22 نوفمبر 2024
ما أزال على قيد الحياة
من نوافذ غرفتي في الطابق الخامس في مشفى القلب، أراقب الحياة وهي تتنفس يومياتها، صخب البشر، صخب السيارات، طلاب الجامعة القريبة، حركة الشارع الهادرة، كل ما حولي يضجّ بالحياة، حتى لون السماء المترب، المنقشع كل برهةٍ على الأزرق السماوي، في إصرارٍ على أن اللون الحي يعرف كيف يتنفس. أكتب الآن بصعوبة، أختار أوقات ما بعد مسكّنات الألم القوية بنصف ساعة لأكتب، نفَسي ضيّق ما يزال، وليس منتظماً، يقول لي الأصدقاء والطبيب المشرف والممرضات: لا تُجهدي نفسك، أنت ما زلت في بداية مرحلة النقاهة. أقول لهم: الكتابة واحدة من محاولات إعادة التدريب على التنفس. يتركونني بهدوء للحظات كتابتي المتقطّعة، كما هو جسدي الآن، جروح وكدمات وفتحات وخيطان و...
كان أول ما لفت نظري، بعد خروجي من غرفة العناية المشدّدة إلى غرفتي الخاصة، حين نظرت في المرآة هو الشقّ الأسود الطويل في الصدر ناحية القلب، والكدمات الكثيرة المنتشرة في جسدي والأنابيب والخراطيم، وقطع بلاستيكية موصولة بالأوردة. صدمت وتذكّرت، قالوا لي استمر الأمر ما يقارب الاثنتي عشرة ساعة، بين دخولك إلى التخدير وصحيانك الكامل منه. اثنتا عشرة ساعة غبت فيها تماماً عن الحياة، توقف قلبي فيها عن العمل الطبيعي خمساً وأربعين دقيقة، كذلك رئتي الشمال، اثنتا عشرة ساعة عدتُ بعدها إلى الحياة، الحياة التي لم يتغير فيها أي شيء، سوى تواتر قلق الأهل والأصدقاء، وسوى أن شيئاً في جسمي اختلف.
منذ مدة، وأنا أعاني ضيقاً غريباً أجهل مصدره، ضيقاً كنت أحاول توسيعه بالكتابة والحب والسهر والسجائر والصداقات والسفر والقراءة والرقص والشعر. وكلما أمعنت في توسيعه، كان يصرّ على الانكماش أكثر. لم يكن يخطر لي، ولو لحظةً، أن ثمّة ما هو عضوي في هذا الضيق. كنت، كغيري، أقول إنه الضيق السوري، "انسداد شرايين سورية"، كما سماه صديق شاعر في منشور كتبه لي على "فيسبوك"، وأنا داخل غرفة العمليات. رفضت فكرة المرض العضوي، عزوت كل شيء إلى المعنى النفسي لهذا الضيق، النفسي السوري بالتحديد، مختلطاً مع المصري. كنت أشعر أنني أتمرجح في نقطة القهر الواصلة بين البلدين معا، سورية، بلدي الموجوعة بكل خلية فيها، والتي أراها تتبدّد وتختفي، ومصر البلد التي أعيش فيها وأحبها، بكل قهرها ويأسها. ويا للمفارقة، في أثناء الجراحة، نقلوا لي الكثير من أكياس الدم. قال لي الجرّاح إن ذلك الدم المصري الآن يجري في أوردتي، مختلطا بدمي السوري. كأن هذا قدري، أنا التي كنت مصرّة دائما على العيش في مصر، على الرغم من كل ما قدّم لي من تسهيلاتٍ للحياة في أوروبا، لكنه القلب وما يهوى، أو القلب وما يحدس. كان حدسي الدائم أنني أعيش في مكانٍ محاطة به بأصدقاء رائعين، لماذا أتخلى عنه؟
خمسة أيام فقط، أزمتان قلبيتان، مراجعة أطباء، اكتشاف المرض. وثمّة من يقول: عليك إجراء الجراحة سريعاً، لن يحتمل الأمر طويلاً. خمسة أيام فقط، أنا التي لا أحد لي من أهلي هنا. كان الأصدقاء أكثر من الأهل، رتّبوا كل شيء، وأنا في حالة ذهول تام عن كل ما يحدث، تحدّثوا مع الأطباء، رافقوني إلى المستشفى. انتظروا أمام غرفة العمليات، حتى أخبروهم بأنني صحوت من البنج. تواصلوا مع الجميع، من اتصل ومن أرسل ليسأل وليطمئن. قلبي المريض بضيق شرايينه، كان حدسه معافى، وأنا المرأة التي عاشت كل حياتها اعتماداً على الحدس، تعبت الآن من الكتابة. يقول لي الطبيب المشرف: لا تجهدي نفسك أرجوك. توقفي الآن.
