مآلات ومسارات في ساحات عربية
المخاض الذي تمر فيه المنطقة العربية، منذ نهاية عام 2010 ومطلع عام 2011، يبدو معقداً وعسيراً وطويلاً، في وقت انتظرنا أن يزهر هذا الربيع سريعاً، لأن خريف المنطقة طال أكثر مما ينبغي. فاجأنا التاريخ بأنه يدير مساراته عبر التواءات وانحناءات، لا تعترف بآمال البشر ورغباتهم، إنما تعترف بالوقائع العنيدة. فالربيع الذي اعتقدنا أنه أزهر، في بلدن الربيع العربي، سرعان ما انتكس إلى خريف جديد، فالبلدان التي مسها الربيع العربي لا تزال تعبر هذه الالتواءات التاريخية، حتى الحالة التونسية التي تبدو الحالة الأكثر تبشيراً بالنجاح، هناك قلق عليها من الانتكاس.
يمكن الاعتراف بأن ما يجري في بلدان الربيع العربي انتكاسة لم يتصورها حتى أكثر المتشائمين، لكن هذا التشاؤم لم يعد في إطار الممكن، بل بات واقعاً قائماً في هذه البلدان، الحالات السورية والليبية واليمنية دخلت في صراعات وصدامات دموية داخلية. وانتكست الحالة المصرية إلى مصادرة التجربة بانقلاب عسكري، وكان حكم العسكر موارباً في أثناء الثورة، وبعدها أدار البلاد فترة انتقالية، ثم سلمها إلى حكم مدني نظريا، لكن، بقيت السلطة، فعلياً، في يد المؤسسة العسكرية، وجاء الانقلاب ليمظهر هذه السيطرة على مقدرات السلطة، وليعزل رئيساً منتخباً، لم يحكم فعلياً، بل كانت المؤسسة العسكرية نفسها فاعلاً رئيسياً في تعطيل قدرة مؤسسة الرئاسة على الحكم، في أثناء حكم الرئيس محمد مرسي، بصرف النظر عن كل الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها جماعة الإخوان المسلمين في أثناء وجود محمد مرسي في منصب الرئيس. لم يكن الانقلاب العسكري في مصر فعلياً على حكم "الإخوان" فحسب، بل كان انقلابا على الحالة السياسية التي أفرزتها ثورة 25 يناير، أي أنها انقلاب على التجربة الديمقراطية الوليدة التي جعلت لصندوق الاقتراع فعالية في التأثير على نتائج الانتخابات بالفوز والسقوط، وهي تجربة لم يختبرها المواطن المصري في الانتخابات السابقة، والتي لم يكن يشعر بأن صوته يشكل فرقاً، لا في انتخابات رئاسة ولا في انتخاب برلمان.
في الحالة اليمنية، وبعد انتخاب عبد ربه منصور هادي رئيساً انتقاليا، خلفا للرئيس علي عبد الله صالح، تبين أن اليمن تقف في مكانها ولا تتحرك، والرئيس الذي أجبر على الاستقالة، بفعل احتجاجات الشارع، بقي في البلاد يلعب في مصيرها، وكان مستوى تأثيره كبيرا، وانتقم من خلفه ومن اليمن بالتحالف مع الحوثيين، وساهم في اندفاعة الحوثيين في احتلال المدن اليمنية، وصولاً إلى صنعاء، ما أدخل اليمن في متاهة جديدة، لا أحد يعلم أين ستذهب بها.
وفي سورية، ما زال الصراع مع نظام استبدادي وحشي، استعصى على الإسقاط، ليس بعوامل خارجية فحسب، بل وبعوامل داخلية أيضا، حيث دفع الصراع إلى مآلات مسلحة، جلبت تدخلات خارجية، ومقاتلين جوالين جهاديين، إلى ساحة صراع باتت مفتوحة على كل الاحتمالات. وهو وضع يختلف عن ليبيا التي ولدت فيها الصراعات والصدامات المسلحة بين الفصائل الليبية نفسها، وبينها وبين بقايا النظام السابق، بعد إطاحة نظام معمر القذافي، ولكن كلا الحالتين دخلتا في صراع دموي مرير.
كيف يمكن النظرة الى كل هذه التجارب بمجملها، هل صحيح ما يردده معادو ثورات الربيع العربي وكارهيها، أن هذه الثورات جاءت بالخراب للمنطقة، وأن الوضع قبلها كان أفضل، وبات الوصول إلى ذلك الوضع، الآن، حلماً يستحيل الوصول إليه؟
لا شك في أن هذه الإجابة تبسيطية، بالنظر إلى تعقيدات الواقع العربي، كما ظهر بعد ثورات الربيع العربي، وكأن ما يجري، اليوم، مفصول عن استبداد مديد، ما زالت آثاره تنخر جسد الدول العربية. إن واحدة من أهم ما جاءت به الثورات العربية أنها كانت كاشفة مستوى الخراب الذي حل في المنطقة. وبفعل الاستبداد الطويل والجائر، وبفضل هذه الثورات، اكتشفنا ونكتشف أن الاستبداد المديد في المنطقة لم يدمر السياسة والحياة السياسية فحسب، بل دمر المجتمع أيضاً، الذي يظهر، اليوم، عاجزاً عن النهوض بفعل جرائم مديدة، ارتبكت بحقه عقوداً. ونكتشف، اليوم، أن هذا النوع من الاستبداد كان أكثر تدميراً من أنظمة أخرى. الاستبداد في أميركا اللاتينية، على سبيل المثال، التي استطاعت مجتمعاتها أن تتماسك، وتجد طريقها بعد الخلاص من السلطات المستبدة. نعم، ما كشفت عنه ثورات الربيع العربي أن الخراب الذي أصاب هذه الدولة أعمق من كل تصور سابق، وكان هذا الخراب مغطى من هذه الأنظمة بأكاذيب لم تصمد عند أول تحدٍّ، فانكشفت الأكاذيب عن واقع خراب بالغ المرارة.
اليوم، تقول كل المؤشرات إن هناك تحالفاً غير معلن، بين أطراف كثيرة، داخلية وخارجية وإقليمية، لإفشال هذا المسار في المنطقة العربية، وإذا كان الجميع يتفق على هذا الإفشال، فإن أسباب كل طرف مختلفة عن الآخر. ومن بين المجمعين على إفشال الربيع العربي، أطراف سياسية تقف على طرفي الانقسام في المنطقة، حتى دول تدعي أنها تدعم الربيع العربي، لكنها فعليا تدفع إلى فشله، خوفا من انتقاله إلى دولها، في حال شكل نموذجا يحتذى.
لم تنته معركة المجتمعات العربية للوصول إلى ربيعها، فما جرى يؤسس، فعلاً، لربيع عربي، وينقل المنطقة إلى مسارات تستحقها من الحريات، وامتلاكها مصيرها الوطني. ولأن هذا ليس المصير الوحيد المحتمل، ولأن مسار التغيير دخل في مسارات متعرجة، وهو ما يجعل معركة الربيع العربي أكثر تعقيداً وأطول مساراً، لكن خيارات الديمقراطية والحريات هو الخيار الوحيد، في مواجهة الاستبداد والقوى الظلامية، وما دون ذلك الكارثة، وتكريس الدول العربية بوصفها دولاً فاشلة، مصيرها أفغانستان معممة.