منذ أسبوعين والمسرح ممتلئ كل ليلة تقريباً، لقد تم تمديد العرض أيضاً، إنها مسرحية لينا أبيض "ألاقي زيك فين يا علي". يتجمهر المتفرّجون على الباب، بعضهم يقترب لتهنئة المخرجة وهي واقفة بثيابها السوداء وشعرها الأحمر المجعد، مسرورة دمثة ومسترخية. هذه ليست الصورة التي في رأس أي منّا عن المخرجين.
القصص تحدث لأنها تريد أن تصل. من حق الحكايات أن تبلغ غايتها، ومن حق الناس أيضاً أن يخبروا حكاياتهم، هكذا ترى أبيض الأمر، وتقول "ما إن أسمع قصة حتى تتسرّب إلى رأسي ثم تكبر وتكبر".
عقلها خشبة مسرح، ونحن إذ نُخبِر أمامها نعتلي هذه الخشبة اللامرئية ونقول. هذا ما حدث مع رائدة طه، ممثلة "ألاقي زيك فين يا علي" التي تروي أجزاء من حياتها على خشبة "بابل" في بيروت حالياً. وهذا أيضاً ما حدث في مسرحية "هيدا مش فيلم مصري" حيث نساء معنّفات قدّمن شهاداتهن العام الماضي.
هل يمكن تسميته مسرح الواقع؟ يعود الناس إلى ذكرياتهم ليحولوها إلى عمل فني، إنها حالة فريدة من الافتتان بالحكاية، ليس من قبل المخرجة وحسب، بل إنّ صاحب الحكاية المؤلمة مفتون بها أيضاً، ولولا ذلك لما كان قادراً على ممارسة التكرار العنيف لتفاصيل مريرة صاغت حياته عرضاً بعد عرض.
يخطئ من يعتقد أن مسرحيات من هذا النوع ملك لمن يحكيها فقط. صحيح أن رائدة مثلاً تقف على الخشبة وتخبرنا ما حدث لها بعد استشهاد والدها علي طه 1972، لكن أبيض توضّح: "لا شيء مرتجلاً في المسرحية، ولا لحظة واحدة. لا يوجد تفصيل عفوي ولا ارتجالي، حتى حين تتكلم معي رائدة وهي تمثل، وأنا جالسة بين الحضور، لتسألني عن المقطع التالي. كل شيء مدروس وبقرار".
وهذا يتضح حين نعرف أن الإعداد للنص، الذي كتبته رائدة طه، استمر عامين، ما بين حذف وإعادة وتكرار وتمكين لأحداث واستبعادٍ لأخرى. "رائدة صديقتي منذ خمسة أعوام، وكانت تحكي لي عن حياتها، وكنت أشعر بأنها ما زالت لم تتقبل، بعد أكثر من أربعين عاماً، استشهاد والدها. ومع تقليب حكايتها، ظهرت لحظة العنف الجسدي الذي تعرّضت له، وللحظة تبين أن محاولة الاعتداء عليها أشعرتها بفظاعة اليتم".
غابت الشهادة وحلّ يتم الابنة وترمّل الزوجة وحداد الأخت على الخشبة. إنه عنف مركّب ضد ثلاث نساء، تأتي أبيض وتكشف الجزء الذي نتناساه في سبيل إيجاد بطل، متناسين أن صناعة البطل عملية لها ضحاياها.
مفاتيح مسرح أبيض ثلاثة، الذاكرة والعنف والمرأة، نسألها إن كان ذلك دقيقاً فتؤكد مضيفةً: "العنف الموجّه ضد المرأة هو الأخطر، لأنه عنف ذو بعدين: اجتماعي وسياسي، يعطب الكل. أنظر دائماً إلى المجتمع كحلقات، والمرأة هي الحلقة الأكثر تضرراً، وأعتقد أنها لو نجت سينجو الجميع معها".
من هنا نجد أبيض وقد قدّمت "إلكترا" التي حملت ذاكرة الأب، و"سجن النساء" المقتبسة عن عمل نوال السعداوي، و"منمنات جزائرية" التي قالت فيها الكثير عن عنف الحرب على المرأة.
رصيد المخرجة اللبنانية إلى الآن ثلاثون عملاً مسرحياً اشتغلت خلالها مسرحاً من الكلاسيكيات الكبرى، مثل "أنتيغون"، مروراً بمسرحيات معرّبة، مثل "العميان" للبلجيكي موريس ميترلينك، ونصوص اقتبستها من أعمال ليوسف الخال وغسان كنفاني.
تعمل لينا أبيض حالياً على مسرحية مع الشابة الأردنية آمال خوري عن المتحولين جنسياً. قُدّمت قراءات من العمل في بيروت ونيويورك، حيث ستعرض في نيسان/ أبريل المقبل. عن هذه التجربة تقول أبيض: "تفاعلَ الناس مع القراءات التي كشفت حجم التحدي في قرار أن يغير الإنسان جنسه. إنها مسألة تفتيش عن الوجود، كل إنسان يقضي حياته وهو يفتش عن ذاته".
تحب مخرجة "حبيبتي ارجعي ع التخت" و"عائد إلى حيفا" حالة البداية المستمرة. في كل نص تعيد إنتاج أدوات المخرجة في داخلها، وتشحذها ثم تعمل كأنه أول نص ستقدّمه. من بين مسرحياتها، تذكر "العميان" التي أحبت فيها قوة النص، و"عائد إلى حيفا" التي تستدعي تهافت الجمهور على العرض وتفاعلاً لا يتكرر كثيراً. لكنها بشكل خاص تذكر عملها "الديكتاتور" (2012)، وتستعيد بحماس حضور الممثلتين عايدة صبرا وجوليا قصار: "مع عايدة وجوليا كان كل يوم درساً في المسرح. كانتا تقومان بمفاجآت تدهشني أثناء العرض".
هذه المسرحية التي تبدأ باتصال تلفوني: "ألو، أمر من حضرة الجنرال. اعتقلوا الشعب. عاشت الثورة"، اقتبستها أبيض من نص "الجنرال" للكاتب المسرحي اللبناني عصام محفوظ. جعلت أبيض من بطلي المسرحية بطلتين؛ المستبد هنا هو امرأة.
تأنيث النصوص ومفردات المسرح هو أيضاً أحد ميزات عمل لينا أبيض. إنه خيار "التمييز الإيجابي" الفني لصالح الإنسان المهمّش فينا. "أحب النحت في القصص، الزخرفة. لا أقصد الباروك طبعاً، بل بناء منمنمة مسرحية تصبح محفورة في الذاكرة ما أن تتحقق على الخشبة". تختم الحديث، فنشعر أن الإخراج والكتابة شوكة وسكينة في يديّ لينا أبيض تقطع بهما الحكاية ولا تأكل وحدها، بل تطعمنا معها بسخاء من الحلو والمرّ.