في بداية ما يسمى بأحداث الربيع العربي، سألني أحد أصدقائي العرب: لماذا لا تحدث ثورات في الصين. أجبته عندها بكلمتين: "الحالة مختلفة". إلا أن هذا الخلاف ليس واضحا مقارنة بوضوح الشبه بين الصين والعالم العربي، لجهة افتقار كليهما إلى الديمقراطية نظاما وتطبيقا.
هذا الشبه هو أحد التعبيرات المبتذلة المربكة، التي قد تغطي على المسيرة التاريخية لتشكل الصين الحالية. وهنا يساهم كتاب "الخصوصية القانونية الصينية"، في إزالة الابتذال ورده إلى أصوله. في هذا الكتاب، يجمع الأستاذ رنبوه وانغ تسع مقالات، يناقش فيها تحول المفاهيم الغربية الأساسية، كالديموقراطية والحرية والحقوق المدنية والجمهورية والنظام الرئاسي والدستورية، في المجتمع الصيني خلال القرنين الماضيين، وما انتهى اليه الشكل السياسي والدستوري في الصين اليوم.
يزعم وانغ أن تحول هذه المفاهيم، بني على أساس أن "الشعب" هو مكون أساسي في التقاليد السياسية الصينية. ووفقا لهذه التقاليد، فإن "الشعب" هو الذي يحكمه "الملك"؛ وبالتالي فإن هذا "الشعب" ليس سيد السياسة، بل خاضعاً لحكم "الملك" الذي يحصل على شرعيته من خلال رعايته الأبوية لـ"الشعب". وإذا غفل"الملك" عن هذه الرعاية، يفقد شرعيته، مما قد يؤدي إلى انقلاب عرشه لصالح أسرة جديدة، و أيضا باسم "الشعب".
ظل مفهوم العلاقة بين "الملك" و"الشعب" كما ذكر آنفا في الصين، حتى أوائل القرن التاسع عشر، حيث نقل المبشرون الأوروبيون مفهوم الديمقراطية إلى الصين، وعرّف بـ "الحكم ليس بدون حاكم ولا بحكام كثيرين". لم يظهر هذا التعريف أي فوقية للنظام الديمقراطي. ولكن بعد انهزام الصين التي حكمتها أسرة تشينغ في حرب الأفيون مع بريطانيا (1839-1842)، غيّر المبشرون موقفهم الحذر، وبدأوا بترويج تفوق الديوقراطية، مما جعل بعض المثقفين الصينيين، يتخيلون أن الديمقراطية كانت سببا لغلبة بريطانيا على الصين. وفي رأي وانغ، دفع هذا التخيل الكثير من المثقفين الصينيين، لأن يتعلموا النظم الأوروبية ويُقدِموها إلى الصين، وفي مقدمتها توسيع إشراك "الشعب" في السياسة، والحدّ من قوة "الملك".
ونظراً لاحتمال أن استخدام لفظ "مين تشو"، والتي هي نظيرة كلمة الديمقراطية في الصينية، ومعناها الحرفي "الشعب هو السيد"، قد يوجه تهديدا مباشرا للأسرة الحاكمة، اختار المثقفون الصينيون لفظا آخر أقل تهديدا، وهو "مين تشيوان" للتعبير عن مطالبهم السياسية، والذي يعني "قوة الشعب" أو "الحقوق المدنية"، فكان لاستخدامه، كما يذكر وانغ، فائدتان في السياق الصيني. أولا، أكّد هذا اللفظ أهمية إشراك العامة في الحكم والإدارة، بدون إنكار شرعية الملكية التقليدية، لتجنب أي تغير سياسي جذري. ثانيا، واءم هذا اللفظ مفهوم الديمقراطية الغربي مع الفكرة الصينية، التي تهتم بالربط بين "الشعب" و"الملك" لتخفيف إحساس تفوق النظام الغربي.
عندما فشلت الإصلاحات السياسية في حد قوة الأسرة الحاكمة، وإنشاء مجلس النواب، حدثت ثورة عام 1911 التي بدلت النظام الجمهوري بالنظام الملكي في الصين. غير أن التجربة الديمقراطية أدت إلى فوضى في الحكم، وتقسيم الدولة بين أمراء الحرب الإقليميين. فأدرك المثقفون الصينيون أن "الشعب" الصيني، لم يكن جاهزا بعد للديمقراطية. فأصبحت المهمة الأولى لبناء الصين الجديدة، هي تثقيف "الشعب" الصيني لتشكيل الوعي القومي الموحد.
