يواصل المؤرخ وأستاذ التاريخ المعاصر في جامعة تل أبيب شلومو زند، رغم التضييق الممارس ضدّه في اسرائيل وفي دول غربية، تفكيكه النظري للأساطير والخرافات التي اخترعتها الحركة الصهيونية وصارت أساس الدولة العبرية، ومنشأ سياستها الاستعمارية والعنصرية. فنّد زند القول بـ "الشعب اليهودي" و"شعب الله المختار". ووصف أسطورة "اليهودي المطرود من فلسطين"
* أود أن نبدأ هذا الحوار بالحديث قليلًا عن كتابك الأخير "أفول التاريخ"، الذي تُرجم مؤخرًا إلى اللغة الفرنسية وصدر عن دار "فلاماريون". توجه في الكتاب نقدًا لاذعًا للمؤرخين ولدور المؤرخ.
حاولت في هذه الدراسة أن أحلل تطور مهنة المؤرخ انطلاقًا من الحضارات القديمة ووصولًا إلى العصر الراهن، وركّزتُ على النموذج الأوروبي. كانت وظيفة التاريخ، لعدة قرون وفي كل الحضارات، خدمة النخب السياسية. وكان التاريخ يُكتب دومًا وهو يميل إلى جانب القوى المسيطرة. وبذا كان يشبه جنسًا أدبيًا يساعد الحكّام على صوغ رؤية للعالم. في أوروبا، وتحديدًا بعد نشأة الدولة القومية في القرن التاسع عشر، صار للمؤرّخ دورٌ أساس في صناعة التاريخ القومي، لأجل هذا، أصبح مادة أساسية في المؤسسات التعليمية. إذن، للتاريخ دور أساس في صناعة القوميات وتشكيل سردية وطنية مبنية على تاريخ جمعي وذاكرة مشتركة.
* لو انتقلنا إلى فلسطين المحتلة التي ما يزال فيها للتاريخ وزنٌ أو ثقلٌ كبيرٌ، خصوصًا في اللحظة الراهنة. يظهر هذا من أمور عدّة، نجد أنك في معظم كتاباتك عالجتها، إذ حاولت تفكيك الأساطير التي تأسست عليها دولة إسرائيل، خاصة أسطورة "الشعب اليهودي" التي كانت الحجر الأساس في خطاب الحركة الصهيونية.
لقد حاولت أن أشرح في كتابي "اختراع الشعب اليهودي"، كيف فبركت الحركة الصهيونية تاريخًا مزيفًا لليهود مبنيًا على فكرة الشعب اليهودي. وبيّنتُ أن هذه فكرة خاطئة وخرافة، تمّ استعمالها من أجل تبرير الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ومن أجل شنّ الحروب على الدول العربية.
أطروحتي في هذا الكتاب، أنه ليس ثمة شعبٌ يهودي بالمعنى المتفق عليه والرائج. ثمة أقوام يهودية مختلفة، وذات ثقافات مختلفة. والقاسم المشترك بينها، هو ممارستها للشعائر والطقوس الدينية نفسها. فالشعب بالمعنى الأنثروبولوجي والسوسيولوجي (الاجتماعي)، مصطلحٌ يُطلق على مجموعة بشرية تجمعها ثقافة مشتركة مثل؛ اللغة والأدب والموسيقى وما إلى ذلك من الشروط الثقافية الأخرى. وهذا ما لا ينطبق على الشعب اليهودي الذي اخترعته الحركة الصهيونية، إذ لا توجد ثقافة مشتركة بين يهود ألمانيا ويهود العراق أو المغرب، ما يعني أن الطوائف اليهودية كانت تعيش في كنف ثقافات وطنية مختلفة وفق البلد الذي تقيم فيه. من جهة أخرى، هناك شرط إضافي يحدّد مفهوم الشعب ويتمثّل في الانحدار من أصل واحد. وفي هذا الباب أيضًا دأب مؤرخو الحركة الصهيونية على ترويج خرافة أخرى، تقول إن فلسطين هي أرض اليهود، وأنهم اقتلعوا منها من قبل الإمبراطور الروماني تيتوس في سنة 67 ميلادية. لا أعتقد بصحة هذه الحكاية، إذ لا يوجد دليل تاريخي أو علمي مقنع، يسندها. خلاصة الأمر، إن الديانة اليهودية كانت أول ديانة توحيدية وتبشيرية. وقد انتشر اليهود في بلاد الرافدين وفي الشرق الأوسط وفي حوض البحر الأبيض المتوسط، وهذا ما يفسّر اعتناقها من قبل أعداد كبيرة. وبعد ظهور الديانتين المسيحية والإسلام، كفّ اليهود عن التبشير وانكفأوا على أنفسهم في كل المناطق التي كانوا يعيشون فيها. كذلك فإن الحركة الصهيونية أسست أسطورة "الشتات اليهودي" الذي يلتئم شمله في أرضه الأصلية فلسطين، وهذه أيضًا كذبة صارخة.
