لماذا تركتم حمص وحيدة؟
ربما لن تنشر هذه الكلمات إلا وتكون حمص قد شهدت مجزرة مأساوية أخرى، بعد مجازرها السابقة، من بابا عمرو إلى الخالدية وكرم الزيتون والحصوية، وغيرها. وهي مجزرة متوقعة، آمل عدم وقوعها، كما كنت، وما زلت، آمل مع كثيرين تراجع المأساة السورية بأكملها، على الرغم من كل الوقائع العنيدة والمعاكسة. الجديد المميز في هذه المجزرة المتوقعة، هو أنها، أو يراد منها، أن تمثل انتصاراً عسكرياً ورمزياً كبيراً للنظام السوري، وشبيحته وحلفائه، على إرادة الثورة، وكسرها في حمص. تلك الإرادة التي تتمثل، اليوم، في صمود ثوار محاصرين في حمص القديمة، قد لا يتجاوز عددهم الـ 1700، وهم الباقون، بعد خروج عائلات المدنيين، إثر وساطة الأمم المتحدة والهدنة التي افتتحتها لاحقاً لمؤتمر جنيف 2 الفاشل. وهي هدنة لم يتمكن ممثلوها في حمص من متابعة توسيعها، فاستغلها بعض قادة الأجهزة الأمنية المحلية للنظام بمرونة وخبث، وتفاوضوا مع ثوارٍ كثيرين، انهارت أجسادهم جوعاً ومرضاً، كما نفذت ذخيرتهم، فسمح لهم بالخروج من الحصار، وتسوية أوضاعهم، بصورة تبدو مغريةً ومدللة، شملت منح بعضهم بطاقات هوية، وجوازات سفر. لكن، مع بقاء سكنهم حالياً في مناطق مضبوطة، أو محاصرة كالوعر والغوطة.
المقاتلون الباقون، والذين صاروا أسطورة حية لحمص الثائرة، مستمرون في صمودهم، بعد حصار زاد عن عامين. حصار منع عنهم السلاح والطعام والدواء إلا في ما ندر وتسلل سابقا، ثم اشتد عليهم، في الآونة الأخيرة، حتى أكلوا الحشائش وأوراق الشجر، وحتى القطط، فانتهى وزن الواحد منهم إلى النصف، أو أقل، كما أكدت صور منشورة.
وكانت مفاوضات ممثلي النظام مع الوفد الرباعي للمحاصرين، والذي انضم إلى لجنة الوعر ووسطاء حمص، قد توصلت إلى مشروع اتفاق، بعد مماطلات وتسويفٍ، ينص على تقبل وحماية خروج أولئك المقاتلين، بسلاحهم الفردي، إلى الريف الشمالي المحرر، مما يضمن لهم حياتهم، وشيئاً من الكرامة، وذلك بعد عجز، أو تخاذلٍ متكرر لجميع قوى الثوار خارج حمص عن فك الحصار عنهم، فضلا عن ادعاءات المعارضة وأموال الداعمين المبذولة في ذلك. لكن مشروع الاتفاق توقف، أخيراً، تحت ضغط أجنحةٍ متشددةٍ في النظام، تمثلت، أساساً، في قائد شبيحته، وجيشها المدعو جيش الدفاع الوطني، فعادت وتيرة القصف الرجيم إلى حمص منذ أيام، بعد ما كانت قد تهاودت، وانهالت مئات البراميل والقذائف على المحاصرين يومياً، ليحقق الشبيحة بنتيجتها اختراقات في كتل من خرائب وادي السائح وجورة الشياح، بينما لبس معظم المحاصرين الأحزمة الناسفة على بطونهم الخاوية، وقاوموا الاختراقات ببسالة، فأوقعوا فيها خسائر مشهودة، كما أقسموا على التصدي للمهاجمين حتى الموت.
" |
وهكذا، إذا ارتكبت المجزرة، فإن مخاطر سياسية كبرى ستنتج عن ذلك، نظراً إلى أنه إذا كان خروج المحاصرين بصورةٍ سلميةٍ، سيؤدي إلى آثار تقسيميةٍ على المكونات الاجتماعية السورية، بدءاً من حمص، وهي واسطة العقد السوري بكل المعاني، كما هو معروف، فإن القضاء على المقاتلين عسكرياً سيؤدي، بالضرورة، إلى انتشار الانتقام والتطهير الطائفي والإبادة الجماعية، على مستوى سورية والمنطقة بأكملها، ولن ينجو أحد من مخاطرها، وأولهم من يحيطون بالنظام، ويستندون إلى أوهام خلوده.
يحضرني هذا التحليل، وقد مرّت، يوم الجمعة الماضي، الذكرى الثالثة لاعتصام حمص، والذي كنت أحد شهوده والمشاركين فيه، وهو اعتصام جماهيري سلمي تشكل عفوياً، عقب انتهاء صلاة الجنازة الكبرى يومها، ومراسيم دفن ثمانية شهداء، وقد تحول إلى أكبر اعتصام جماهيري مفتوح في تاريخ الثورة السورية حتى لحظتها، وتحققت فيه كل مظاهر اعتصامات ميدان التحرير في القاهرة، في مشهديةٍ احتفاليةٍ، ورمزيةٍ، عبّرت عن روحية الربيع العربي بأسمى معانيها، حيث حافظ المعتصمون على نظافة الساحة، وحرسوا الشوارع، والمداخل المؤدية إليها، ففتشوا القادمين، منعاً لحمل الأسلحة وحتى العصيّ، وأقاموا الخيم التي امتلأت بالحوارات إلى ما بعد منتصف الليل، وغنوا ورقصوا، ووزّعوا المأكولات والمرطبات التي انهالت تبرعاتها عليهم، كما جعلوا من برج الساعة منصّة للخطابة، وهي التي اشتهرت، لاحقاً، فأصبحت من رموز الثورة، عبر بناء مجسم لها في الخالدية، كأن الثوار يقولون عبره: إذا منعنا من الوصول إليك، فها نحن نحضرك إلينا.
ومن على تلك المنصة، عبّرت في إحدى كلماتي عن سعادتي بتقديم شاب علوي، ليشاركنا في الكلام، وأسفت لأن أقدمه علوياً، إذ كنت أفضل أن أقدمه سورياً فقط، لكنني أعلنت تقصدي ذلك، تأكيدأ للمشاركة، وإظهاراً لتنوعها، فصفّق جمهور الاعتصام بأكمله لذلك، وهتف: واحد واحد الشعب السوري واحد. واستمرت أنشطة الاعتصام السلمية والوطنية، وكان يمكن له أن يكون فاتحة مسارٍ سلمي آخر، لكن النظام كرر، بطبيعته، ما قام به في درعا، فأنهى الاعتصام بانقضاض عسكري، أدى إلى فاجعةٍ دمويةٍ وآثار معنوية، فتحت الباب لمسار آخر في التاريخ، ما زال جرحه نازفاً في سورية.
اليوم، يتكرر ذلك انطلاقاً من حمص التي تركت ثورتها طويلاً وحدها، هذا إذا لم تتدخل عوامل ومفاجآت أخرى، نتذكر معها أن طريق الثورة ليست مستقيمة دائماً، وأنها قد تعرف التراجعات والمنعرجات، قبل وصولها إلى هدفها الرئيسي، وليس ذلك على التاريخ ببعيد.