12 أكتوبر 2024
ماذا يحدث في تونس؟
إذن... لم يكن تاريخ 17 يناير/ كانون الثاني الموعد، هذه المرّة، لتجدّد تحركات تذكّر كثيراً بأحداث مماثلة في تاريخ اليوم والشهر نفسه، منذ خمس سنوات مضت. حينها، كان الوضع ناضجاً لالتقاط الشرارة، ثم امتدادها. نظام فاسد أطال المكوث، ووضع اجتماعي واقتصادي اختُصر الرد عليه ببراعةٍ في شعار "شغل، حرية، كرامة وطنية"، واستحق كل من ساهم في التسبب بذلك الوضع الطرد بـ"ديغاج" (ارحل) عن جدارة.
كان كل شيء يهيء للمحو وإعادة الرسم من جديد، مع الإبقاء فقط على القوى الوطنية التي التحقت بالحراك، ولو متأخرة، لتؤطره، هي قوى المجتمع المدني والإدارة التي حافظت على سير مصالح المواطنين، وأرسلت رسالة طمأنة بأن الدولة ومؤسساتها ثابتة ومستمرة.
كان الحلم مشروعاً ومزهراً في شتاء ذلك العام، بعد طول سبات، مبرَّر أو غير مبرَّر. لم يعد النقاش في هذه المسألة مجدياً اليوم، فالأهم أن شيئاً تحرّك، وحجراً ألقي في المياه الراكدة.
خمس سنوات منذ ذلك التاريخ، وماراثون سياسي واجتماعي وأمني، وحتى فكري وأيديولوجي، لم يتوقف، تغير معه وجه تونس، كم تمنى الثائرون أن يكون تغيراً للأفضل، لكن الفوضى العامة في المنطقة خففت الوطء كثيراً على التونسيين، عندما يُدعَون إلى النظر إلى جيرانٍ لهم أقربين، وآخرين أبعدين. تعاقبت على تونس خمس حكومات، من السياسين تارة، ومن التكنوقراط تارة أخرى، أو مزيج من هذا وذاك، لم تنجح، في مجملها وبنسب متفاوتة، في الاستجابة للحد الأدنى من المطالب، أو تنفيذ الوعود التي صدّع بها السياسيون رؤوس ناخبيهم... ومع هروب المستثمرين بأموالهم من وضعٍ أمني هش، وتلقي قطاع السياحة، أهم مصادر الدخل، ضربات موجعة متتالية، وتفشّي أنشطة التهريب مع الجارة ليبيا، حيث لا سلطة مركزية أو لامركزية، وجد الشباب نفسه، في كل مرة، في تلك السنوات، يدور في حلقة مفرغة، أهم مخارجها تفتح مباشرة على بوابة الإرهاب، أو على مقاعد البطالة القاتلة لمن رفض المغامرة، بعيداً في مناطق الصراع.
كان في وسع المراقبين "العقلاء" أن ينصحوا التونسيين القابعين داخل هذا المشهد بالصبر والانتظار، لأن التغيير لا بد له من وقت للنضوج، وأن يشكروا الله على نعمة عدم خسران الوطن بالفوضى والاقتتال، فالمعاناة درجات. وكم سمعنا عبارات من هذا القبيل من الخائفين من "الأسوأ"، بل ممن أصبحوا ينادون جهاراً بعودة بعض رموز النظام السابق، لأنهم الوحيدون القادرون على لجم الفوضى وإعادة تونس إلى سكة الاستقرار، حسب تقديرهم، إلا أن الشباب الذي شيمته المباغتة والمغامرة، كان وفياً لشيمته، وفي توقيت لم يكن متوقعاً على الأرجح، بعد ظهور مؤشرات عديدة على ضمور عضلات فعل الثورة، وتهدج حنجرتها، وتعالي أصوات المحذرين من خطرها المحدق، إذا تجدّدت!
لكن، أين تُصرف طاقة الشباب الفوارة في غياب الآفاق؟ فهذه أوروبا أكملت تقريباً بناء أسوارها العالية.. أمْ في الدراسة والتحصيل والشهادات العليا؟ وهذه الأرقام تؤكد أن لا فرص للتشغيل لحاملي الشهادات المنتظرين، قبل أربع أو خمس سنوات مقبلة على الأقل، فيما المطلوب إحداث 11 ألف فرصة عمل سنوياً، إذا أخذنا بخطط آخر حكومات ما بعد الثورة، وهو ما يبدو مستحيلاً.
