مع روزنامة الحزن الطويل، تعمّق الوجع وازدادت مساحاته في الرّوح. لكن حتّى في أحلك اللحظات يتساءل الجزائري والعربي عن الفرح: فهل الجزائري إنسان سعيد؟ حول ذلك استطلع "العربي الجديد" آراء عدد من المبدعين.
الحبيب السايح (كاتب): "لمّا طرحت السؤال، ضحكتُ. وهنا تتجسّد مقولة "ومن الهمّ ما يُضحِك". ضحكتُ لأنّني أحسستُ فعلا أنّني مهموم جداً، بحيث أنّ مساحة هذا الهمّ تتّسع أفقيًا وعموديًا وتأتي على كلّ إشارة لأيّ سعادة. لماذا؟ أوّلا لهذا الوضع العربي المفجع جدًا بفعل ما انقلب إليه الربيع العربي من ويلات تطال الإنسان العربي في وجوده وفي حياته وفي أملاكه. وأيضًا بفعل هذا الحصار الكبير الذي لا نعرف كيف نفكّه من مائنا إلى مائنا. وأيضًا زاد ذلك تعاسة وحزناً ما يعيشه الشعب الفلسطيني هذه الأيّام في غزّة. هذا كلّه يؤثّر بشكل مباشر عليّ كجزائري ومن ثم يأخذ منّي كثيرا من أوقات السعادة التي كان من المفروض أن أُحظَى بها.
وفي الجزائر بلغت ظروف السياسة جموداً وظروف الاجتماع انفجاراً وظروف الاقتصاد ذروة المخاوف وظروف الثقافة قمّة البؤس. ظروف تجتمع لتسرق من الجزائري أيّ وميض يشرق أمامه مبشّراً بأيّ سعادة. فكيف نسعد نحن الجزائريين وسط هذه الظروف؟
في السبعينيّات كنتُ شابّاً طموحاً جدّاً إلى بناء مجتمع تسوده العدالة والحقّ والديمقراطية. لأنّني كنتُ أشعر بالسعادة الغامرة وأنا أقوم بحملات التطوّع لصالح الفلاحين. كما كنتُ أشعر بالسعادة الكبرى وأنا أناضل داخل الجامعة من أجل تطويرها وانفتاحها على العلوم الإنسانية. لكن للأسف مع بداية الثمانينيّات وقع الانهيار، وهو الأمر الذي لا تزال نتائجه تلاحقني. ورغم ذلك أبقى متفائلاً في أن نستعيد قدرتنا على التحكّم بمصيرنا من خلال نهضة مؤمّلة لنخبنا الوطنية.
محمد ساري (روائي): "المثقّف لا يمكن أن يؤثّر في المزاج أو الرأي العام لمجموعة أسباب، أوّلها الطريقة التي يتواصل بها مع البشر، وهي النشر عبر الصحف والكتب. ونعرف أنّ 80 في المئة من الجماهير لا علاقة لها بالقراءة. وثانيا أنّ الأكثر وصولا، أي السمعي البصري، هو في يد سلطة مستبدّة لا تستخدم إلا الدعاية عن أفكارها. فأنت إن لم تُسبِّح بحمد السلطان وتتحدّث عن الشعب السعيد فلا تفتح لك هذه القنوات المجال، إلا في حالة واحدة هي: شتم خصومها. هكذا لا يملك المثقفون وسيلة تواصل فعلية مع المواطن الجزائري. لهذا أتشاءم لأنّ حركات كثيرة تقدّم مشاريع طوباوية. من بينها الحلّ الإسلامي الذي يحمل كرهاً للمدنية والحضارة، ويقف ضدّ أحلامنا.
هذه المجتمعات تجعلنا كمثقفين صامتين وبكائيين ونوّاحين. ليس هناك مشروع مجتمع يجمع الناس. بلادنا تمرّ بلحظات احتضار حيث القيم التي آمن بها المجتمع آلت إلى احتضار... الاشتراكية فشلت والمشروع الوطني فشل والمجتمعات دخلت في الحروب الأهلية. ولا نريد أن نتعلّم.
نفرح مثلا عندما ننشر كتاباً أو رواية، لكن نبيع 1000 نسخة لعشرين مليوناً. فمن يقرأ كتابك؟
نحن نكتب لنعيش فرحنا الخاصّ، لنرضي أنفسنا وضمائرنا.