يجدر بالذكر أن "الشعب" الصيني الذي كان يحتاج إلى التثقيف، لم يتضمن في البداية جميع الناس، بل مجموعة خاصة منهم سُميت "الفتي". يحدثنا وانغ أن المثقفين الصينيين، رأوا أن "الفتي" يمثّل مستقبل الصين المتقدمة ذات المكانة العالية في العالم، مقارنة بضعفها في الوقت الحاضر؛ وأن "الفتي" سيحدث نظما جديدة متماشية مع النظم الغربية المتفوقة، حيث اعتُبرت النظم الصينية القديمة، لا فائدة لها في العصر الحديث. ولكن عندما رفضت دول الإمبراطورية الغربية المطالب الصينية القومية العادلة، في مؤتمر باريس للسلام (1919)، فقد المثقفون الصينيون أملهم في الغرب رغم تفوقه، وبدأوا يفتشون عن أساليب بديلة من موارد أصيلة لتقوية الأمة الصينية. وقد اقنعتهم مساهمة الفلاحين والعمال الصينيين في الحرب العالمية الأولى، ونجاح ثورة العمال في روسيا، بأن الفلاحين والعمال هم أقوى مقومات الأمة. فدعا كثير من المثقفين الصينيين إلى التعلم من الفلاحين والعمال، والانضمام إليهم. وبذلك، تشكلت فكرة تثقيف "الشعب" من خلال التعلم منه والاعتماد عليه، مما مهد الطريق لنهضة الحزب الشيوعي الصيني، الذي قاد حركات الفلاحين والعمال في الصين، حتى استيلائه على حكم الصين ومن ثم تأسست جمهورية الصين الشعبية في عام 1949.
هذا ما يخبرنا به وانغ من تحول المفاهيم السياسية الغربية في السياق الصيني. ويظهر جليا بأن "الشعب" لم يكن إلا منتَجا خطابيا، لشرح النظام السياسي الصيني وتبريره. وما زال "الشعب"قصد الحكم وليس سيد الحكم، كما كان يروى في التقاليد السياسية الصينية. والخلاف بين هذه التقاليد والنظام الحالي، هو تبديل الدولة اسم "الشعب" بـ"الملك" راعي "الشعب". وقد يكون ذلك هو السبب في عدم حدوث ثورات "ديمقراطية" في الصين، لأن الديمقراطية قد تأقلمت مع التقاليد الصينية الأصيلة منذ زمن طويل.
(أستاذ مساعد في قسم الدراسات العربية في جامعة بكين)
هذا الشبه هو أحد التعبيرات المبتذلة المربكة، التي قد تغطي على المسيرة التاريخية لتشكل الصين الحالية. وهنا يساهم كتاب "الخصوصية القانونية الصينية"، في إزالة الابتذال ورده إلى أصوله. في هذا الكتاب، يجمع الأستاذ رنبوه وانغ تسع مقالات، يناقش فيها تحول المفاهيم الغربية الأساسية، كالديموقراطية والحرية والحقوق المدنية والجمهورية والنظام الرئاسي والدستورية، في المجتمع الصيني خلال القرنين الماضيين، وما انتهى اليه الشكل السياسي والدستوري في الصين اليوم.
يزعم وانغ أن تحول هذه المفاهيم، بني على أساس أن "الشعب" هو مكون أساسي في التقاليد السياسية الصينية. ووفقا لهذه التقاليد، فإن "الشعب" هو الذي يحكمه "الملك"؛ وبالتالي فإن هذا "الشعب" ليس سيد السياسة، بل خاضعاً لحكم "الملك" الذي يحصل على شرعيته من خلال رعايته الأبوية لـ"الشعب". وإذا غفل"الملك" عن هذه الرعاية، يفقد شرعيته، مما قد يؤدي إلى انقلاب عرشه لصالح أسرة جديدة، و أيضا باسم "الشعب".
ظل مفهوم العلاقة بين "الملك" و"الشعب" كما ذكر آنفا في الصين، حتى أوائل القرن التاسع عشر، حيث نقل المبشرون الأوروبيون مفهوم الديمقراطية إلى الصين، وعرّف بـ "الحكم ليس بدون حاكم ولا بحكام كثيرين". لم يظهر هذا التعريف أي فوقية للنظام الديمقراطي. ولكن بعد انهزام الصين التي حكمتها أسرة تشينغ في حرب الأفيون مع بريطانيا (1839-1842)، غيّر المبشرون موقفهم الحذر، وبدأوا بترويج تفوق الديوقراطية، مما جعل بعض المثقفين الصينيين، يتخيلون أن الديمقراطية كانت سببا لغلبة بريطانيا على الصين. وفي رأي وانغ، دفع هذا التخيل الكثير من المثقفين الصينيين، لأن يتعلموا النظم الأوروبية ويُقدِموها إلى الصين، وفي مقدمتها توسيع إشراك "الشعب" في السياسة، والحدّ من قوة "الملك".