ما يسبب الغيظ، بشكل لافت، عدم اعتماد الحكومات المتعاقبة مبدأ الشفافية آلية للعمل
والمكاشفة، بل شعاراً ليتها لم ترفعه، لأنه يتطلب شجاعة ودقة وكفاءة عالية في العمل لحصر المقدرات والإمكانات الحقيقية المتاحة، ومن ثم أوجه صرفها وتوزيعها، لكن الارتجال كان كلمة السر، في أداء مختلف الحكومات، زادته سوءاً مظاهر الثراء الفاحش المفاجئ في بعض الدوائر، وتبخر قروض من هيئات دولية، أو عدم تسلمها أصلاً بسبب "عدم الثقة" وعدم ثبات المشهد السياسي... وشبح الإفلاس، أو هكذا قيل، يخيم في الأجواء ويجثم على النفوس.
في شمال إفريقيا، هناك مثل يقول "خلّطها، تصفى"، بمعنى أن ما يبدو استقراراً في اليأس ليس هو الغاية، وإنما إذكاءُ "الفوضى"، لتلامس جميع الأطراف ولتخلط الأوراق من جديد، هو المخلّص، وربما الدليل إلى برّ أكثر أماناً وعدلاً، على الرغم من أن الصورة لا تبدو واعدة بذلك، إلى هذه اللحظة على الأقل. ولكن، يبدو أن حراك هذه الأيام يسير وفق هذه القناعة، اتفقنا معها أو اختلفنا.
يعتبر شباب تونس الذين يتجاوزون 70% من مجموع السكان أنفسهم أصحاب الفضل في إطاحة نظام "ديناصوري"، ولا أحد يستكثر عليهم ذلك، ويعتقدون أنهم قدموا تضحيات لم تُقدَّر حق قدرها، بل الأنكى أنهم كانوا ورقةً زايد بها وعليها السياسيون المتنافسون في كل المحطات الانتخابية، ليجدوا أنفسهم على الرف، وليحتل الكهول والمسنون وكثيرون من فاقدي الكفاءة، شتى المناصب، وهم يلوكون قصة الشباب "المعطَّل" إلى أجل غير معلوم، إلا أن الشباب "المعطّل" بغير إرادته، تحيّن ذات أسبوع بعد 14 يناير 2016، ليقول إنه ليس معطلاً تماماً، وإنه لا يزال يمتلك زمام المبادرة، وإنه هو من سيعيد الحديث عن نفسه وعن حقه في العيش الكريم في وطنه، ولن يتحدث عنه "الآخرون" بالزخم والقوة نفسيهما، القوة المسالمة لا شك. ومن المبهر أن ندرك مجدداً أن طاقة الشباب، وقدرتها على قلب الموازين، إن التزمت السلمية، وابتعدت عن العنف، وتسامت عن محاولات التوظيف السياسي والأيديولوجي، ليست قصيدة شعرية، ولا عنواناً انتخابياً، وإنما حقيقة وفعل يتجسّد، وكم هو مثير أن يتراجع "الحكام الكهول العاقلون"، و يصمتوا، ثم يتسابقوا، في أفضل الأحوال، إلى التعبير عن "مساندتهم وتفهمهم" غضب الشباب.
قد لا يكون من الشطط القول، هذه المرة، إن تبادل المواقع، لتعديل المشهد، بات وشيكاً، وأكثر قبولاً أكثر من أي وقت مضى. وذلك منطق الأشياء.
كان كل شيء يهيء للمحو وإعادة الرسم من جديد، مع الإبقاء فقط على القوى الوطنية التي التحقت بالحراك، ولو متأخرة، لتؤطره، هي قوى المجتمع المدني والإدارة التي حافظت على سير مصالح المواطنين، وأرسلت رسالة طمأنة بأن الدولة ومؤسساتها ثابتة ومستمرة.
كان الحلم مشروعاً ومزهراً في شتاء ذلك العام، بعد طول سبات، مبرَّر أو غير مبرَّر. لم يعد النقاش في هذه المسألة مجدياً اليوم، فالأهم أن شيئاً تحرّك، وحجراً ألقي في المياه الراكدة.
خمس سنوات منذ ذلك التاريخ، وماراثون سياسي واجتماعي وأمني، وحتى فكري وأيديولوجي، لم يتوقف، تغير معه وجه تونس، كم تمنى الثائرون أن يكون تغيراً للأفضل، لكن الفوضى العامة في المنطقة خففت الوطء كثيراً على التونسيين، عندما يُدعَون إلى النظر إلى جيرانٍ لهم أقربين، وآخرين أبعدين. تعاقبت على تونس خمس حكومات، من السياسين تارة، ومن التكنوقراط تارة أخرى، أو مزيج من هذا وذاك، لم تنجح، في مجملها وبنسب متفاوتة، في الاستجابة للحد الأدنى من المطالب، أو تنفيذ الوعود التي صدّع بها السياسيون رؤوس ناخبيهم... ومع هروب المستثمرين بأموالهم من وضعٍ أمني هش، وتلقي قطاع السياحة، أهم مصادر الدخل، ضربات موجعة متتالية، وتفشّي أنشطة التهريب مع الجارة ليبيا، حيث لا سلطة مركزية أو لامركزية، وجد الشباب نفسه، في كل مرة، في تلك السنوات، يدور في حلقة مفرغة، أهم مخارجها تفتح مباشرة على بوابة الإرهاب، أو على مقاعد البطالة القاتلة لمن رفض المغامرة، بعيداً في مناطق الصراع.
