11 سبتمبر 2024
مال وسياسة في الجزائر
وصلت حالة الاستقطاب في الجزائر بين لوبيات المال من جهة وحكومة عبد المجيد تبون إلى وضعيةٍ غير مسبوقة، فلأول مرة في تاريخ الجزائر، يخرج الخلاف إلى العلن، حيث وجدت حكومة تبون نفسها بعد شهر من تشكيلها في مواجهة قوة أرباب العمل التي بدأت تفيض، بتأثيرها على الساحة السياسية الجزائرية، بعد أن كان ذاك التأثير مستتراً ومباشراً مع صناع القرار وأزلام السلطة، لا تظهره إلا حملات الانتخابات التي يلعب المال فيها دوراً ترجيحياً لهذا الحزب، أو هذا الاتجاه، في مواجهة خصوم السياسة والمصالح.
جديد هذه المرة أيضاً أن زعيم أكبر نقابة في البلاد، الأمين العام للاتحاد العام للعمال الجزائريين، عبد المجيد سيدي السعيد، دخل على خط الحرب المستعرة بين رئيس منتدى رؤساء المؤسسات الخاصة، علي حداد، ورئيس الحكومة، ما شكّل أيضاً سابقة في العمل النقابي، آثر فيها سيدي السعيد مواجهة الحكومة، وزجّ منظمته العمالية في مساندة تنظيم رجال الأعمال، وهي النقابة الموالية للسلطة دوماً، والتي دأبت، ومنذ سنوات طويلة، على التماهي مع سياسة الحكومة، وانتهاج سبل التهدئة وامتصاص غضب العمال في مواجهة كل القرارات غير الاجتماعية التي تقرّرها الحكومة، مثل تسريح العمال وخصخصة القطاع العام، وبيعه بأثمانٍ زهيدة للمتنفذين من الخواص الذين بدأ يرتفع صيتهم من القاع في العشرين عاماً الأخيرة.
هدّد رئيس الحكومة، بعد شهر من تنصيبه، بفصل المال عن السياسة، واتخذ قراراتٍ بتجميد
استيراد بعض المواد الاستهلاكية الكمالية، وتقليص استيراد أخرى، والتي كانت تستهلك أرقاماً مهولة من الخزينة العامة. كما توعّد عبد المجيد تبون رجال الأعمال المستفيدين من ريع الصفقات العمومية المشبوهة، والتي تُعقد، أحياناً كثيرة، بالتراضي مع السلطات المركزية أو المحلية. بل إن تبون، وفي أمر مفاجئ، ألغى قرارات كانت قد اتخذتها حكومة عبد المالك سلال السابقة، خصوصاً الاستفادة من عقارات فلاحية وصناعية، وحظائر صناعية مُنحت لمجموعة ضيقة من الصناعيين والتجار القريبين من السلطة.
هل سينتصر رئيس الحكومة في معركة فصل المال عن السياسة؟ وهل تُعد المعركة، الدائرة رحاها هذه الأيام، معركة فصل حقيقية، أم هي مجرّد انتفاضة مصالح بين نُخب المال ونخب السلطة؟ وهل هي مراجعة حقيقية لخطط سابقة، أنفذ فيه أهل السلطة أصدقاءهم من ذوي المال في الجسم السياسي، وفي اختيار أعضاء البرلمان، وأصبح لهم نفوذ كبير في تسمية الوزراء والمسؤولين الكبار في المؤسسات الرسمية؟ على الرغم من تشكيك كثيرين في شرعية أموالهم المكتسبة غالبيتها من صفقات عمومية، تتم إما بالتراضي أو بترتيبات خاصة، تؤدي إلى رسو الصفقة على الشخص المختار من أصحاب الحظوة والعلاقات، ذلك أن كل عبقرية رجال المال الجدد، خصوصاً من يسمون في الجزائر "أصحاب الشبعة الجديدة"، متأتية من تموْقعهم قرب مركز القرار.
في ظل هذه الضبابية، بات الرأي العام المحلي يتطلع إلى موقف من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، لتوضيح موقفه من المواجهة المفتوحة بين رئيس حكومته وأركان المال والنقابات، خصوصاً بعد أن تحدث الجميع باسم الرئيس، وإصرارهم على القول إنهم يطبقون مخططه، ويتبنون مشروعه التنموي والسياسي؟ حيث يخوض الجميع خصوماتهم باسم بوتفليقة الذي ظل معتكفاً في سكوته منذ سنوات، وغاب رجع صداه، ليُفتح بذلك المجال واسعاً للتأويلات المختلفة التي تصب في مصلحة هذا الطرف أو ذاك.
