لاعتبارات عدة، تفضل النظم السياسية العربية الحاكمة التلفزيون على السينما، وهي اعتبارت لا تتوقف عند مسألة المزايا الفنية للتلفزيون واختلافها عن مزايا السينما، بما ينطوي عليه ذلك من قلة التكاليف الإنتاجية وسهولة التوزيع، بل يتعلق الأمر ببنية تلك النظم وطريقة تفكيرها ونظرتها إلى كيفية استخدام ودور وسائل الإعلام.
فالتلفزيون، الذي بات النافذة "السحرية" المفتوحة على كل عقل ومنزل واتجاه، يعتبر بالنسبة لتلك النظم، الأداة الفعالة للتأثير على التوجهات العامة، وتهيئة المزاج العام لتبرير سياسات معينة، مثلما توفر الأداة ذاتها، إمكانية تغيير الاهتمامات نحو قضايا وموضوعات تهم السلطات، على اعتبار أن التلفزيون يشكل المنصة الأهم في تقديم الدعاية المناسبة للنظام السياسي، وعلاقته مع التباينات الاجتماعية والاقتصادية.
مقابل كل ذلك، لا تجد تلك النظم ضالتها في السينما، التي تتحول على يد مخرجين كبار إلى فلسفة لا تكف عن طرح الأسئلة الإشكالية حول القضايا الوجودية، والمتضمنة، بصورة ما، شكل وصيغة العلاقة مع النظام السياسي، على عكس التلفزيون، الذي يقدم الأجوبة الجاهزة والمريحة، بنبرة تلقينية ولغة لا تحمل أي تأويل، إذ ينصب اهتمامها الأساسي على السبل الكفيلة بزيادة عدد التابعين والمتابعين.
والحقيقة أن محاباة النظم العربية للتلفزيون لم تأت من كون هذا الجهاز ـ المرآة، أحد الأدوات الأساسية للهيمنة الاجتماعية فحسب، بل بسبب التوافق الجوهري والتجانس الفعلي بين طبيعة التلفزيون، المعتمدة بصورة أساسية على الخطاب الانفعالي ومحاصرة المتلقي بالصور، مع طبيعة النظم العربية التي تنتهج اللغو والتضخيم، والاستثمار في الخطاب الشعبوي ومخاوف الناس. الأمر الذي يجعل من التلفزيون الأداة الأكثر "طواعية" بيد النظام السياسي لتطويق وتتطويع "الجماهبر" بالمعنى السياسي، وذلك بأقل التكاليف والكلفة الثقافية والمعرفية. على عكس السينما، التي تتطلب جهودا وخبرات استثنائية ومعدات مكلفة وعمليات معقدة ومتداخلة من أجل إنجاز عمليات الإنتاج وعرض الأفلام.
صناعة السينما والواقع
الواضح أن صناعة السينما في البلدان العربية، تعاني من اختلالات بنيوية مزمنة، ترتبط بضعف الاستثمار وقلة الإنتاج، وأضيف إليها خلال السنوات القليلة الماضية عامل عدم الاستقرار الذي جعل الناس تنكفئ إلى نفسها وبيوتها، المخترقة ببرامج التلفزيون، مع تفضيل الثبات والانعزال أمام شاشة التلفزيون من الخروج إلى صالات السينما حيث الاختلاط والانفتاح على فئات اجتماعية وسياسية مختلفة. وهو ما يحيلنا إلى حقيقة أن الأنساق الثقافية العربية تنحو باتجاه الانغلاق والذاتية، حيث تصبح الفنون الجماهيرية، كالسينما والمسرح، خارج سياق الاهتمام الاجتماعي. وهو ما يتوافق مع سياسة النظم العربية، القائمة على مغالبة الانغلاق والأفكار المحافظة على الانفتاح والشفافية.