*لعلّ أطروحاتك هذه، سبّبت لك مشاكل كثيرة؟
نعم. لقد تعرضتُ إلى العديد من المضايقات وحتى التهديد بالقتل بعد صدور كتاب "اختراع الشعب اليهودي"، لكنني لمست أيضًا تضامنًا من كثير من القرّاء التوّاقين إلى قراءة التاريخ بصورة مغايرة، ونزع هالة القدسية عن المسألة اليهودية، وهذا أمرٌ يُثلج القلب. من جهة أخرى، مرتاح بسبب أن كتبي تلاقي رواجًا وتمّت ترجمتها إلى عدة لغات.
نحن نعلم بأن هناك أناسا في فلسطين المحتلة، ضاقوا ذرعًا بالسياسة الإسرائيلية العنصرية، ورغم أنهم قِلّة، إلا أنهم هم الأمل الوحيد المتبقي. على أي حال ليس لديَّ ما أخسره. لقد وصلتُ إلى مرحلة من العمر لا يهمني فيها سوى الدفاع عن أفكاري بكل الوسائل.
طبعًا، كان الهجوم عليّ متوقَّعًا، خاصة بعد صدور كتابي "لم أعُدْ يهوديًا" الذي شكّل صدمة للكثيرين. فأنا أعدّ نفسي إسرائيليًا من أصل يهودي، تمامًا، مثلما أن هناك فرنسيين من أصل يهودي، وأميركيين من أصل فلسطيني. لهذا قلتُ إنني لستُ يهوديًا، وأنا أعدّ نفسي علمانيًا وملحدًا. قلت هذا، لأن اسرائيل تعدّ نفسها دولة يهودية لا دولة لكل الإسرائيليين. أن تكون يهوديًا في إسرائيل، فإن ذلك يمنحك وضعًا امتيازيًا، وأنا أرفض هذا الامتياز الذي تمنحه لي اليهودية.
وقد حوربْتُ بقوّة هنا في فرنسا أكثر مما حوربْتُ في إسرائيل. وحتى عهدٍ قريب كانت وسائل الإعلام الفرنسية والمجلات المتخصصة وكبريات الصحف مثل "اللوموند" و"ليبراسيون" تقاطعني وتتجاهل أعمالي. كما اتُهمتُ بمعاداة السامية من قبل فرنسيين يهود وغير يهود، وهذا ما أثار استغرابي كثيرًا.
*يقودنا ذلك لسؤالك عن الساحة الثقافية الفرنسية، وبشكل خاص المثقفين الفرنسيين اليهود، أنت الذي عشتَ لفترة في فرنسا ودرستَ في جامعتها وخالطتَ مثقفيها.
شهدت الساحة الثقافية الفرنسية تراجعًا كبيرًا في العقدين الأخيرين. وأستطيع القول إنها تعيش مرحلة انحطاط. لقد ذهب زمن المفكّرين والفلاسفة والمثقفين الكبار والشجعان الذين كانوا يلمعون بأفكارهم الطليعية وبمواقفهم الملتزمة بحق الشعوب في تقرير مصيرها، ودفاعهم عن الأقليات. كوّنت نفسي وثقافتي من خلال قراءة ميشيل فوكو وجيل دولوز وجان بول سارتر وجورج سوريل وآخرين. طبعًا توجد اليوم أسماء راهنة تستحق الاحترام مثل إدغار موران وآلان باديو، لكنها أصوات نادرة ولا تأثير لها. الساحة الثقافية والإعلامية في فرنسا، محتكرة للأسف من قبل مثقفين سطحيين وتافهين. أنا مثلًا أشعر بالعار حين أقرأ لمثقفين من أمثال آلان فيلكينكروت أو إيريك زمّور. يترافق ذلك مع أمر آخر، فهناك هجوم غير مسبوق على العرب والمسلمين من قبل هؤلاء المثقفين، وهو هجوم يشبه كثيرًا عنصرية اليمين الإسرائيلي المتطرف. ألاحظ أن معاداة السامية التي كانت سائدة في مرحلة معينة في تاريخ فرنسا، تحوّلت الآن إلى موجة من العداء للإسلام يقودها قطيعٌ من المثقفين والكُتاب من اليهود ومن الفرنسيين، ويجاهرون بها في وسائل الإعلام بكل حرية، للأسف.
