مؤسسة رئاسة الحكومة المغربية
في مثل أوضاعنا السياسية اليوم، من الأفكار الأساسية التي ينبغي لنا التعامل معها بعناية شديدة، عبارة الباحثين دارون أسيموجلو وجيمس أ. روبنسون في كتابهما "لماذا تفشل الأمم؟":
"الأمم ما زالت قادرة على أن تتمسك وتستفيد من المراحل الدقيقة، وأن تكسر القالب المتبع لكي تصلح مؤسساتها وتسلك مسارا آخر نحو مزيد من الازدهار".
فالأهم في كلامهما هنا، أن مقياس المرحلة الدقيقة ينطبق على ما تعيشه منطقتنا اليوم، وعلى ما يعيشه المغرب تحديدا، ولهذا – نقرر قاعدة - كل فعل سياسي يقوي مؤسساتنا ويزيد من انزياحنا نحو الديمقراطية، لا بد من تثمينه، وتبيين عناصر تأثيره على مستقبلنا القريب قبل البعيد.
لذلك، فعندما نجد من يحترم مؤسسة رئاسة الحكومة من الداخل، ويحترم عبرها اختيار المواطنين، فهذه نقطة تحسب لتقدمنا، لا بد من التركيز على الاحتفاء بها وتقديرها، بعيدا عن كل الأوهام الأيديولوجية العمياء.
لهذا، كان الكثير من الباحثين والفاعلين السياسيين الشباب محقين في اعترافهم بقيمة ما قدمه الأستاذ بنكيران لهذه المؤسسة، باعتبار هذا الفعل إسهاما في إعادة التوازن النسبي بين السلطات، والتوازن بين المؤسسات التي تستحوذ عليها داخل المغرب تاريخيا.
إلى جانب ذلك، فبنكيران وانسجام حزبه (العدالة والتنمية) أسهما كفاعل سياسي ذكي لحدود الساعة، في توطين هذا المكتسب، دون أن نغفل عامل شخصية الرجل الفريدة، والأكثر قدرة في الانسجام مع تقاليد السياسة المخزنية في هذا البلد، لذا، فعندما نقرر بأن المرحلة دقيقة، فإن ظهور مثل هذه الشخصيات السياسية فيها عامل لا يمكن إنكار دوره المركب في ترشيد تحولنا الديمقراطي، وليس ذلك من باب الإطراء والمزايدة في شيء.
المحزن في الصورة، أن بنكيران كرجل دولة، لم يقدم عبقرية سياسية ما، أو يقدم حلولا تاريخية لما يعيشه المغرب من مشاكل. واضح أن الفراغ السياسي القاتل واضمحلال الفاعلية والقناعة الإيديولوجية عاملان جعلا من مواقف بنكيران كلها، تظهر بصورة الاستثناء والغرابة، لكثرة ما ألفناه من فساد وتخلف وهامشية مقصودة تجاه كل فعل ومؤسسة سياسية داخل هذا البلد.
لا ينبغي أن يفهم من كلامي التقليل من قيمة نزاهة الرجل، وفعاليته، وتواصليته، ووطنيته التي أعاد لها رنينها السياسي مجددا، لكن ينبغي النظر لواقعنا السياسي من منظار الراغب دائما في تفعيله، وضخ الحياة فيه بنسب أكبر، والنظر إليه بمنظار الربيع الديمقراطي وأفقه السياسي الراهن.
من المخلفات الإيجابية للمرحلة السابقة من تاريخ الحكومة، والتي لن نفصلها عن مسار بنكيران وقوة الديمقراطية الداخلية لحزب الإسلاميين، وطبيعة تحولات المنطقة كذلك؛ تحولنا التدريجي نحو الفعل السياسي المريد للوضوح، وإن كانت تحركات الفاعلين ما زالت على وتيرتها التقليدية، لكن مجرد الرغبة في محاكاة هذا الوضع، من قبل هؤلاء داخل الساحة المغربية وعلى رأسهم المؤسسة الملكية، ينم عن انزياح نحو عنصر قوة يحسب لصالح دعم مؤسساتنا ديمقراطيا، وهو تقبل أولي/نسبي للفعل السياسي شبه الواضح، سيضع جميع الفاعلين السياسيين على محك الرقابة الاجتماعية الدائمة مستقبلا.