محمد الزاوي (مخرج سينمائي): "أتعس الناس هو المثقّف الذي يكون صادقاً في علاقته بمجتمعه ووفياً لشعبه، وأسعد الناس أيضا هو المثّقف إذا كان يقاسم أفراح شعبه ولا يعيش في برج عاجي، لكنّنا في توقيت حزين على الجميع. والمثقّف الجزائري لا يمكن أن يكون سعيداً لأنّه عاش آلام الحرب الدموية والإرهاب ودفع ثمناً غاليا، وقبلها عاش في غربة.
شخصيًا حتى وإن عدتُ كلّ سنة إلى الجزائر وشعرتُ بسعادة كبيرة في لقاء عائلتي وأصدقائي ولقاء التراب، وابتسمت، إلا أنّ خيبةً وحزناً كبيرين يسكنان أعماقي، ربما بسبب رحيل أمي منذ أكثر من 30 عاماً. لذلك تراني أردّد دوماً شعر محمود درويش: "أحنّ إلى خبز أمي وقهوة أمي".
ولهذا الحزن صلة كبيرة بالإرهاب والروع اللذين عشناهما جميعاً في سنوات التسعينيّات. فهل يمكن أن أنسى؟ هل ينسى المثقّفون ذلك؟ تلك الذاكرة تعود في أي لحظة حتّى لو قرّر السياسيون ورجال الدولة تغييبها في نشرات الأخبار والصحف ووسائل الإعلام والخطابات الرسمية.
نصيرة محمدي (شاعرة): "مفهومنا عن السعادة متداخل ونسبيّ وملتبس، بحسب نظرتنا إلى الحياة ورؤيتنا العالم. أسئلة كثيرة تكبر معنا ونكتشف في كلّ تجربة أنّ الذات الإنسانية تتّسع لمباهج الحياة وتعاساتها كلّها، وأنّها قادرة على اقتناص الفرح من أبسط الأشياء، وعلى تجاوز الآلام والمحن.
الإنسان الجزائري كائن غير سعيد، وراءه ميراث من الخوف والأحزان التي سطّرت تاريخه القاسي. لا يُدرِك مَوَاطِن السعادة غالباً، ويهدر فرحه بسبب حسابات واهية وجغرافية لم تعرف كيف تسرّب خيراتها إلى بنيها.
ناردين دمون (روائية): "الإنسان الجزائري عاطفي عموماً. يحمل قلبه على كفّه ويتأثّر بما يحدث حوله. وهذا يفسّر سرعة انفعاله وحماسته. لذا فالأشياء الصغيرة في الحياة قد تسعده غالبا وإن لوقت قصير. فتجده يسعد لابتسامة غير متوقّعة من جاره، أو لالتفاتة صغيرة طيّبة قام بها شخص من محيطه. لكنّ الجزائري رغم ذلك لا يسعد كثيراً. فكما يسعد بسرعة يحزن بسرعة أيضاً.
والمبدع عموما حسّاس للغاية. قد يتوجّس من السعادة خيفة، فيعيش لحظاتٍ وهو متوجّس من لحظات الحزن التي قد تليها. في نظري المرأة المبدعة أكثر توجّساً من الرجل المبدع. ربما لأنّ لحظات السعادة شحيحة في حياتها، ولميلها إلى تحليل دقائق الأمور، خوفا من أن تُفاجأ بما لا تحبّ.
السعيد المثردي (شاعر): "على قدر أهل الأرض تأتي السعادة. فقد استطاعت الجزائر بتاريخها النّضالي التحرّري عبر العصور أن تؤسّس منهجا في حبّ الأرض. وأنا قامت سعادتي كجزائري على حبّ الجزائر منذ فتحت عينيّ على العَلَم الوطني منذ كنت طفلا في تونس مع الأهل. وحين عدت مع الأهل وعمري 14 عاماً أذهلني جمال الصحراء. ومع انتقالي إلى الدراسة، ثم بروز موهبتي الشعرية كانت سعادتي ولا تزال في كتابة القصائد.
محمد زير (مخرج سينمائي): "بحسب الوقت الذي عشتُ فيه، قبل السبعينيّات كان الجزائري سعيداً سواء كان مثقّفاً أو شخصاً عادياً. كان على علاقة بالطبيعة وكان يفهم ما هو العمل الحقيقي الذي يقدّم له السعادة. حتّى المكان كان طبيعياً، يمنحنا سعادة روحية وليس عبر قيمة مادية. ورغم الرعب، من طرف الاستعمار، إلا أنّ السعادة كانت حاضرة... وبدأت تتلاشى بعد فترة من الاستقلال. حين ظهرت الأنانية وأصبح الناس يجرون وراء المال، فسيطر على العقل بدل الطبيعة.
