نشر صموئيل بيكيت "نصوص بلا طائل" عام 1950، ونقرأ في أحد هذه النصوص المقطع الآتي: "أن نطلق اسمًا، كلا، فلا شيء يمكن تسميته. وأن نتكلم، لا، فلا شيء يمكن التعبير عنه". ثمّ يتابع: "ماذا إذًا؟ لست أدري، ما كان ينبغي أن أبدأ، وهنا تكمن المأساة في الحقيقة، في أن نكتب: فما إن نبدأ حتى نعود لا نعرف كيف ننتهي".
ليس بدعًا أن يتوقف كاتب ما، في لحظة صحو، ليتساءل عن جدوى الكتابة، ويرتاب في مقدرتها على نقل مشاعره وهواجسه وأفكاره، ويتأمّل في جدارة ذلك الهدف الغامض الذي تهون، بل وتحلو في سبيل بلوغه، ليالي الأرق المصاحبة للكتابة، وعذابات التعامل مع هذه المادة الزئبقية المتفلتة، التي نسميها اللغة.
لكن بيكيت اكتشف مبكّرًا هذه "الورطة" التي وقع فيها ككاتب وككائن بشري، إذ وجد نفسه واقفًا في مواجهة ذاته والكون، أعزل سوى من أكوام من كلمات، يدرك كلّما استخدمها أنها أداة للقطيعة لا للاتصال، ووسيلة للتضليل لا للتعبير، وللحجب لا للكشف.
بيكيت الذي "بشّرنا" بأن "غودو" لن يصل، وأن انتظارنا القدري له ليس سوى وهم عابث، كان مارس الكتابة بمختلف أشكالها؛ من مسرح ورواية وقصّة وشعر ونصوص شبه هذيانية، وكان في كلّ ما كتب يضع اللغة في برهة احتدام حارة بين "الصوت" الصادر عن هذه اللغة، و"المعنى" المفترض أنها تحمله.
في رواية "واط" مثلًا، يكتشف البطل أن لغته المنطوقة لم تكن كافية لمنح العالم استقراره وثباته، فيأخذ في البحث عن معاني الأشياء ودلالاتها من خلال إيجاد أسماء جديدة لها، إلى أن يتفاقم شكّه بالكلمات، وحذره الوسواسي من إمكانية استخدامها بالطريقة التي يشاء، فيلجأ يائسًا إلى البقاء صامتًا حيال الوجود، مدركًا أن مفتاح المعنى كامن فيه؛ هو الإنسان وليس خارجه، وأن الفحاوى المأمول فهمها، ستظل حبيسة أحاسيسه ومشاعره، ولن يمكن تحريرها من أصفادها.
وفي رواية "ما لا يسمّى" يعلن فقدان ثقته بالكلمات، لأنها ببساطة تقع خارج حدود سيطرته. فبدلًا من أن يشكّل فهمنا للعالم كلامنا، فإن العكس هو الذي يحدث: إن اكتساب الكلمات هو ما يكوّن إدراكنا للعالم. يقول: "هل هناك أي كلمة تنبع مني في ما أقول؟ كلا.. إذ لا صوت لي". وفي تتبع الحوارات التي يجريها بين شخصيات أعماله الروائية والمسرحية، تتبدى هذه الفكرة بفجائعية أبلغ، فهي حوارات مبتورة، آلية، باردة، تقطعها فترات صمت ضجرة، تخلو من أي معنى أو دلالة، وقبل كلّ شيء هي حوارات لا تعبّر، لا تقول.
"الآخر هو الجحيم"، يلحّ في أعماله كلها. لكننا لا نستطيع العيش من دونه. والكلام عقاب، لكن الصمت هو العدم. ما العمل إذًا؟ مزيدٌ من الكلمات التي تحاول استحضار الذات، فلا تؤدّي إلا إلى تغييبها، وتسعى إلى ردم الهوّة بيننا وبين الآخر، فتزيدها اتساعاً، وتأمل في فكّ حصار الصمت العدمي، فلا تلبث أن تصبح حصارًا أشدّ وطأة وأعمق رعبًا.
في مسرحية "كوميديا" نرى الشخصيات الثلاث؛ الزوج والزوجة والعشيقة، يتحدّثون في وقت واحد، وليس من رابط بين أحاديثهم. إن أحدهم لا يتوقّع وهو يتكلّم أن يصغي الآخر إليه، مثلما هو مشغول بالكلام عن الإصغاء للآخر.
وفي "شريط كراب الأخير"، يمضي "كراب" سنوات طويلة من حياته، في عزلته، مع آلة تسجيل عتيقة، وذكريات مسجلة على شريط مهترئ، لا يكفّ عن سماعه وتعديل ما ورد فيه، ليلةً بعد ليلة، ساعةً بعد ساعة.
الكلام هو طبيعة وجودنا الأساسية، حتى لو كان قصاصًا. علينا أن نواصل الحديث وأن نجد باستمرار من نخاطبه ويخاطبنا، لا لنعبّر أو لننقل مشاعرنا، فهذا ليس في حدود طاقة اللغة، بل لنملأ الفراغ المحيط بنا، المتغلغل في أعماقنا، ونلهي سكين الوحشة عن حزّ أرواحنا.
اعترف "بورخيس" مرّة، أنه يكتب "ليخفّف من عبء مرور الزمن". أما بيكيت فكان يسمّي الزمن "قفص مرور الساعات". وفي هذا القفص اعتزل مع كتابته الممحوة والماحية، مع كلامه المنطوق المصموت، مخلّفًا تراثًا أدبيًا متنوعًا، ترك آثاره خمشًا على أساليب الكتابة والتفكير. مئات الصفحات في الرواية والقصّة والمسرح والشعر، ليقول جملة واحدة اختتم بها النص الثاني عشر من "نصوص بلا طائل": "لقد ماتت الكلمات!".