* نعم فقد صرّح مؤخرًا رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس في الحفل السنوي لمجلس ممثلي المؤسسات اليهودية في فرنسا، بأن "معاداة السامية ترادف معاداة الصهيونية". ما تعليقك؟
هذا تصريحٌ خطير جدًا. بالنسبة لي، فإن فالس كرجل سياسي يمثّل خطرًا كبيرًا على اليهود أنفسهم. فالخلط بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية، دليل على فقر فكري مدقعٍ وجهلٍ لا يليقان برجل يترأس حكومة بلاده. الفرقُ شاسعٌ بين اليهودية والصهيونية وهو أمرٌ غدا واضحًا للجميع ومنذ زمن طويل. لا علاقة لنقد الصهيونية وسياسة الاحتلال الإسرائيلي باليهود. وثمة يهودٌ كُثرٌ ينتقدون الصهيونية والسياسة الإسرائيلية ويطالبون بوقف احتلال الأراضي الفلسطينية، ماذا نقول لهؤلاء: أنتم أيضا معادون للسامية؟!.
ما قاله فالس وما يروِّجه مجلس ممثلي المؤسسات اليهودية في فرنسا (CRIF) لا يصُبّان في مصلحة اليهود بل، على العكس، يزيدان مشاعر العداء ضدّ اليهود، وهنا مكمنُ المفارقة. إنهم يتهمون العرب والمسلمين في فرنسا بمعاداة اليهود، بينما هم أوّل من يؤجج مشاعر العداء ضدّ اليهود، وذلك عندما يقولون بغباء شديد إن اليهودية معادِلة للصهيونية. أعتبر أن الذين ينتقدون سياسة إسرائيل ويدافعون عن حقوق الفلسطينيين، هم الذين يُسْدون خدمة كبيرة لليهود، ويساهمون في التخفيف من مشاعر العداء اتجاههم، لأنهم ببساطة ينتقدون الصهيونية الاستيطانية لا الديانة اليهودية.
* فلنعد إلى الاحتلال الإسرائيلي. كيف ترى الأفق السياسي في المنطقة، في ضوء جمود مفاوضات السلام، وإصرار إسرائيل على الاحتلال وممارسة الاستيطان؟
أنا متشائمٌ جدًا من الوضع بسبب الصعود المدوّي للنزعة العنصرية في الدولة وفي الجيش وفي المجتمع، وبسبب كل هذه القوانين الجديدة التي تصرّ على تصنيف إسرائيل كدولة يهودية دينية. وأعتقد أننا يجب أن نحلل راهن المنطقة منذ بداية الحركة الصهيونية الاستعمارية في القرن التاسع عشر. الاستعمار والاستيطان كانا وما يزالان وقود الحركة الصهيونية والدولة الإسرائيلية. يجب أن نعي أن الاستيطان لم يتوقف أبدًا في فلسطين منذ عام 1948. وحتى عند عام 1967 استمر الاستيطان الداخلي وكذلك التهجير من الأراضي التي احتلتها إسرائيل. وكان الشعار؛ "تهويد الجليل". وهو شعار وجد مزندة اليمين واليسار باستثناء الحزب الشيوعي. ولهذا السبب، لا يوجد مسؤول إسرائيلي واحد، لديه رغبة صادق في تقديم تنازلات للفلسطينيين من أجل السلام.