كان صعود علي حداد اللافت في محيط السلطة، وما أُشيع من قربه الكبير من شقيق الرئيس، قد أثار تساؤلات كثيرة، خصوصاً بعد توسّع نفوذه في مفاصل الدولة ومؤسساتها، فلقد أصبح لحداد نشاط سياسي ودبلوماسي، يُفترض أنه من اختصاص مؤسسات الدولة الرسمية. كما أصبحت تنقلاته تُحاط بتعزيزاتٍ أمنيةٍ وبرتوكولية، لا تُخصص، في العادة، إلا للوزراء أو المسؤولين الكبار في الدولة، غير أن الحملة التي شنتها الحكومة، أخيراً، بإرسال حُزمة من الإنذارات والإعذارات لمقاولات علي حداد، بحجج كثيرة، باتت تُنذر بزوبعةٍ في محيط الرئيس بوتفليقة والموالين لحكمه. فبوصلة الولاء فُقدت إلى حين، ومنتهزو الفرص ينتظرون في أي اتجاه تميل رياح السلطة، ليبنوا عليها مواقفهم من هذا الشخص أو ذاك.
شكلت هذه الخصومة صدمةً للمجتمع الجزائري، فوعود التنمية تراجعت بتدني أسعار النفط،
ودولارات جبايته ذهبت إلى جيوب بعض المقاولين القريبين من مركز القرار.. في المقابل، لم يُفاجأ المجتمع بالحديث القديم الجديد، عن تطهير مؤسسات الدولة من الفساد، إذ أصبحت هذه الأسطوانة معروفةً لديه، تستخرجها السلطة، كلما اقتضت الضرورة إليها، بل ذهب بعض الناس إلى القول إن التحوّل الأخير يعكس رغبة النظام في تغيير واجهته، والعمل على استعادة شعبيته، بالتضحية ببعض الأذرع التي ساهمت في تشويه صورته لدى الرأي العام، خصوصاً وأنه لم يبق على الانتخابات الرئاسية إلا عام ونيف، حيث أصبح من الضرورة تنظيف محيط الرئيس، وتهيئة الظروف لخطابٍ يدغدغ مشاعر العامة، ويضمن استمرارية النظام بوجوهٍ جديدة، وممارسات مبتكرة.
هل كان علي حداد يتحرّك من تلقاء نفسه؟ وهو الذي طغى اسمه، وأسماء بعض مريديه في العشرية الأخيرة على سائر السياسيين، والمسؤولين. وهل يتحرّك رئيس الحكومة هو أيضاً من تلقاء نفسه؟ سؤال جدلي في منظومة حكمٍ ابتعدت عن بناء مؤسساتٍ ديمقراطيةٍ، تفرض الرقابة على المال العام، وتحقق انتخاباتٍ نزيهةً يختار من خلالها الشعب مسؤوليه بكل حرية. وآثرت، بدلاً عن ذلك كله، الولاء والطاعة. وإذا أخذنا في الحسبان مصادر السلطة في الجزائر، والتي تُختصر في رئاسة الجمهورية ورئاسة الأركان، وجهاز المخابرات قبل إسقاط قائده الجنرال توفيق مدين، فإننا نخلص إلى أن المسؤولية مشتركة بين هذه المؤسسات في ما آلت إليه الأوضاع في الجزائر. فحكومة عبد المالك سلال السابقة، والتي هي محل انتقادات شرسة هذه الأيام، اختار وزراؤها الرئيس، وكانت تحكم باسمه وتُطبق برنامجه، وخاضت الانتخابات النيابية تحت لوائه، ولا يمكن التنصّل من تصرفاتها، بتصريحاتٍ صحافية، أو نيات حكوميةٍ تحتاج إلى إثبات، خصوصاً وأن التجارب السابقة لم تخرج عن سياق التضحية بكباش فداء، من أجل إنقاذ سلطةٍ لا تريد أن ترى وجهها في المرآة، لترى عيوبها، إلا إذا كان ذلك لغاية إصلاح ماكياجها.
جديد هذه المرة أيضاً أن زعيم أكبر نقابة في البلاد، الأمين العام للاتحاد العام للعمال الجزائريين، عبد المجيد سيدي السعيد، دخل على خط الحرب المستعرة بين رئيس منتدى رؤساء المؤسسات الخاصة، علي حداد، ورئيس الحكومة، ما شكّل أيضاً سابقة في العمل النقابي، آثر فيها سيدي السعيد مواجهة الحكومة، وزجّ منظمته العمالية في مساندة تنظيم رجال الأعمال، وهي النقابة الموالية للسلطة دوماً، والتي دأبت، ومنذ سنوات طويلة، على التماهي مع سياسة الحكومة، وانتهاج سبل التهدئة وامتصاص غضب العمال في مواجهة كل القرارات غير الاجتماعية التي تقرّرها الحكومة، مثل تسريح العمال وخصخصة القطاع العام، وبيعه بأثمانٍ زهيدة للمتنفذين من الخواص الذين بدأ يرتفع صيتهم من القاع في العشرين عاماً الأخيرة.
