ليلة رأس السنة السورية

04 يناير 2017
+ الخط -
مع إعلان وقف إطلاق النار الذي ضمنته روسيا وتركيا في سورية، وبعد الوعود التي تلقاها الشعب السوري بالنية على التفاوض بين النظام وسبعة فصائل مسلحة تمثل المعارضة، متجاهلةً باقي الشعب السوري وما يريد ويتمنى، خصوصاً أن عاماً انطوى بمرارته، وآخر جاء يحمّله الناس رغباتهم وأمانيهم. ومع الهدوء النسبي الذي عمّ معظم الجبهات، فتحت جبهاتُ جديدة في الأماكن التي يمكنها الاحتفال بليلة رأس السنة، كما بمناسبات أخرى، منها "الانتصار" الذي تحقّق ميدانياً في حلب، والذي كان ضحيته سقوط أبرياء مدنيين كثيرين، وتهجير الآلاف، وهدم الأحياء وما تلاه من ظاهرةٍ ازدهرت على هامش الحرب، أي "التعفيش" الذي يمارسه من كسبوا المعركة، فظنوا أنهم كسبوا الحرب والمستقبل.
في المناطق التي تخضع لإدارة النظام، حيث لا معارك، ما خلا بعض السيارات المفخخة أو الصواريخ التي يمكن أن تلقى على بعض المناطق، فتحصد أرواحاً بريئة أيضاً، كان هناك مهرجانٌ للعنف والموت، بادّعاء الفرح والاحتفال بقدوم عام جديد.
كانت أصوات الرصاص الذي انهمر كالوابل من السماء أكثر من ساعة، بل ربما ساعتين، وحدها كفيلة بإخراس أي صوت آخر، زهقت أرواح عديدة جرّاء هذا الرصاص الطائش الغادر، أعطبت آلياتٌ لا يمكن حصر عددها، هشّم زجاج كثير. كان مهرجاناً للاستعار المجنون الذي لا يمكن أن يناسب أي ادّعاء فرح أو احتفال، بل كان دليلاً دامغاً على الانحدار الرهيب نحو الغرائزية المدمرة لدى مجتمعٍ انتزع منه أغلب ملامحه الإنسانية، فلم يبقَ في وعيه أو ضميره مكان للمنطق أو الرحمة أو الإحساس بالحياة.
هي فرصةٌ لاستخدام السلاح. السلاح المتروك بين أيادٍ يدغدغ مشاعرها التي حقنت بما يكفي للتعبير عن حالةٍ وجوديةٍ متنازع عليها، إما نحن أو هم، فمن لم يستطع استخدام سلاحه في جبهة قتل، وبقي يتفقد جدارته، ويصونه طوال هذه المدة، كان لا بد أن يفرغ شحناته العاطفية بادّعاء الفرح والاحتفال. صار السلاح متوافراً في سورية أكثر من السلع الحياتية، ليس فقط
منذ ست سنوات، ومع بدايات انتفاضة الشعب السوري، بل منذ عقود، سلعة رائجة في سوق التهريب التي كان لها أمراؤها المحميون بغطاء منيع من أركان النظام، أو ممن هم في السلطة، على الرغم من تقييد حيازة السلاح بالقانون، إذ لا يمنح السلاح الشخصي إلا بموجب ترخيصٍ يمنح للشخص بموجب بنود قانونية ومعايير تحدّد من يمكن له حيازته، إلا أنه بات متوافراً بسهولة، فكل الأفراد والعناصر المشتغلين بالأمن، على مختلف فروعه، وفي الشرطة والجيش، وكل الملحقين بهم في الظل كانت في حوزتهم أسلحة يفترض استخدامها فيما يتعلق بضرورات الوظيفة، لكن السلاح كان مثل غيره من لزوميات العمل الوظيفي، أو الواجب الوطني، اجتاز الحد الفاصل بين العام والخاص، مثلما كانت السيارات الحكومية تستخدم للخدمة الشخصية والمشاوير الخاصة وخدمة المنازل، صار السلاح أداةً شخصيةً يستعمله حامله في كل لحظات هيجانه الانفعالي، بل صار وسيلة تباهٍ وتفاخر بالسطوة والسلبطة، واستغلال الناس بحكم القوة والقدرة.