بصورة ما، تتوافق وتتجانس الطبيعة الشمولية لتلك النظم مع الشمولية التي تزخر بها مناهج البرامج المقدمة في التلفزيونات العربية، والتي تذهب بحدود الاستسهال إلى حد التسطيح المتعمد أحيانا، محققة بذلك الهدف الأكبر بإشغال الناس عن قضايا قد تمس طبيعة الحكم وسيرورته، وذلك ببث برامج تلفزيونية تجعل الإحساس الغالب لدى "الجماهير"، هو "وهم" الاكتمال المعرفي والسياسي، مع دفعهم باتجاه إطلاق أحكام ثابتة بعد التوهان في الكليشيهات والصور النمطية التي تزينها كلمات وإطلالات فقهاء الإعلام على شاشة الفضائيات اليوم.
حقيقة، لا يتوافق جوهر النظم السياسية العربية مع جوهر الفن السينمائي، الذي يتطلب الانفتاح المعرفي والسياسي والاجتماعي. فتراجع السينما، وعدم تحولها إلى ظاهرة ثقافية في المجتمعات العربية، لا يدل فقط على انحسار هذا الفن، بل يشير وبشكل عميق، إلى هشاشة الواقع السياسي ـ الاجتماعي غير المحصن ثقافيا، فكل النظم الديمقراطية والمنفتحة بشكل أو بآخر على "الجماهير"، تشهد بلدانها تطورات مهمة وكبيرة، في مجالات الفنون السمعية البصرية، على عكس الحالة العربية التي تؤثر الانغلاق والانكماش على اعتبار أن ذلك يوفر لها فرصة الحكم والسيطرة بسهولة وسلاسة أكبر.
كل ذلك يدل، وبشكل قطعي، على ضرورة الموازنة بين الفنون وعدم ترك التلفزيون وبرامجه في تبوّء مركز الصدارة بين المصادر المعرفية للأشخاص، وجعله، أي التلفزيون، الجهاز المركزي المنسق للعلاقات العامة بين النظام السياسي العربي وجمهوره، في وقت تتم فيه مصادرة وإقفال العديد من المصادر المعرفية، وسدّ كل النوافذ الثقافية ومصادرتها عن الفضاء والمجال العام.
هذا كله أصبح اليوم واقعاً ملموساً، ولا يقتصر الأمر على بعض الانظمة العربية التي تموّل بعض المحطات في معظم الدول العربية، في سورية، والعراق، مروراً بالقاهرة وبيروت، فضاء مفتوح، حرية استنسابية بين الأجهزة الرقابية، وبعض مقدمي البرامج، يعلو معها الصراخ أحياناً، في مواجهة قوى الرقابة والخروج من مصادرة الرأي والرأي الآخر، فيما تحاول بعض الوسائل التحايل مرات كثيرة على الحقائق للإشادة بالسلطة، والتمترس وراء الكاميرا لتغيير أو غسل عقول جزء من المتابعين للأحداث.
اقــرأ أيضاً
مقابل كل ذلك، لا تجد تلك النظم ضالتها في السينما، التي تتحول على يد مخرجين كبار إلى فلسفة لا تكف عن طرح الأسئلة الإشكالية حول القضايا الوجودية، والمتضمنة، بصورة ما، شكل وصيغة العلاقة مع النظام السياسي، على عكس التلفزيون، الذي يقدم الأجوبة الجاهزة والمريحة، بنبرة تلقينية ولغة لا تحمل أي تأويل، إذ ينصب اهتمامها الأساسي على السبل الكفيلة بزيادة عدد التابعين والمتابعين.
والحقيقة أن محاباة النظم العربية للتلفزيون لم تأت من كون هذا الجهاز ـ المرآة، أحد الأدوات الأساسية للهيمنة الاجتماعية فحسب، بل بسبب التوافق الجوهري والتجانس الفعلي بين طبيعة التلفزيون، المعتمدة بصورة أساسية على الخطاب الانفعالي ومحاصرة المتلقي بالصور، مع طبيعة النظم العربية التي تنتهج اللغو والتضخيم، والاستثمار في الخطاب الشعبوي ومخاوف الناس. الأمر الذي يجعل من التلفزيون الأداة الأكثر "طواعية" بيد النظام السياسي لتطويق وتتطويع "الجماهبر" بالمعنى السياسي، وذلك بأقل التكاليف والكلفة الثقافية والمعرفية. على عكس السينما، التي تتطلب جهودا وخبرات استثنائية ومعدات مكلفة وعمليات معقدة ومتداخلة من أجل إنجاز عمليات الإنتاج وعرض الأفلام.