وهي نقطة استغلها بنكيران بذكاء، وكانت يده الطولى التي يمدها في كل لحظات التضييق الذي قد يواجهه.
من المخلفات الإيجابية أيضا، تقديم نموذج للزعيم السياسي بعيد عن صور المناضل التقليدية، وأقصد ذلك المناضل الذي يستميت في خطبه العصماء على لغة المبادئ، ويستميت عليها حزبه في الشعارات، لكن عند النظر للفعل السياسي نجده أبعد ما يكون عن الواقعية المطلوبة، ولهذا، فإن رصيدنا من الإحباط إزاء هذا النموذج الكلاسيكي من القناعات السياسية، ولى عهده، وأبانت لحظات فشلنا الطويلة عن ادعائه تحقيق ما هو فوق استطاعته.
لذلك، فموقف بنكيران من الملكية، وخرجاته المتتالية الكابحة لجماح غضب أعضاء حزبه، وغضب الشارع كذلك، وأحيانا تعليقاته على أحداث خارجية، تحمل من التوافقية الواقعية الشيء الكثير، وهو من ضرورات ما تقتضيه المرحلة بوضوح.
ولعل أبرز المخلفات الإيجابية - في اعتقادي - خروج الرجل مرفوع الرأس، وبرصيد سياسي مشرف سيخدم صاحبه، ويخدم مصالحنا الوطنية مستقبلا، وهي نقطة تحول لا تتكرر عند سياسيينا كثيرا.
ومن المخلفات الإيجابية أيضا تموضع المؤسسات السياسية الحاكمة في المغرب ولأول مرة في موقع ارتباك وريبة شديدتين، وللتدقيق أكثر؛ تموضعها في خانة تقرير المصير، الذي صرنا جميعا مدركين لمآلات التراجع عنه، فمرحلة ما سمي بالبلوكاج لا يمكن أن يخفى على الناظر ما طرأ فيها من تناوشات من جهات عدة، ليس من تفسير لها، إلا إدراك أطراف عديدة أن السلطة السياسية لا بد أن تحترم فيها التنافسية المتوازنة، تنافسية تعني توازنا في المصالح داخل الجسم المتحكم تاريخيا قبل الحديث عن الوافدين الجدد.
وهو وضع لم نألفه في المغرب قبلا، ولا ينبغي لنا تبخيس التأمل فيه بعناية، دون أن يعني ذلك عدم وجود الرغبة من طرف جهات متحكمة في الرجوع للوضع المريح سابقا (ما قبل 2011)، وهنا أمثال بنكيران وعلى اختلاف توجهاتهم وحدهم من يمكنهم كفاعلين سياسيين وطنيين نبهاء أن يسهموا في خروجنا من مراحلنا الدقيقة تاريخياً، بتحولات تخدم ازدهارنا الاقتصادي والسياسي وعلى مختلف الأصعدة، بدل أن نضيع الفرصة مجددا، وبدعم أكيد بشرطيات واقعية كالتي عاشتها المنطقة والمغرب ( خروج 20 فبراير).
إن المؤسسات هي ضامن الازدهار والتقدم للمجتمعات، وينبغي لنا أن نختار الازدهار دائما. المؤسسات تمنح لدولنا قيمتها عند المواطنين، عندما تحفظ على الأقل بعضا من حقوقهم، وتسهم بشكل تشاركي، لا تضيع فيه مصالحهم ضمن مصالح الكبار. يمكن أن نقول باختصار الدولة هي المؤسسات حينما تكسب مصداقيتها، والازدهار رهين من ثم بتطورها، لهذا ينبغي شكر من أعطاها القيمة المستحقة، ودافع عن دورها ومكانتها، والتفكير في الدور الذي ينبغي أن يشغله كل منا عندما يستوطن مؤسسة ما.