الشمس حارقة ظهيرة هذا اليوم. يحاول الصغير الاحتماء من حرارتها، تحت فَيء شجرة سنديان يابسة. هو غير قادر على بلوغ ظلّ شجرة الخوخ الوارف. الحبل الذي ربطته به والدته، قصير المدى. فيضع يدَيه على رأسه، لعلّه ينجح في صدّ بعضٍ من ذلك القيظ الذي يخترقه. عبثاً.
ويدور حول نفسه. ربما إذا استمرّ في الدوران، يُغمى عليه مثلما حصل عندما كان يلعب مع ابن الجيران، قبل أن تمنعه والدة الأخير من الاقتراب منه. لكن الحبل المربوط عند وسطه، يعيق حركته. وكلما دار أكثر حول نفسه، راح يقترب من عمود الإسمنت حيث رُبط طرف الحبل الثاني.
ويرجع إلى فَيء شجرة السنديان اليابسة. لا يعرف كم من الوقت مضى على غيابها. لكنه يرجو الله أن تعود سريعاً. يرتجف. ثمّة شعور غريب ينتابه. لم يعد يقوى حتى على التمنّي. وينزف من أنفه قبل أن يخرّ أرضاً، فاقداً وعيه.
تحقّقت أمنيته. لن يشعر بطول الوقت وهو مغمى عليه. ابن الجيران كان قد أخبره بأن ساعات قد تمرّ قبل أن يستعيد الإنسان وعيه. هكذا تعلّم في المدرسة.
بدأت الشمس تهمّ بالمغيب. تصل الأم إلى فناء منزلها الخلفيّ وتصرخ بالصغير ليستيقظ، قبل أن تنهال عليه ضرباً وقد رأت بقع الدم على قميصه القطنيّ الأزرق.
لا تفسح له المجال ليشرح لها ما يشعر به. يبكي. فيتلقى صفعة على فمه. يبتلع دموعه ومخاط أنفه الذي كان يسيل وقد تلوّن ببعض أحمر، ويلتقط بعض أزهار بريّة كان قد قطفها قبل أن يُغمى عليه.. بنفسج وأقحوان أصفر ومريميّة.
هي ذبلت، لكنه يصرّ على تقديمها إلى أمه في حين راحت تفكّ الحبل. تأخذها منه قبل أن ترميها فوق كومة من العيدان اليابسة، كانت تكدّسها بالقرب من الموقد لتسخين المياه.
في ذلك اليوم الحار، قبل نحو 27 عاماً، كان الصبيّ في السادسة من عمره.
هو ما زال يتذكّر تفاصيل ذلك اليوم الصيفيّ بأدقها، لا سيّما تلك الدعسوقة التي أخافته، فتعثّر مرّات عدّة وهو يحاول إبعادها عنه صارخاً "يا ماما!". كأن الأمس لا يملّ إيراقه.
ويستمرّ في إيراقه. فيشعر بكره شديد تجاه الربيع. جميع رفاقه يحتفلون بأمهاتهم في مطلعه. لكنه يُلصق شعوره هذا، بالحساسيّة الموسميّة. ويشعر بكره شديد تجاه فيروز. ابن الجيران لطالما ردّد أغنيتها "أمي يا ملاكي"، التي تعلّمها في المدرسة. لكنه يُلصق شعوره ذاك، بصوتها الذي لا يستأنسه.
أمه ليست ملاكه. أمر سلّم به منذ زمن بعيد، وإن في سرّه. لكنه لا يدرك أنه يرزح تحت ثقل دَين وهميّ - بحسب توصيف علم النفس - تجاهها. هي منحته الحياة.. وهو يحضر لها الأزهار في كلّ عيد أمّ.