ماذا لو كبر حنظلة؟
كلمح البصر، تمضي السنوات خاطفةً أحياناً، فلا نكاد نشعر بمضيها، حتى تفاجئنا بما يرجّ القلب والجسد رجّاً عنيفاً، ويتركهما في إنهاك البحث عمّا تناثر من ذكرياتٍ صغيرةٍ وكبيرةٍ على قارعة العمر.
قبل أيام، مرّت الذكرى التاسعة والعشرون على استشهاد ناجي العلي الذي رحل عنا برصاصةٍ غادرةٍ، اخترقت جسده النحيل، ولم تقو على اختراق مبادئه وأفكاره، إذ ظلت متجسدةً في حنظلة، الطفل الصغير العصي على الزمن، ولا نكاد نرى منه سوى كفيه المعقودتين ما وراء ظهره، على أملٍ لا يموت أبداً.
رحل ناجي يومها، وبقي حنظلة، ليشعرنا على الدوام بمرارة ما حدث وما يحدث. وليجدّد يقيننا الدائم بذلك الفلسطيني النحيل الذي هُجّر من بلاده، وهو لم يكد يبلغ العاشرة من عمره، ليقضي بقية حياته لاجئاً في بلدان كثيرة، من دون أن يخضع، ولو مرة، لأيٍّ من شروط اللجوء، إن كان يتناقض وإيمانه المطلق بفلسطينه كما يعرفها، لا كما تقترحها المباحثات والمفاوضات على موائد السياسيين.
كنت في أول أشهر التدريب على العمل الصحافي، عندما طُلب مني أن أكتب مقالةً تحليليةً لرسوم ناجي العلي، بمناسبة الذكرى الأولى على رحيله، وكتبت المقالة المطلوبة مني بحماسة الدمع حزناً على من كنت أجمع رسوماته، وأنا في المدرسة الثانوية والجامعة، انتظاراً لفرصة العمل معه، وحرقة ضياع الفرص كلها، لا بتلك الرصاصة التي قتلته تدريجيا وحسب، بل برصاصة ذوي القربى التي كانت تتهدّده في ملجئه الأخير، فلم تنجح إلا بإبعاده من مسقط رأس حنظلة، وعش أحلامه المطمئن طويلا في الكويت، إلى حيث ضباب الغربة، وصقيع اللجوء الإضافي في لندن.
انتهيت من مقالي الذي نشر على صفحتين في جريدة الوطن الكويتية، مع رسوماتٍ لناجي، وبعنوان عن الشاهد والشهيد، ويذكّر بالرجل الذي غادرنا بالغدر، ومضيت ممعنةً في شارع الصحافة، طوال تلك السنوات التي شهدت انتقالي من جريدة الوطن إلى جريدة القبس نهاية عام 1993، ليكتب لي القدر موعداً جديداً مع ناجي العلي، في غيابه وحضوره، ولأجدني أول من يجلس على مكتبه في الجريدة التي تركها على عجلةٍ في ليلته الأخيرة في الكويت. هذا مكتبه إذن، وها هي روحه تحوم فوق رأسي، وهذي أنا المنذورة في آجال الغائبين الكبار.. دائماً.
قبل أيام، عدت إلى ما كتبته في عام 1988، وأنا أسجل لقطاتٍ في حسابي على "سناب شات" إحياء لذكرى الفنان الراحل، لأرصد كم من التحولات مرّت بنا، ومررنا بها خلال تسعة وعشرين عاماً وحسب.
ماذا لو أخطأت تلك الرصاصة الغادرة هدفها، وذهبت أدراج الهباء، ونجا ناجي من ذلك المصير؟ ماذا لو بقي على قيد الحبر والورق والرسم في كاريكاتيره اليومي، ليعيش كل ما عشناه من مفاصل غيّرتنا وغيرت كل شيء بنا، وحولنا على الخريطة وفي الواقع؟
هل كان سيكبر حنظلة مع الذين كبروا، وتفرّقت بهم سبل النضال والكلمات والأغاني، نحو وطن حر ومستقل، وكرامة إنسانية سابغة؟ أم سيبقى ذلك الشاهد الأبدي على النضال كما ينبغي؛ صافياً وحقيقياً، ووقحاً أيضاً، بلا تنازلاتٍ ولا مجاملاتٍ ولا مفاوضاتٍ ولا توقيعاتٍ على ورقٍ لا يفضي إلا إلى المزيد من الاحتلال والتهجير واللجوء والسجون والمعتقلات وإسرائيل؟
ماذا لو عاش ناجي انتفاضات الصغار وثورات الحجارة، كما بشّر بها في رسوماته، وماذا كان سيرسم لو كان قد أدرك هوامش الربيع العربي، وهو في عنفوانه الأول، ثم وهو يذبح على منصات التآمر الخفي هنا وهناك؟
ماذا لو قدّر لحنظلة الصغير أن يكبر قليلاً، ويدير وجهه لنا أخيراً، ليواجهنا بما غاب عنا، أو غُيّبنا عنه، أو أننا لم نره لهوله، ولأننا منه وفيه؟
الحمد لله أن حنظلة لن يكبر، ولن يلتفت ليرينا وجهه، إلا بعد أن تتحرّر فلسطين.. كما قالها ناجي العلي، وهو يشهد ولادته بين الحبر والحرب.