الحبيب السايح (كاتب): "لمّا طرحت السؤال، ضحكتُ. وهنا تتجسّد مقولة "ومن الهمّ ما يُضحِك". ضحكتُ لأنّني أحسستُ فعلا أنّني مهموم جداً، بحيث أنّ مساحة هذا الهمّ تتّسع أفقيًا وعموديًا وتأتي على كلّ إشارة لأيّ سعادة. لماذا؟ أوّلا لهذا الوضع العربي المفجع جدًا بفعل ما انقلب إليه الربيع العربي من ويلات تطال الإنسان العربي في وجوده وفي حياته وفي أملاكه. وأيضًا بفعل هذا الحصار الكبير الذي لا نعرف كيف نفكّه من مائنا إلى مائنا. وأيضًا زاد ذلك تعاسة وحزناً ما يعيشه الشعب الفلسطيني هذه الأيّام في غزّة. هذا كلّه يؤثّر بشكل مباشر عليّ كجزائري ومن ثم يأخذ منّي كثيرا من أوقات السعادة التي كان من المفروض أن أُحظَى بها.
وفي الجزائر بلغت ظروف السياسة جموداً وظروف الاجتماع انفجاراً وظروف الاقتصاد ذروة المخاوف وظروف الثقافة قمّة البؤس. ظروف تجتمع لتسرق من الجزائري أيّ وميض يشرق أمامه مبشّراً بأيّ سعادة. فكيف نسعد نحن الجزائريين وسط هذه الظروف؟
في السبعينيّات كنتُ شابّاً طموحاً جدّاً إلى بناء مجتمع تسوده العدالة والحقّ والديمقراطية. لأنّني كنتُ أشعر بالسعادة الغامرة وأنا أقوم بحملات التطوّع لصالح الفلاحين. كما كنتُ أشعر بالسعادة الكبرى وأنا أناضل داخل الجامعة من أجل تطويرها وانفتاحها على العلوم الإنسانية. لكن للأسف مع بداية الثمانينيّات وقع الانهيار، وهو الأمر الذي لا تزال نتائجه تلاحقني. ورغم ذلك أبقى متفائلاً في أن نستعيد قدرتنا على التحكّم بمصيرنا من خلال نهضة مؤمّلة لنخبنا الوطنية.
محمد ساري (روائي): "المثقّف لا يمكن أن يؤثّر في المزاج أو الرأي العام لمجموعة أسباب، أوّلها الطريقة التي يتواصل بها مع البشر، وهي النشر عبر الصحف والكتب. ونعرف أنّ 80 في المئة من الجماهير لا علاقة لها بالقراءة. وثانيا أنّ الأكثر وصولا، أي السمعي البصري، هو في يد سلطة مستبدّة لا تستخدم إلا الدعاية عن أفكارها. فأنت إن لم تُسبِّح بحمد السلطان وتتحدّث عن الشعب السعيد فلا تفتح لك هذه القنوات المجال، إلا في حالة واحدة هي: شتم خصومها. هكذا لا يملك المثقفون وسيلة تواصل فعلية مع المواطن الجزائري. لهذا أتشاءم لأنّ حركات كثيرة تقدّم مشاريع طوباوية. من بينها الحلّ الإسلامي الذي يحمل كرهاً للمدنية والحضارة، ويقف ضدّ أحلامنا.
هذه المجتمعات تجعلنا كمثقفين صامتين وبكائيين ونوّاحين. ليس هناك مشروع مجتمع يجمع الناس. بلادنا تمرّ بلحظات احتضار حيث القيم التي آمن بها المجتمع آلت إلى احتضار... الاشتراكية فشلت والمشروع الوطني فشل والمجتمعات دخلت في الحروب الأهلية. ولا نريد أن نتعلّم.
نفرح مثلا عندما ننشر كتاباً أو رواية، لكن نبيع 1000 نسخة لعشرين مليوناً. فمن يقرأ كتابك؟
نحن نكتب لنعيش فرحنا الخاصّ، لنرضي أنفسنا وضمائرنا.