ونظراً لاحتمال أن استخدام لفظ "مين تشو"، والتي هي نظيرة كلمة الديمقراطية في الصينية، ومعناها الحرفي "الشعب هو السيد"، قد يوجه تهديدا مباشرا للأسرة الحاكمة، اختار المثقفون الصينيون لفظا آخر أقل تهديدا، وهو "مين تشيوان" للتعبير عن مطالبهم السياسية، والذي يعني "قوة الشعب" أو "الحقوق المدنية"، فكان لاستخدامه، كما يذكر وانغ، فائدتان في السياق الصيني. أولا، أكّد هذا اللفظ أهمية إشراك العامة في الحكم والإدارة، بدون إنكار شرعية الملكية التقليدية، لتجنب أي تغير سياسي جذري. ثانيا، واءم هذا اللفظ مفهوم الديمقراطية الغربي مع الفكرة الصينية، التي تهتم بالربط بين "الشعب" و"الملك" لتخفيف إحساس تفوق النظام الغربي.
عندما فشلت الإصلاحات السياسية في حد قوة الأسرة الحاكمة، وإنشاء مجلس النواب، حدثت ثورة عام 1911 التي بدلت النظام الجمهوري بالنظام الملكي في الصين. غير أن التجربة الديمقراطية أدت إلى فوضى في الحكم، وتقسيم الدولة بين أمراء الحرب الإقليميين. فأدرك المثقفون الصينيون أن "الشعب" الصيني، لم يكن جاهزا بعد للديمقراطية. فأصبحت المهمة الأولى لبناء الصين الجديدة، هي تثقيف "الشعب" الصيني لتشكيل الوعي القومي الموحد.
يجدر بالذكر أن "الشعب" الصيني الذي كان يحتاج إلى التثقيف، لم يتضمن في البداية جميع الناس، بل مجموعة خاصة منهم سُميت "الفتي". يحدثنا وانغ أن المثقفين الصينيين، رأوا أن "الفتي" يمثّل مستقبل الصين المتقدمة ذات المكانة العالية في العالم، مقارنة بضعفها في الوقت الحاضر؛ وأن "الفتي" سيحدث نظما جديدة متماشية مع النظم الغربية المتفوقة، حيث اعتُبرت النظم الصينية القديمة، لا فائدة لها في العصر الحديث. ولكن عندما رفضت دول الإمبراطورية الغربية المطالب الصينية القومية العادلة، في مؤتمر باريس للسلام (1919)، فقد المثقفون الصينيون أملهم في الغرب رغم تفوقه، وبدأوا يفتشون عن أساليب بديلة من موارد أصيلة لتقوية الأمة الصينية. وقد اقنعتهم مساهمة الفلاحين والعمال الصينيين في الحرب العالمية الأولى، ونجاح ثورة العمال في روسيا، بأن الفلاحين والعمال هم أقوى مقومات الأمة. فدعا كثير من المثقفين الصينيين إلى التعلم من الفلاحين والعمال، والانضمام إليهم. وبذلك، تشكلت فكرة تثقيف "الشعب" من خلال التعلم منه والاعتماد عليه، مما مهد الطريق لنهضة الحزب الشيوعي الصيني، الذي قاد حركات الفلاحين والعمال في الصين، حتى استيلائه على حكم الصين ومن ثم تأسست جمهورية الصين الشعبية في عام 1949.
هذا ما يخبرنا به وانغ من تحول المفاهيم السياسية الغربية في السياق الصيني. ويظهر جليا بأن "الشعب" لم يكن إلا منتَجا خطابيا، لشرح النظام السياسي الصيني وتبريره. وما زال "الشعب"قصد الحكم وليس سيد الحكم، كما كان يروى في التقاليد السياسية الصينية. والخلاف بين هذه التقاليد والنظام الحالي، هو تبديل الدولة اسم "الشعب" بـ"الملك" راعي "الشعب". وقد يكون ذلك هو السبب في عدم حدوث ثورات "ديمقراطية" في الصين، لأن الديمقراطية قد تأقلمت مع التقاليد الصينية الأصيلة منذ زمن طويل.
(أستاذ مساعد في قسم الدراسات العربية في جامعة بكين)