أنا مدافع عن حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم على حدود 1967 والانسحاب من كافة الأراضي المحتلة قبل الدخول في مفاوضات جدّية وحل مشكلة اللاجئين والاعتذار للشعب الفلسطيني عن كلّ الجرائم التي اقترفتها الصهيونية في حقّه. لقد قلت مرة في الجامعة الفلسطينية في القدس إن إسرائيل تشبه مولودًا ناتجًا عن عملية اغتصاب، وله الحق في أن يعيش رغم أنه ثمرة جريمة بشعة. فإسرائيل قامت على عملية اغتصاب للفلسطينيين وأرضهم من قبل يهود كانوا قد تعرّضوا للاضطهاد في بلدانهم الأصلية وليس في فلسطين. لا يوجد منطق يقول بأنّ حلَّ فاجعة ما، يتم عبر خلق فاجعة أخرى. ولكن، بعد ستين عامًا ونيف على ميلادها، فإن إسرائيل غدت واقعًا يجب القبول به. إذ صار هناك، مجتمع إسرائيلي، وثقافة وأدب وسينما إسرائيلية. أتوق إلى إسرائيل كدولة ديمقراطية وعلمانية، وليس كدولة يهودية تقصي كل من هو غير يهودي وتعتبره مواطنًا من الدرجة الثانية. أطمح إلى دولة لجميع الإسرائيليين، سواءٌ أكانوا يهودًا أم مسلمين أم مسيحيين أم دروزا. لا يمكن أن نعيش في الشرق الأوسط من دون عرب وفلسطينيين، ويجب علينا أن نفهم ذات يوم أنه لا مناص من هذا. وأقول لأولئك الذين لا يريدون عربًا بين ظهرانيهم: اذهبوا إلى الدول الغربية، لأن اسرائيل قائمة في أرض عربية. وحتى لو ذهبتهم أينما شئتم، فستجدون جاليات عربية تتمتع بحقوق لم تعطوها لهم أنتم في إسرائيل بعد أن اغتصبتم أرضهم.
* أفاد مركز "مدار" للدراسات الإسرائيلية في تقرير صدر مؤخرًا أن إسرائيل شهدت في العام الأخير، تحولًا باتجاه ترسيخ "دولة قومية يهودية واستيطانية"، وأن هذا التحول يسير باتجاه تبنّي قيم ترفع من شأن اليهودية القبْلية مقابل قيم المواطنة الليبرالية، وأيضًا ارتفاعًا ملحوظًا في مظاهر العنصرية. ما رأيك في هذه الاستنتاجات؟
أتفق طبعًا مع كل هذه الاستنتاجات. حاولت شخصيًا لفت الانتباه منذ سنوات إلى تنامي العنصرية والكراهية في مؤسسات الدولة والمجتمع الإسرائيلي الذي صارت غالبيته تكن حقدًا هائلًا للعرب. الخرافات التي أشاعتها الصهيونية في أذهان الإسرائيليين ومنها "الشعب اليهودي" كما ذكرتُ قبل قليل، وأيضًا خرافة "اليهود شعب الله المختار"، جعلت الإسرائيلي في قرارة نفسه، لا يقبل الآخر ويتعالى عليه، وهذا ما يحول دون مصالحة تاريخية مع الفلسطينيين. يجب على الإسرائيلي أن يعيد قراءة تاريخه وهوّيته وينتبه للخرافات والأكاذيب ويتصالح مع محيطه العربي. الجميع يعلم أن القوانين الإسرائيلية تمنع المرأة اليهودية من الزواج بغير اليهود، والقوانين الأخيرة التي تم إقرارها تؤكد على يهودية الدولة وتطالب الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية. العرب في إسرائيل ليس لديهم أفق في ظلّ دولة يهودية. في الجليل هناك غالبيةٌ عربية وقد يحدث ذات يوم أن يقولوا للدولة: بما أنكم دولة يهودية ولستم دولة لجميع الإسرائيليين بما فيهم نحن العرب، فنحن نريد الانفصال عنكم، ونريد إقليمًا مستقلًا مثل ما حدث في كوسوفو. تَصوّرْ لو حدث هذا؟
*وماذا عن الفلسطينيين في الداخل، أعني في فلسطين المحتلة عام 1948، الذين يدفعون ثمن هذا التمييز العنصري؟
أنا على اتصال دائم مع العديد من طلابي العرب، ولدي أصدقاء كثر من الفلسطينيين، وأنا حانق وغاضبٌ أمام هوْل ما يعيشونه من معاناة وعنصرية بشكل يومي. إنهم يتحدثون العبرية أفضل مما أتحدثها أنا. أراهم فلسطينيين وإسرائيليين أكثر فأكثر من الناحية الثقافية، وعداؤهم لإسرائيل ودولتها العنصرية يتصاعد من الناحية السياسية. وهذا أمر طبيعي، فكيف يستطيعون العيش في بلد يرفض أن يتعامل معهم كمواطنين بحقوق كاملة ويمارس في حقّهم العنصرية والتهميش بشكل رسمي ومنظم؟.
