سبقت الترجمة بقية الأشكال الأدبية التي طرقها الكاتب المغربي مبارك وسّاط (1955)، فهي التي فتحت له مظلة الكلمات. في سنة تخرّجه من الجامعة، ترجم فصولاً من كتاب رونيه شار. يقول في مقابلة مع "العربي الجديد": "بدأت علاقتي بالترجمة وقتها. بعد ذلك ترجمتُ قصصاً لكارلوس فوينتس وألبرتو مورافيا عن الفرنسية. وترجمتُ أشعاراً لأندريه بروتون وهنري ميشو وغيرهم".
ما لبث وسّاط أن التفت إلى مبدعين مغاربة يكتبون بالفرنسية، فكانت أول رواية ترجمها هي "المرتشي" للطاهر بنجلون بطلب من "دار توبقال"، كما ترجم لعبد اللطيف اللعبي "شذرات من سفر تكوين منسي"، وبرز اسمه خصوصاً بترجمته لبعض أعمال الشاعر محمد خير الدين.
فعل ذلك، قبل أن يعود إلى بروتون، ويترجم روايته "نادجا"، ثم يتجه أخيراً نحو كافكا بترجمة "التحوّل" (منشورات الجمل).
عن معاودة ترجمته لقصة الكاتب التشيكي فرانز كافكا، التي نُقلت إلى العربية سابقاً تحت عنوان "المسخ"، يرى مبارك وسّاط أن "الترجمات السابقة كانت رديئة، إذ لا يجوز أن نترجم له من دون مراعاة شخصيّته الانطوائية، ومن دون العودة لروح عصره وواقع علاقاته، وخصوصاً علاقته المتوترة مع والده الذي فرض نمط حياة عليه، لكن كافكا لم يرض به واتجه إلى الأدب.. كافكا يستحق الأفضل".
يرى وسّاط أن "على المترجم أن يشتغل على ما يحبّ، لا يمكن أن أترجم كتاباً لا يعني لي شيئاً. وليس هناك أي ضرورة دفعتني مثلاً لأترجم "نادجا" سوى أنه أعجبني. كان تجربة حياتية بالنسبة لي، وخصوصاً حين ذهبت إلى أماكن في باريس لأقتفي آثار القصة الطويلة".
أثار توقف وسّاط عن نشر ترجمات أعمال الكاتب المغربي الأمازيغي محمد خير الدين الكثير من التساؤلات، خصوصاً بعدما ترجم قصيدته الطويلة "غثيان أسود"، وكذلك نص "دم" المقتبس عن روايته "أكادير".
يفسّر قائلاً: "مسألة التوقف عن ترجمة أعمال خير الدين تعود إلى وجوب أن نجد له ناشراً. خير الدين كاتب كبير لا يعقل أن نترجم له من دون توزيع. إذا حُلّت هذه المشكلة سيسهل علي دخول المغامرة، فكثيراً ما تراودني فكرة ترجمة كتابه "حياة، وحلم، وشعب دائم في التيه"، كما أن هناك مسألة ذاتية أيضاً مرتبطة بعدم تفرّغي للترجمة على الدوام".
ربطت وسّاط وخير الدين علاقة صداقة وثيقة. كانا يلتقيان في الرباط، وكان خير الدين يُطلع وسّاط على أفكار روايته "أسطورة وحياة أكونشيش". يقول: "خير الدين إنسان له عالمه وتصرّفاته الخاصة، ينشر الحيوية في كل مكان. إنه ليس شاعراً أو كاتباً سوريالياً رغم أنه كتب قصيدة "رفض الدفن" عند وفاة بروتون، عميد السوريالية. لقد تشرّب أفكار التيار الأدبي الأوروبي وبنى عليه منجزه الأدبي".
ويضيف: "انحدر خير الدين السوريالي - الذاتي من بلدة أمازيغية اسمها "أزرو واضو" وتعني حجر الريح، وفي قصيدة يقول "في بلادي التي تسمى حجر الريح". من يقرأ هذه العبارة ولا يعرف الأمازيغية سيقول هذه صورة جميلة، لكن السوريالية كانت تأتي من بيئة خير الدين وشخصه".
يتحرّك وسّاط في أفق آخر، وهو الكتابة الشعرية. ويمكن إدراج اسم صاحب "فراشة من هيدروجين" مع جيل شعراء الثمانينيات المغاربة، رغم أنه يضيق بمسألة تصنيف الشعراء زمنياً التي يرى فيها "تقزيماً للشعراء وتمييزاً ليس شعرياً".
وحين يعود بالذاكرة لذلك الزمن، يروي لنا أن المغرب "قد شهد ثمانينيات مليئة بالاحتجاجات على المستوى السياسي والاجتماعي، وأنا كطالب كنت متعاطفاً مع اليسار". لكنه يوضح: "أما في الشعر فلا يظهر ذلك مباشرة. لم أكتب شعراً أيديولوجياً أو ملتزماً. إنما كتبت قصائد لها عوالمها المتنوعة والذاتية والاجتماعية، ويدخل فيها الخيال".