كان في وسع المراقبين "العقلاء" أن ينصحوا التونسيين القابعين داخل هذا المشهد بالصبر والانتظار، لأن التغيير لا بد له من وقت للنضوج، وأن يشكروا الله على نعمة عدم خسران الوطن بالفوضى والاقتتال، فالمعاناة درجات. وكم سمعنا عبارات من هذا القبيل من الخائفين من "الأسوأ"، بل ممن أصبحوا ينادون جهاراً بعودة بعض رموز النظام السابق، لأنهم الوحيدون القادرون على لجم الفوضى وإعادة تونس إلى سكة الاستقرار، حسب تقديرهم، إلا أن الشباب الذي شيمته المباغتة والمغامرة، كان وفياً لشيمته، وفي توقيت لم يكن متوقعاً على الأرجح، بعد ظهور مؤشرات عديدة على ضمور عضلات فعل الثورة، وتهدج حنجرتها، وتعالي أصوات المحذرين من خطرها المحدق، إذا تجدّدت!
لكن، أين تُصرف طاقة الشباب الفوارة في غياب الآفاق؟ فهذه أوروبا أكملت تقريباً بناء أسوارها العالية.. أمْ في الدراسة والتحصيل والشهادات العليا؟ وهذه الأرقام تؤكد أن لا فرص للتشغيل لحاملي الشهادات المنتظرين، قبل أربع أو خمس سنوات مقبلة على الأقل، فيما المطلوب إحداث 11 ألف فرصة عمل سنوياً، إذا أخذنا بخطط آخر حكومات ما بعد الثورة، وهو ما يبدو مستحيلاً.
ما يسبب الغيظ، بشكل لافت، عدم اعتماد الحكومات المتعاقبة مبدأ الشفافية آلية للعمل
في شمال إفريقيا، هناك مثل يقول "خلّطها، تصفى"، بمعنى أن ما يبدو استقراراً في اليأس ليس هو الغاية، وإنما إذكاءُ "الفوضى"، لتلامس جميع الأطراف ولتخلط الأوراق من جديد، هو المخلّص، وربما الدليل إلى برّ أكثر أماناً وعدلاً، على الرغم من أن الصورة لا تبدو واعدة بذلك، إلى هذه اللحظة على الأقل. ولكن، يبدو أن حراك هذه الأيام يسير وفق هذه القناعة، اتفقنا معها أو اختلفنا.
يعتبر شباب تونس الذين يتجاوزون 70% من مجموع السكان أنفسهم أصحاب الفضل في إطاحة نظام "ديناصوري"، ولا أحد يستكثر عليهم ذلك، ويعتقدون أنهم قدموا تضحيات لم تُقدَّر حق قدرها، بل الأنكى أنهم كانوا ورقةً زايد بها وعليها السياسيون المتنافسون في كل المحطات الانتخابية، ليجدوا أنفسهم على الرف، وليحتل الكهول والمسنون وكثيرون من فاقدي الكفاءة، شتى المناصب، وهم يلوكون قصة الشباب "المعطَّل" إلى أجل غير معلوم، إلا أن الشباب "المعطّل" بغير إرادته، تحيّن ذات أسبوع بعد 14 يناير 2016، ليقول إنه ليس معطلاً تماماً، وإنه لا يزال يمتلك زمام المبادرة، وإنه هو من سيعيد الحديث عن نفسه وعن حقه في العيش الكريم في وطنه، ولن يتحدث عنه "الآخرون" بالزخم والقوة نفسيهما، القوة المسالمة لا شك. ومن المبهر أن ندرك مجدداً أن طاقة الشباب، وقدرتها على قلب الموازين، إن التزمت السلمية، وابتعدت عن العنف، وتسامت عن محاولات التوظيف السياسي والأيديولوجي، ليست قصيدة شعرية، ولا عنواناً انتخابياً، وإنما حقيقة وفعل يتجسّد، وكم هو مثير أن يتراجع "الحكام الكهول العاقلون"، و يصمتوا، ثم يتسابقوا، في أفضل الأحوال، إلى التعبير عن "مساندتهم وتفهمهم" غضب الشباب.
قد لا يكون من الشطط القول، هذه المرة، إن تبادل المواقع، لتعديل المشهد، بات وشيكاً، وأكثر قبولاً أكثر من أي وقت مضى. وذلك منطق الأشياء.