*ما رأيك في ما حصل مؤخرًا، أعني "انتفاضة" السكاكين؟
أنا متشائمٌ ويائسٌ من جرّاء ما يحدث. إنها وضعية تراجيدية ومن دون أدنى أمل. لقد نشرتُ مؤخرًا مقالًا في صحيفة "هآرتس" بعنوان: "أن تموت شابًا في فلسطين" تحدّثت فيه عن اليأس الهائل الذي يعتصر الشباب الفلسطيني من جراء الاحتلال الإسرائيلي وسياسة القمع والعنصرية التي يكتوي بنارها منذ أكثر من ستين سنة. وكيف أن الجيل الشاب صار بلا أفق، وهو يرى الاحتلال يزداد فتكًا، وكيف صار الموت أفضل من الحياة تحت الاحتلال الاسرائيلي الذي صادر أراضيهم وشرّد وقتل منهم الآلاف.
بالمناسبة أنا أساند حملة المقاطعة الدولية لإسرائيل وفرض عقوبات دولية على الحكومة الإسرائيلية رغم أنني في البداية لم أكن متحمسًا لها. من شأن هذه العقوبات التي كانت فعّالة في جنوب أفريقيا وإيران، أن تثمر عن نتائج إيجابية لو تم تطبيقها على إسرائيل كي تكفّ عن سياسة الاستيطان والاحتلال، وتتفاوض مع الفلسطينيين.
*ما علاقتك بالمثقفين والسياسيين الفلسطينيين؟
بداية، وأنا دائمًا أحب أن أقول هذا لأصدقائي العرب، لقد كانت لدي علاقة صداقة قوية مع الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل محمود درويش الذي التقيته بعد حرب 67 عندما كنتُ مجندًا في الجيش، وكتب عني قصيدة عنوانها "جندي يحلمُ بالزنابق البيضاء"، تتحدث عن جندي تعب من الحروب وله علاقة إشكالية مع أرض ليست أرضه. أنا فخور بهذه القصيدة.
وأتابع باهتمام ما يكتبه المثقفون العرب في إسرائيل والسياسيون أيضًا، وأنا معجب خاصة بعزمي بشارة الذي أعتبره واحدًا من أكبر المفكرين الذين التقيتهم هنا. إنه واحد من القلائل الذين فهموا طبيعة المجتمع الاسرائيلي والنخبة السياسية والعسكرية الإسرائيلية بدقة وذكاء شديدين. أنا أرى أن مغادرته اسرائيل خسارة كبيرة، لأنه ترك فراغًا سياسيًا قاتلًا خاصة في أوساط أبناء شعبه الفلسطيني هنا في إسرائيل. والعديد من طلابي يعتبرون غيابه فاجعة كبيرة. وشخصيًا، رغم أنني أتفهم الأسباب التي دفعته إلى المغادرة، فقد كنت أتمنى أن يبقى هنا في مكانه الطبيعي، أي في بلاده وليس في المنفى. لقد رأيت في بشارة دومًا، مواطنًا في هذا البلد عربيًا وفلسطينيًا في آن واحد. وأنا أدين له بكثير من الأفكار حول الهوية الإسرائيلية، التي شجعتني على الذهاب بعيدًا في تحليلاتي. وهو محلل ومتحدث بارعٌ ولغته العبرية تفوق في بلاغتها ودقّتها عبرية الكثير من السّاسة والمفكرين الإسرائيليين اليهود أنفسهم. دعني أحكي لك هذه القصة الطريفة. حين كان هنا قبل سنوات دعوتُه مرة لإلقاء محاضرة أمام طلابي في جامعة تل أبيب، ولبّى الدعوة من دون تردد. وعند نهاية المحاضرة قال لي طلابي بنبرة ساخرة "لقد فهمنا في ساعة واحدة من محاضرة بشارة ما تحاول أن تشرحه لنا أنتَ منذ ستة أشهر من الدروس!".