من المفارقات الغريبة التي تعيشها أكثر من دولة عربية في مجال العمران، أنها عوض أن تستثمر في تراثها العمراني بجمالياته وفعاليته وتنظيمه، نراها تسارع إلى تبني "سياسات" مجالية جديدة في البناء، لا هي محلية أصيلة، ولا هي خارجية حداثية، بل مجرد أشكال هجينة تفتقد إلى أي إغراء، كما أنها لا تملك أية هوية محددة. الأمر يشبه القصة المأثورة التي تحكي عن ذلك الغراب الطموح الذي انتهى به الأمر إلى فقدان مشيته، حينما فكّر، ذات مغامرة، في تقليد مشية طيور أخرى من غير فصيلته.
ذلك هو حال كثير من البناء الذي بات ينبت كالفطر، تحت يافطة "السكن الاجتماعي"، أو تحت جنح الليل وبتزكية أو غضّ الطرف من قبل السلطات المحلية، داخل مدن تاريخية أصيلة أو على جانب من أنقاضها. مشاريع سكنية لم يراع في تشييدها الحد الأدنى من الجمالية ومن التنظيم الحرفي أو القطاعي، الذي كانت تشتهر به المدينة العربية العتيقة عبر التاريخ. وفي أفضل الأحوال، تتخذ هذه الأبنية أشكالاً هندسية هجينة، يطغى عليها التنافر وسوء التقدير وسرعة الإنجاز.
بشاعة في التصاميم وتهوّر في معالجة المجال وتوطينه، إلى جانب طغيان مسلسل الترييف الذي اكتسح الفضاءات الحضرية لأسباب مختلفة ومعروفة. هذا الوضع الكارثي ساهم، على ضوء غياب أية رقابة عمرانية رسمية صارمة، ليس فقط في خلق قطيعة جذرية مع تقاليد وثقافة سياسات الإعمار القديمة، وإنما أيضاً في إفراز نوع جديد من المناطق السكنية، هي أقرب إلى الرقع العمرانية المشوهة منها إلى التنظيم الحضري الذي يحفظ للإنسان كرامته.
هذا الإهمال الذي كرّس عدم الاستفادة من تراثنا العمراني كقاعدة هندسية، توازيه، من ناحية أخرى، مسألة التلكؤ في صيانة فضاءاتنا التاريخية وتنشيط قطاعات واسعة مرتبطة برأسمالنا الثقافي، خصوصاً الموصول منه بحفظ الذاكرة؛ ذاكرة الأعلام الذين أسسوا لبعض أوجه تاريخنا المشترك، إن في مجالَي الأدب والسياسة، أو في حقل المعرفة الفلسفية والدينية المجددة والمنفتحة.
فحتى اليوم، ما زلنا نتعامل مع هذا التراث اللامادي بغير قليل من سوء التقدير، إن لم نقل بإجحاف كبير وإهمال واضح، مع ما يستتبع ذلك من تنشيط لمعاول الهدم وفسح المجال لسياسات الأرض المحروقة. وبالتالي، ما زلنا لا نجيد التعامل مع هذا الجانب بما يليق من روح مجددة تستند على حس نفعي يراهن على تحويل هذا الإرث وهذه الذاكرة، في جانبها المعماري والتاريخي والإنساني، من مجرد أطلال وجدران وسير شخصية تحمل ملامح تاريخ ووجدان شعبيين، إلى عنصر ثراء يفيد في تنشيط وتنويع مصادر مداخيل قطاعاتنا السياحية والاقتصادية.
وفي هذا السياق، وارتباطاً بالحالة المغربية، نستحضر ثلاثة نماذج حية على هذا العبث الذي يخدش روح ذاكرتنا التاريخية. الأول تعكسه الوضعية المزرية لمزار القائد السياسي يوسف بن تاشفين في مراكش، وهو أحد مؤسسي الدولة المرابطية (القرنين 11 و12 ميلادي) في الجنوب المغربي.
ذلك أن قبر هذا القائد، الذي كان له دور كبير في سيرورة بناء الدولة المغربية، كما كانت له صولات مشهودة في مرحلة فارقة من مراحل تاريخ الغرب الإسلامي، خصوصاً في الأندلس أيام حكم ملوك الطوائف، عوض أن يتحول إلى موقع سياحي، أصبح اليوم، جراء الإهمال وسوء التقدير، مجرد مبولة عمومية لا تثير حفيظة القائمين على قطاعات سياسات المدينة والسياحة والثقافة والأوقاف في حكومات المغرب المتعاقبة.
النموذج الثاني هو البيت الذي عاش فيه العلامة ابن خلدون جزءاً من حياته في مدينة فاس، ويكاد أبناء هذه المدينة أنفسهم يجهلون كل شيء عن تاريخه؛ أمر لا يوازيه بشاعة سوى تلك الحادثة التاريخية العجيبة التي وقعت لابن رشد بعد موته. فبعد دفنه في إحدى مقابر مراكش، اتّخذ بعض أعداء أفكاره ومناهضي فلسفته، في لحظة ضغينة مبيتة، قرار ترحيل رفاته من مراكش لإعادة دفنه في قرطبة مسقط رأسه، مخافة استمرار عبث أفكاره برؤوس من كانوا يعتبرونهم صغار العقول وضعاف الإيمان والشخصية.
ويحكي ابن عربي، الذي كان شاهداً على هذا النفي التراجيدي المهين، كيف تم وضع جثمان ابن رشد على أحد جانبي الدابة التي حملت تابوته، تعادلها من الجانب الآخر مؤلفاته، ليتم التخلص نهائياً من الحمولتين بدون ندم، في صورة تعكس جانباً من التعامل مع الحكمة والداعي إليها، وهي حادثة اعتبرها الباحث المغربي عبد الفتاح كيليطو في إحدى إشراقاته، تؤرخ للحظة في تاريخ البحر المتوسط، لحظة تبعد فيها الفلسفة إلى الشمال!
أما النموذج الثالث، فيقودنا إلى بيت ــ ضريح آخر له حمولة تاريخية معتبرة، يقع في أحد أزقة مدينة طنجة العتيقة، حيث ولد وترعرع ودفن الرحالة الشهير ابن بطوطة. لا شيء في هذا البيت يحيل إلى صاحبه ولا إلى سيرته أو مساره الذي ألهم العالم وشغل الناس. مجرد بناية مهترئة قطنتها أسر عديدة، دون أن ينتبه زائر المدينة إلى قيمتها التاريخية والتراثية والوجدانية.