محمد الزاوي (مخرج سينمائي): "أتعس الناس هو المثقّف الذي يكون صادقاً في علاقته بمجتمعه ووفياً لشعبه، وأسعد الناس أيضا هو المثّقف إذا كان يقاسم أفراح شعبه ولا يعيش في برج عاجي، لكنّنا في توقيت حزين على الجميع. والمثقّف الجزائري لا يمكن أن يكون سعيداً لأنّه عاش آلام الحرب الدموية والإرهاب ودفع ثمناً غاليا، وقبلها عاش في غربة.
شخصيًا حتى وإن عدتُ كلّ سنة إلى الجزائر وشعرتُ بسعادة كبيرة في لقاء عائلتي وأصدقائي ولقاء التراب، وابتسمت، إلا أنّ خيبةً وحزناً كبيرين يسكنان أعماقي، ربما بسبب رحيل أمي منذ أكثر من 30 عاماً. لذلك تراني أردّد دوماً شعر محمود درويش: "أحنّ إلى خبز أمي وقهوة أمي".
ولهذا الحزن صلة كبيرة بالإرهاب والروع اللذين عشناهما جميعاً في سنوات التسعينيّات. فهل يمكن أن أنسى؟ هل ينسى المثقّفون ذلك؟ تلك الذاكرة تعود في أي لحظة حتّى لو قرّر السياسيون ورجال الدولة تغييبها في نشرات الأخبار والصحف ووسائل الإعلام والخطابات الرسمية.
نصيرة محمدي (شاعرة): "مفهومنا عن السعادة متداخل ونسبيّ وملتبس، بحسب نظرتنا إلى الحياة ورؤيتنا العالم. أسئلة كثيرة تكبر معنا ونكتشف في كلّ تجربة أنّ الذات الإنسانية تتّسع لمباهج الحياة وتعاساتها كلّها، وأنّها قادرة على اقتناص الفرح من أبسط الأشياء، وعلى تجاوز الآلام والمحن.
الإنسان الجزائري كائن غير سعيد، وراءه ميراث من الخوف والأحزان التي سطّرت تاريخه القاسي. لا يُدرِك مَوَاطِن السعادة غالباً، ويهدر فرحه بسبب حسابات واهية وجغرافية لم تعرف كيف تسرّب خيراتها إلى بنيها.
ناردين دمون (روائية): "الإنسان الجزائري عاطفي عموماً. يحمل قلبه على كفّه ويتأثّر بما يحدث حوله. وهذا يفسّر سرعة انفعاله وحماسته. لذا فالأشياء الصغيرة في الحياة قد تسعده غالبا وإن لوقت قصير. فتجده يسعد لابتسامة غير متوقّعة من جاره، أو لالتفاتة صغيرة طيّبة قام بها شخص من محيطه. لكنّ الجزائري رغم ذلك لا يسعد كثيراً. فكما يسعد بسرعة يحزن بسرعة أيضاً.
والمبدع عموما حسّاس للغاية. قد يتوجّس من السعادة خيفة، فيعيش لحظاتٍ وهو متوجّس من لحظات الحزن التي قد تليها. في نظري المرأة المبدعة أكثر توجّساً من الرجل المبدع. ربما لأنّ لحظات السعادة شحيحة في حياتها، ولميلها إلى تحليل دقائق الأمور، خوفا من أن تُفاجأ بما لا تحبّ.
السعيد المثردي (شاعر): "على قدر أهل الأرض تأتي السعادة. فقد استطاعت الجزائر بتاريخها النّضالي التحرّري عبر العصور أن تؤسّس منهجا في حبّ الأرض. وأنا قامت سعادتي كجزائري على حبّ الجزائر منذ فتحت عينيّ على العَلَم الوطني منذ كنت طفلا في تونس مع الأهل. وحين عدت مع الأهل وعمري 14 عاماً أذهلني جمال الصحراء. ومع انتقالي إلى الدراسة، ثم بروز موهبتي الشعرية كانت سعادتي ولا تزال في كتابة القصائد.
محمد زير (مخرج سينمائي): "بحسب الوقت الذي عشتُ فيه، قبل السبعينيّات كان الجزائري سعيداً سواء كان مثقّفاً أو شخصاً عادياً. كان على علاقة بالطبيعة وكان يفهم ما هو العمل الحقيقي الذي يقدّم له السعادة. حتّى المكان كان طبيعياً، يمنحنا سعادة روحية وليس عبر قيمة مادية. ورغم الرعب، من طرف الاستعمار، إلا أنّ السعادة كانت حاضرة... وبدأت تتلاشى بعد فترة من الاستقلال. حين ظهرت الأنانية وأصبح الناس يجرون وراء المال، فسيطر على العقل بدل الطبيعة.