صناعة السينما والواقع
الواضح أن صناعة السينما في البلدان العربية، تعاني من اختلالات بنيوية مزمنة، ترتبط بضعف الاستثمار وقلة الإنتاج، وأضيف إليها خلال السنوات القليلة الماضية عامل عدم الاستقرار الذي جعل الناس تنكفئ إلى نفسها وبيوتها، المخترقة ببرامج التلفزيون، مع تفضيل الثبات والانعزال أمام شاشة التلفزيون من الخروج إلى صالات السينما حيث الاختلاط والانفتاح على فئات اجتماعية وسياسية مختلفة. وهو ما يحيلنا إلى حقيقة أن الأنساق الثقافية العربية تنحو باتجاه الانغلاق والذاتية، حيث تصبح الفنون الجماهيرية، كالسينما والمسرح، خارج سياق الاهتمام الاجتماعي. وهو ما يتوافق مع سياسة النظم العربية، القائمة على مغالبة الانغلاق والأفكار المحافظة على الانفتاح والشفافية.
بصورة ما، تتوافق وتتجانس الطبيعة الشمولية لتلك النظم مع الشمولية التي تزخر بها مناهج البرامج المقدمة في التلفزيونات العربية، والتي تذهب بحدود الاستسهال إلى حد التسطيح المتعمد أحيانا، محققة بذلك الهدف الأكبر بإشغال الناس عن قضايا قد تمس طبيعة الحكم وسيرورته، وذلك ببث برامج تلفزيونية تجعل الإحساس الغالب لدى "الجماهير"، هو "وهم" الاكتمال المعرفي والسياسي، مع دفعهم باتجاه إطلاق أحكام ثابتة بعد التوهان في الكليشيهات والصور النمطية التي تزينها كلمات وإطلالات فقهاء الإعلام على شاشة الفضائيات اليوم.
حقيقة، لا يتوافق جوهر النظم السياسية العربية مع جوهر الفن السينمائي، الذي يتطلب الانفتاح المعرفي والسياسي والاجتماعي. فتراجع السينما، وعدم تحولها إلى ظاهرة ثقافية في المجتمعات العربية، لا يدل فقط على انحسار هذا الفن، بل يشير وبشكل عميق، إلى هشاشة الواقع السياسي ـ الاجتماعي غير المحصن ثقافيا، فكل النظم الديمقراطية والمنفتحة بشكل أو بآخر على "الجماهير"، تشهد بلدانها تطورات مهمة وكبيرة، في مجالات الفنون السمعية البصرية، على عكس الحالة العربية التي تؤثر الانغلاق والانكماش على اعتبار أن ذلك يوفر لها فرصة الحكم والسيطرة بسهولة وسلاسة أكبر.
كل ذلك يدل، وبشكل قطعي، على ضرورة الموازنة بين الفنون وعدم ترك التلفزيون وبرامجه في تبوّء مركز الصدارة بين المصادر المعرفية للأشخاص، وجعله، أي التلفزيون، الجهاز المركزي المنسق للعلاقات العامة بين النظام السياسي العربي وجمهوره، في وقت تتم فيه مصادرة وإقفال العديد من المصادر المعرفية، وسدّ كل النوافذ الثقافية ومصادرتها عن الفضاء والمجال العام.
هذا كله أصبح اليوم واقعاً ملموساً، ولا يقتصر الأمر على بعض الانظمة العربية التي تموّل بعض المحطات في معظم الدول العربية، في سورية، والعراق، مروراً بالقاهرة وبيروت، فضاء مفتوح، حرية استنسابية بين الأجهزة الرقابية، وبعض مقدمي البرامج، يعلو معها الصراخ أحياناً، في مواجهة قوى الرقابة والخروج من مصادرة الرأي والرأي الآخر، فيما تحاول بعض الوسائل التحايل مرات كثيرة على الحقائق للإشادة بالسلطة، والتمترس وراء الكاميرا لتغيير أو غسل عقول جزء من المتابعين للأحداث.