ازدهرت تجارة السلاح في السنة الأولى لانتفاضة الشعب السوري، مواكبة للقنابل الدعائية التي فجرتها كل المنابر الرسمية أو غير الرسمية، فالإشاعة من أهم المنابر التي تصنع الرأي العام والمواقف العامة، عندما بدأت الطوائف تشعر أنها مستهدفة، طوائف مستهدفة من النظام ومواليه وحلفائه، وأخرى مستهدفة من المسلحين القادمين بمشروع إقصائي يقوم على العنف، ورسالته القضاء على الكفار، ومن لا يشبهونهم. وصار السلاح متاحاً بشرعيةٍ يضمنها واقع أقوى من قانون منتهك منذ عقود، والسلاح أداة ستستعمل بمجرد توفرها بين الأيدي، فكيف إذا كان توفرها مرافقاً لحالةٍ كما التي وصلت إليها سورية؟
مع هذا التحول الدراماتيكي للواقع السوري، انحدر عيد رأس السنة، بكل تسمياته، إلى قاع العنف، فقد هويته التي كانت جزءًا أساسياً من هوية الشعب السوري التاريخية التي تميزت بالقدرة على الاحتفال بالحياة. قديماً كانت هناك طقوسٌ محليةٌ تخص مناطق عديدة في سورية، هي خليطٌ بين عادات وشعائر دينية ضاربة في القدم، مرتبطة بالميثولوجيا الغزيرة التي تتميز بها المنطقة، فهناك "أكيتو" رأس السنة عند الأكاديين والبابليين والآشوريين والكلدانيين الذي يقع في اليوم الأول من شهر إبريل/ نيسان، ويستمر اثني عشر يوماً. وهناك عيد النيروز الذي يعتبره الكرد اليوم الذي انتفض فيه الأكراد تحت راية كاوه الحدّاد ضدّ الملك الضحّاك. جرت العادة في الريف الساحلي أن يتم الاحتفال بعيدٍ يوافق رأس السنة الميلادية، بحسب التقويم الشرقي، يدعى عيد القوزلي، يصادف في الرابع عشر من يناير/ كانون الثاني. وكان لكل أسرة أن تربي جدياً لهذه المناسبة، حيث تجتمع العائلة مساءً، وتبدأ السهرة في ليلة الثالث عشر منه، يتزاور الناس، ويعقدون سهرات الغناء والطرب.
كانت معظم هذه الأعياد الضاربة في القدم في تقاليد السوريين مناسبة للاحتفالات الجماعية التي
تظهر أنماطاً من الروح الجمعية المتكافلة التي تصنع الفرح، وتجدّد الهمة والنشاط، كما كان يشارك فيها كل الساكنين، ولا تخلو من العرض الجميل لكل أشكال الفعاليات الحياتية، والتراث الغنائي والفولكلوري، حتى الأزياء كانت لها هويتها، وإذا اتخذت بعض هذه الأعياد معنىً قومياً، مثلما هو النيروز لدى الكرد أو الأكيتو لدى الآشوريين، وغيرهم ممن يحتفلون به، فإنها لا تخلو من روح الطبيعة أو الروح الفلاحية التي تعود إلى البدايات التي انتهج فيها إنسان هذه المنطقة الزراعة، وتوطدت علاقته الوجدانية والروحية بالأرض والطبيعة، خصوصاً بالنسبة إلى عيد القوزلي الذي يعتبره بعضهم خطأً عيداً دينياً لدى الطائفة العلوية، بينما هو عيد فلاحي شكل ركناً من الهوية التاريخية.
لم يكن السلاح حاضراً إلّا في القرى المتناثرة البعيد عن بعضها بعضاً، كإعلان عن وقوع وفاة، أو قيام عرس لعدم توفر الرسائل السريعة التي توصل النبأ في وقت كان الناس فيه يجتمعون على الفرح والحزن. صار السلاح اللغة الوحيدة التي يجب أن تعبر عن الاحتفال في هذه المناسبات، خصوصاً عيد رأس السنة الميلادية، باعتباره عيداً يشترك العالم كله فيه، وعلى مظاهر الفرح الأخرى، أو لغاته، أن تخرس، مثلما خرست أصوات الشعب المنادية للحرية، منذ ما يقارب السنوات الست أمام صوت الرصاص والسلاح.
كانت ليلة رأس السنة مناسبةً جماعيةً تشيع جو الفرح والبهجة، وتضرم مشاعر العفو والغفران والتسامح، كما يضمر الأفراد فيها نياتٍ إيجابية واعدة ببدايات جديدة وتجاوزات لعثرات الماضي ما أمكن. ولم يكن هناك تمييز في هذه المناسبة بين الطوائف، فقد اكتسب هذا العيد معنىً وجودياً إلى حد كبير. لكن، مثلما كان المدنيون ضحايا الاقتتال في سورية، كانوا أيضاً ضحايا هذا الاحتفال العنيف، بعدما أخرس الرصاص صوت الفرح، وشحّ عدد السفن الراسية في المرافئ التي كانت تطلق أبواقها في مظهر احتفالي بهيج عند الثانية عشرة ليلاً. وأضيفت إلى المناسبة أسباب أخرى لإعلاء صوت الرصاص، مشاعر الانتصار في التحرير، تحرير حلب، حتى لو كان الثمن سقوط الوطن، وسقوط مواطنين أبرياء، هم إخوة في وطنٍ، لطالما ردّدت أجيالٌ، بشكل أجوف، شعارات التغني به وبالوطنية والقومية.
كان رأس السنة الجديدة في سورية دامياً، فقد حصد الرصاص أرواحاً عديدة، كانت تريد أن تفرح ليلة واحدة، فكان لعربدة الرصاص الأولوية. هذه سورية التي لم تعد "مفيدة".

دلالات