"أخيراً وصلنا إلى بريطانيا. لم تمض ستّة أشهر حتى حصلنا على حق الإقامة". تلك كلمات زياد إلى "العربي الجديد" صيف 2015. هو الذي عانى في السجون السورية قبل هجرته.
زياد شاب سوري هرب من الحرب في بلاده التي عرضته مع أخيه للسجن، وهاجرا، فكانت محطة هجرتهما الأخيرة بريطانيا التي حصلا فيها على حق اللجوء قبل 9 أشهر. ذلك النجاح الذي وصلت إليه قصتهما دفعهما إلى محاولة جلب والدتهما وأخيهما وخالهما الذين عجزوا عن مرافقتهما بسبب مخاطر الرحلة وما تتطلبه من مبالغ مالية كبيرة عجزا عن دفعها كلّها مرّة واحدة.
يتصل زياد (اسم مستعار) بـ"العربي الجديد" ويقول بلهفة: "بإمكانكم أن تكملوا قصّتنا.. أمي وأخي وصلا". يردف: "لكن القضية تحرق القلب، وقد يحرمان من البقاء هنا".
يروي بحسرة عن المجهود الذي بذله منذ وصوله إلى بريطانيا من أجل تأمين المبلغ الكافي لجلب بقية أفراد أسرته: "عملت من السابعة صباحاً حتى الثانية فجراً، ولم أنفق أي قرش. كنت أتناول الطعام حيث أعمل، بغية جمع المبلغ المطلوب". يتابع: "لم أستطع أن أتحمّل أو أكمل العمل على ذلك المنوال لأنّني مريض، وأحتاج إلى إجراء عمليات جراحيّة بعد ما تعرّضت له من تعذيب في سجون سورية". ويتابع أنّ أسعار التهريب ارتفعت، حتّى عجز عن تغطية نفقات خاله فاضطر إلى تركه في مخيّم كاليه الفرنسي، في حالة نفسية سيئة.
يفسّر زياد صعوبة وحجم المسؤولية الملقاة على كاهله، كون أخيه لا يتعاون معه بتاتاً في دفع أيّ تكاليف. فالأخير يحاول تأمين المال لجلب زوجته العروس، التي اضطر إلى تركها خلفه. هي تنتظر بفارغ الصبر قبول طلبها بعدما رُفض في المرة الأولى.
وبسبب عجز زياد عن توفير المبلغ الذي ارتفع بشكل مهول ليصل إلى 10 آلاف جنيه استرليني (نحو 14 ألف دولار أميركي) على الشخص الواحد، أقنعه أحد المهرّبين بطريقة أخرى للسفر والوصول إلى منطقة كاليه الفرنسية على الحدود البريطانية. قبل زياد العرض على الرغم من خطورته، فالمطلوب ركوب والدته وأخيه في قارب مطاطي في البحر قد تقلبه الرياح في أيّ لحظة وتودي بحياتهما. صعدا إلى المركب، ورفضا الالتفات إلى الخلف. أرادا نسيان منزلهما الذي تحوّل إلى كومة من الركام، وتلك الليلة التي قلبت حياة العائلة رأساً على عقب، حين ألقت عناصر تابعة للنظام القبض على زياد وأخيه، وذلك الألم الذي فتّت قلب أمهما ودفع والدهما الذي توفي في مصر بعيداً عن عائلته ساعياً لإنقاذها.
عندما وصلا إلى الدنمارك، ألقت الشرطة القبض عليهما. طلبت منهما البصم لكنّهما رفضا وقاوما حتّى رضخا في نهاية المطاف، بعد تدخل أبناء جلدتهما من الناطقين باللغة العربية، الذين أجبروهما تحت وطأة التهديد بالضرب وعلى مرأى من الشرطة التي لم تحرّك ساكناً بحسب أم زياد، حتى حين دفع أحد المترجمين مراهقة سورية بقوّة إلى الحائط بعدما رفضت البصم، وراحت تبكي فتوسلتها والدتها أن توافق وتبصم.
أثار ذلك المشهد الرعب في قلب أم زياد وابنها. مع ذلك، حاولا عدم الاستسلام. لكنّ المترجمين تمادوا في كذبهم حتى قالوا لهما، إنّهما إن امتنعا عن البصم سيُتّهمان بتفجيرات باريس والتعامل مع الإرهاب، وأنّ تلك البصمة جنائية ولن تؤثّر على طلب لجوئهما في بريطانيا إطلاقاً.
في منطقة كاليه، وبعد أشهر من المعاناة، دفعت أم زياد للمهربين المال الذي جمعته من بيع مجوهراتها في تركيا لتكمل المبلغ المطلوب لعبور الحدود إلى بريطانيا في الشاحنة. هناك جلست وحدها بالقرب من البضائع منزوية ومرتعبة على أمل لقاء ولديها.
كلّ تلك المآسي والمخاطر التي واجهتهما راحت سدى، بسبب خداع المترجمين. وبات قبول طلب لجوئهما في بريطانيا شبه مستحيل. يقول زياد: "اتضحت الحقيقة حين توجّه أخي إلى وزارة الداخلية لتقديم طلب لجوئه، وتجنّب ذكر أي شيء عمّا جرى في الدنمارك، وذلك وفق نصيحة بعض الأصدقاء الذين أعلموه أنّ بصمته قد لا تظهر لوزارة الداخلية البريطانية. ولم تمض فترة حتى جاءه الرفض والسبب تلك البصمة بالذات".
وحين جاء موعد الوالدة للذهاب إلى الوزارة قررت أن تقول الحقيقة كاملة، أملاً في تغيّر مجرى الأمور أو تحريك إنسانية أولئك الذين سيقررون مصيرها. روت بصراحة وشفافية كلّ ما حدث خصوصاً تزوير المترجمين الواقع. لم يصدر قرار الوزارة بعد، بينما يتخوّف زياد من رفضه، على الرغم من حصولها على البطاقة الأولية التي تعطى لطالبي اللجوء للتعريف بهويتهم. وتنتظر أم زياد، مقابلتها الثانية التي تمتد عادة لساعات من التحقيق والاستجواب، مع عنصر من وزارة الداخلية للبت في طلبها.
زياد كغيره من طالبي اللجوء واللاجئين، لم تنته مشكلته بالوصول إلى بريطانيا كما قد يعتقد البعض، فهو يعاني من مشكلة السكن وغلاء المعيشة، خصوصاً بعد وصول والدته وأخيه. يقول إنّهم يعيشون جميعهم في غرفة واحدة وسكن مشترك، ويتعيّن على والدته المحجبة، أن ترتدي كامل ثيابها كلّما أرادت التوجّه إلى المطبخ أو المرحاض.
لم يفقد الأمل في تغيّر الظروف، وجلّ ما يرجوه أن تحظى والدته بحقّ الإقامة: "ليت أمّي على الأقل تبقى". يناشد من يستطيع مساعدته قانونياً في هذا السبيل.