يقول في وصف تجربته: "لا تغريني الغنائية في الشعر، لارتباطها عند البعض بالرومانسية وبالبوح العاطفي. ليس لدي بوح عاطفي أو نزاريات". ويضيف: "أحرص على الجانب الإيقاعي في قصائدي، ولا يعني ذلك بالضرورة التفعيلة أو العروض، إذ يمكن للإيقاع أن يتجسد بطرق أخرى".
إن الغنائية، بحسب الشاعر المغربي، "مصطلح ينبغي أن يطلق على الشعر الذي يعطي أولوية للنبرات الصوتية. أنا آخذ هذا الأمر بعين الاعتبار، كما آخذ بضرورة وضع سجال في القصيدة وضرورة وجود الصور أيضاً. أتفادى التنافر بين الأصوات والكلمات بشكل تلقائي وأكتب ما أجد فيه ذاتي شخصياً. قد تكون القصيدة واقعية وجدية، وقد يقتحمها عنصر الخيال حسب اللحظة والمزاج".
لكن، ماذا عن تأثره بأندريه بروتون؟ يوضح أنه في بدايات تبلور تجربته الشعرية كان قريباً من الشعراء السورياليين لتمردهم واحتفائهم بالصورة الشعرية. ويعترف: "يمكن القول بأنني تأثرت في كتاباتي بالشعر الغربي".
غير أن تأثره هذا يأتي بموازاة ارتباط قوي بالشعر العربي القديم. يقول: "كنت أعشق الشعر الجاهلي وأشعر بقرابة كبيرة من شعراء عصره. كانت المراهقة فترة قراءات متداخلة من الشعر الفرنسي والشعر العربي القديم والحديث. اطلعت على شعر أمين نخلة وبدوي الجبل، واحتفيت بما تقدمه مجلة "شعر"، وكذلك الشعراء الذين ظهروا في ملحق "مواقف" حيث اكتشفت محمد عمران وصلاح فائق. حين عرفت تجارب هؤلاء، قلت ها أنا أجد في العربية ما في الشعر الغربي من انفتاح المخيلة وارتياد آفاق جديدة وحرية الكتابة، والاستكشاف الجديد".
بعد مرحلة التأثر، دخل وسّاط تجربة الكتابة والإنتاج، باللغة العربية، رغم أنه تلقى مجمل تعليمه بالفرنسية ولم يتح له دراسة العربية إلا لدى التحاقه بكلية الآداب. ألقى بأشعاره لمجلة "نزوى" العُمانية، و"المجلة المغربية للثقافة الجديدة"، ثم أصدر أول مجموعة "على درج المياه العميقة" (1990) عن "دار توبقال" بالمغرب.
منجزه الشعري الأخير "رجل يبتسم للعصافير"، الصادر عن "منشورات الجمل" (2011)، جاء شبيهاً بالسيرة الذاتية. يقسّم وساط ديوانه إلى قسمين، الأول بعنوان "أحقن الدراجة بالنيكوتين" وفيه 12 قصيدة نثرية، والثاني باسم "ناي مسحور" ويضم 12 قصيدة أيضاً مترابطة مع بعضها.
يقول عن عمله، بأنه "ليس سيرة ذاتية حقيقية، إنما نوع من الإخضاع أو الاعتماد الشعري الذي يوحي بأنها سيرة حقيقية. صحيح أنه يحتوي على معطيات ومواقف خاصة بي، مثل العلاقة العاطفية مع حبيبة أو علاقتي بجدي، لكن الجوانب السردية والكوميدية والخيالية موجودة فيه. هذه المجموعة فضاء يوجد فيه الأنا والآخرون واللاشعور الجمعي".
جرّب وسّاط كتابة القصص القصيرة التي تعتبر المهد الأول في تعبيره السردي، لكنه على ما يبدو توقف عن إبداعها. يعلل بأن القصص هي في الأصل قصائد بالنسبة له، ثم يضيف عليها الخيال والمعطيات. يقول: "ربما أعود يوماً إلى القصة القصيرة، لكن الرواية الطويلة أعبّر فيها أكثر، خصوصاً إذا كانت تعتمد خلفية تاريخية. القصة القصيرة لها عوالمها الخاصة، وأنا كتبت قصصاً قصيرة، لكن الشعر امتصّها".
يكشف لنا الشاعر والمترجم المغربي بأنه بصدد كتابة روايته الأولى تحت عنوان "وديعة". لم يخبرنا أكثر مشيراً إلى أنه لا يستطيع الحديث عنها، فهو يكتبها بـ"كسل ومماطلة، وأحياناً أنسى شخصياتها". يجد مبارك وسّاط أن الرواية "عمل جدّي ومهم" يغني عن كتابة القصص.