المطالب الفنية والفكرية، وهناك احتمال أن يكون الروائيّون بعيدين عن معرفة اللغات المختلفة لشخصياتهم، وهو أمر صعب التنفيذ في واقع الحال، إذ إنه يتطلّب معرفة عميقة وواسعة بلغات الشخصيات بحسب طبائعها ومواقعها وانتماءاتها وولاءاتها. ولا يملك النقّاد أيضاً العدّة الكافية لفحص هذه العلاقة، بسبب المصاعب نفسها التي تعترض الروائيّين من جهة، وبسبب التقاعس أحياناً.
روائيّون بعيدون عن معرفة اللغات المختلفة لشخصياتهم
يقترح باختين في كتابه "الكلمة في الرواية" أن يتم إدخال تعدُّد اللغات والآفاق الكلامية المتّصلة بالأجناس والمهن الفئوية والاتجاهات والحياة اليومية (لغة النميمة وثرثرة المجتمع الراقي والخدم) إلى الرواية. وقد استُخدمت نظرية باختين عن التنوُّع الكلامي كثيراً في النقد العربي المعاصر لإدانة الرواية أحياناً، لا لتقديم المشورة، غير أن المشكلة التي تعترض الروائي أكبر من الاستماع إلى ناقد مهمّ كباختين أو نقّاد يتبنّون رأيه، وهي: كيف يمكن التعرُّف إلى تلك اللغات في الواقع من جهة، وكيف يمكن نقلها إلى رواية لا تفرط بفنّ الكتابة من جهة ثانية؟
إليكم هذه المشكلة التي قد ينشغل الروائي بنقلها إلى الفن: هناك ثلاث لغات يمكن ملاحظتها لمن يتولّى منصباً ما في بلادنا: لغته قبل تولّي المنصب، وغالباً ما تكون مرائية ومنافقة وتعتمد على ما يُسمّى مسح الجوخ، ثم لغته أثناء تولّي المنصب، وهي لغة متعالية وآمرة وربما تتّصف بالقسوة تجاه مرؤوسيه، ثم لغته بعد إقالته (لا أحد يستقيل بالطبع فهو موقف يحتاج إلى لغة رابعة غير متوفّرة لدى غالبية السياسيّين). ومن الطرائف المعروفة في الحياة السياسية السورية أن كثيرين ممّن وصلوا إلى المناصب الحكومية، كانوا يتبنّون لغة راديكالية معارضة ناقدة تبدأ في اكتشاف تلك العيوب والأخطاء التي كانت موجودة وحاضرة بقوّة يوم كانوا مسؤولين.
يقدّم الواقع كثيراً من العيّنات المناسبة لمثل هذه الملاحظات، خُذ أوضاع المحلّلين السياسيّين الأتباع في محطّات التلفزيون الذين تتلّون تحليلاتهم بحسب ألوان الجهة التي تموّل الكلام. لكن المشكلة أمام الروائي أكثر تعقيداً، إذ يقف حائراً أمام السؤال: كيف يختار من يمثّل جوهر كلّ تلك الشخصيات؟
غالباً ما يزدري الناس المنافق مثلاً في الواقع، الصعوبة هي كيف يمكن أن يكون شخصية رئيسية في رواية ما، أي "بطلاً" روائياً.