هدّد رئيس الحكومة، بعد شهر من تنصيبه، بفصل المال عن السياسة، واتخذ قراراتٍ بتجميد
هل سينتصر رئيس الحكومة في معركة فصل المال عن السياسة؟ وهل تُعد المعركة، الدائرة رحاها هذه الأيام، معركة فصل حقيقية، أم هي مجرّد انتفاضة مصالح بين نُخب المال ونخب السلطة؟ وهل هي مراجعة حقيقية لخطط سابقة، أنفذ فيه أهل السلطة أصدقاءهم من ذوي المال في الجسم السياسي، وفي اختيار أعضاء البرلمان، وأصبح لهم نفوذ كبير في تسمية الوزراء والمسؤولين الكبار في المؤسسات الرسمية؟ على الرغم من تشكيك كثيرين في شرعية أموالهم المكتسبة غالبيتها من صفقات عمومية، تتم إما بالتراضي أو بترتيبات خاصة، تؤدي إلى رسو الصفقة على الشخص المختار من أصحاب الحظوة والعلاقات، ذلك أن كل عبقرية رجال المال الجدد، خصوصاً من يسمون في الجزائر "أصحاب الشبعة الجديدة"، متأتية من تموْقعهم قرب مركز القرار.
في ظل هذه الضبابية، بات الرأي العام المحلي يتطلع إلى موقف من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، لتوضيح موقفه من المواجهة المفتوحة بين رئيس حكومته وأركان المال والنقابات، خصوصاً بعد أن تحدث الجميع باسم الرئيس، وإصرارهم على القول إنهم يطبقون مخططه، ويتبنون مشروعه التنموي والسياسي؟ حيث يخوض الجميع خصوماتهم باسم بوتفليقة الذي ظل معتكفاً في سكوته منذ سنوات، وغاب رجع صداه، ليُفتح بذلك المجال واسعاً للتأويلات المختلفة التي تصب في مصلحة هذا الطرف أو ذاك.
كان صعود علي حداد اللافت في محيط السلطة، وما أُشيع من قربه الكبير من شقيق الرئيس، قد أثار تساؤلات كثيرة، خصوصاً بعد توسّع نفوذه في مفاصل الدولة ومؤسساتها، فلقد أصبح لحداد نشاط سياسي ودبلوماسي، يُفترض أنه من اختصاص مؤسسات الدولة الرسمية. كما أصبحت تنقلاته تُحاط بتعزيزاتٍ أمنيةٍ وبرتوكولية، لا تُخصص، في العادة، إلا للوزراء أو المسؤولين الكبار في الدولة، غير أن الحملة التي شنتها الحكومة، أخيراً، بإرسال حُزمة من الإنذارات والإعذارات لمقاولات علي حداد، بحجج كثيرة، باتت تُنذر بزوبعةٍ في محيط الرئيس بوتفليقة والموالين لحكمه. فبوصلة الولاء فُقدت إلى حين، ومنتهزو الفرص ينتظرون في أي اتجاه تميل رياح السلطة، ليبنوا عليها مواقفهم من هذا الشخص أو ذاك.
شكلت هذه الخصومة صدمةً للمجتمع الجزائري، فوعود التنمية تراجعت بتدني أسعار النفط،
هل كان علي حداد يتحرّك من تلقاء نفسه؟ وهو الذي طغى اسمه، وأسماء بعض مريديه في العشرية الأخيرة على سائر السياسيين، والمسؤولين. وهل يتحرّك رئيس الحكومة هو أيضاً من تلقاء نفسه؟ سؤال جدلي في منظومة حكمٍ ابتعدت عن بناء مؤسساتٍ ديمقراطيةٍ، تفرض الرقابة على المال العام، وتحقق انتخاباتٍ نزيهةً يختار من خلالها الشعب مسؤوليه بكل حرية. وآثرت، بدلاً عن ذلك كله، الولاء والطاعة. وإذا أخذنا في الحسبان مصادر السلطة في الجزائر، والتي تُختصر في رئاسة الجمهورية ورئاسة الأركان، وجهاز المخابرات قبل إسقاط قائده الجنرال توفيق مدين، فإننا نخلص إلى أن المسؤولية مشتركة بين هذه المؤسسات في ما آلت إليه الأوضاع في الجزائر. فحكومة عبد المالك سلال السابقة، والتي هي محل انتقادات شرسة هذه الأيام، اختار وزراؤها الرئيس، وكانت تحكم باسمه وتُطبق برنامجه، وخاضت الانتخابات النيابية تحت لوائه، ولا يمكن التنصّل من تصرفاتها، بتصريحاتٍ صحافية، أو نيات حكوميةٍ تحتاج إلى إثبات، خصوصاً وأن التجارب السابقة لم تخرج عن سياق التضحية بكباش فداء، من أجل إنقاذ سلطةٍ لا تريد أن ترى وجهها في المرآة، لترى عيوبها، إلا إذا كان ذلك لغاية إصلاح ماكياجها.