سأتوقف الآن فقط، لكنني سأستمر، ثمة الكثير عن هذه التجربة الغريبة لأحكي عنه، ثمّة تفاصيل لا تتاح لكاتبةٍ أن تختبرها إلا بالوصول إلى حافة الألم الكبير، الألم الذي لا تتمنى حتى لعدوك أن يشعر به، حتى لو كانت شرايين قلبك معطوبة! الشارع من نوافذ غرفتي في الطابق الخامس في مشفى القلب يضج بالحياة، الحياة التي غبت عنها اثنتي عشرة ساعة متواصلة. وها أنا الآن ما أزال على قيد الحياة.
كان أول ما لفت نظري، بعد خروجي من غرفة العناية المشدّدة إلى غرفتي الخاصة، حين نظرت في المرآة هو الشقّ الأسود الطويل في الصدر ناحية القلب، والكدمات الكثيرة المنتشرة في جسدي والأنابيب والخراطيم، وقطع بلاستيكية موصولة بالأوردة. صدمت وتذكّرت، قالوا لي استمر الأمر ما يقارب الاثنتي عشرة ساعة، بين دخولك إلى التخدير وصحيانك الكامل منه. اثنتا عشرة ساعة غبت فيها تماماً عن الحياة، توقف قلبي فيها عن العمل الطبيعي خمساً وأربعين دقيقة، كذلك رئتي الشمال، اثنتا عشرة ساعة عدتُ بعدها إلى الحياة، الحياة التي لم يتغير فيها أي شيء، سوى تواتر قلق الأهل والأصدقاء، وسوى أن شيئاً في جسمي اختلف.
منذ مدة، وأنا أعاني ضيقاً غريباً أجهل مصدره، ضيقاً كنت أحاول توسيعه بالكتابة والحب والسهر والسجائر والصداقات والسفر والقراءة والرقص والشعر. وكلما أمعنت في توسيعه، كان يصرّ على الانكماش أكثر. لم يكن يخطر لي، ولو لحظةً، أن ثمّة ما هو عضوي في هذا الضيق. كنت، كغيري، أقول إنه الضيق السوري، "انسداد شرايين سورية"، كما سماه صديق شاعر في منشور كتبه لي على "فيسبوك"، وأنا داخل غرفة العمليات. رفضت فكرة المرض العضوي، عزوت كل شيء إلى المعنى النفسي لهذا الضيق، النفسي السوري بالتحديد، مختلطاً مع المصري. كنت أشعر أنني أتمرجح في نقطة القهر الواصلة بين البلدين معا، سورية، بلدي الموجوعة بكل خلية فيها، والتي أراها تتبدّد وتختفي، ومصر البلد التي أعيش فيها وأحبها، بكل قهرها ويأسها. ويا للمفارقة، في أثناء الجراحة، نقلوا لي الكثير من أكياس الدم. قال لي الجرّاح إن ذلك الدم المصري الآن يجري في أوردتي، مختلطا بدمي السوري. كأن هذا قدري، أنا التي كنت مصرّة دائما على العيش في مصر، على الرغم من كل ما قدّم لي من تسهيلاتٍ للحياة في أوروبا، لكنه القلب وما يهوى، أو القلب وما يحدس. كان حدسي الدائم أنني أعيش في مكانٍ محاطة به بأصدقاء رائعين، لماذا أتخلى عنه؟
خمسة أيام فقط، أزمتان قلبيتان، مراجعة أطباء، اكتشاف المرض. وثمّة من يقول: عليك إجراء الجراحة سريعاً، لن يحتمل الأمر طويلاً. خمسة أيام فقط، أنا التي لا أحد لي من أهلي هنا. كان الأصدقاء أكثر من الأهل، رتّبوا كل شيء، وأنا في حالة ذهول تام عن كل ما يحدث، تحدّثوا مع الأطباء، رافقوني إلى المستشفى. انتظروا أمام غرفة العمليات، حتى أخبروهم بأنني صحوت من البنج. تواصلوا مع الجميع، من اتصل ومن أرسل ليسأل وليطمئن. قلبي المريض بضيق شرايينه، كان حدسه معافى، وأنا المرأة التي عاشت كل حياتها اعتماداً على الحدس، تعبت الآن من الكتابة. يقول لي الطبيب المشرف: لا تجهدي نفسك أرجوك. توقفي الآن.
سأتوقف الآن فقط، لكنني سأستمر، ثمة الكثير عن هذه التجربة الغريبة لأحكي عنه، ثمّة تفاصيل لا تتاح لكاتبةٍ أن تختبرها إلا بالوصول إلى حافة الألم الكبير، الألم الذي لا تتمنى حتى لعدوك أن يشعر به، حتى لو كانت شرايين قلبك معطوبة! الشارع من نوافذ غرفتي في الطابق الخامس في مشفى القلب يضج بالحياة، الحياة التي غبت عنها اثنتي عشرة ساعة متواصلة. وها أنا الآن ما أزال على قيد الحياة.