عدّد مراقبون مصريون أسباب عدم خروج المواطنين في "غضبة شعبية" ضد نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، على وقع قرارات رفع أسعار السلع والخدمات العامة، التي يعاني من تبعاتها السواد الأعظم من المصريين، نتيجة تهميش دور الأحزاب، وتغييب الحركات السياسية عن الشارع، من جراء الضربات الأمنية المتلاحقة لها، وتوسع السلطة في حملات الاعتقال التعسفي بحق المعارضين.
ووفق الإحصائيات الرسمية، يقبع نحو 40 في المائة من المصريين تحت خط "الفقر المدقع"، بينهم 27 في المائة لا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية، في وقت تتأهب فيه حكومة السيسي لتطبيق زيادات جديدة على أسعار المواد البترولية والكهرباء والغاز والمياه، علاوة على تذاكر القطارات، التي يرتادها الملايين من "البسطاء" يومياً، قبيل بدء العام المالي الجديد في الأول من يوليو/تموز المقبل. وبالرغم من أن العاصمة القاهرة شهدت على مدار الأيام الماضية حراكاً شعبياً، وفعاليات احتجاجية متفرقة، إثر القرارات الاقتصادية، التي تصفها الحكومة بـ"الصعبة"، إلا أن تلك الاحتجاجات لا تزال محدودة التأثير، ولم تكتسب زخماً جماهيرياً في ضوء سياسة الترهيب التي ينتهجها السيسي، والقبض على عشرات المحتجين من داخل محطات مترو الأنفاق، اعتراضاً على زيادة أسعار التذاكر بنسبة 350 في المائة.
ويرى مراقبون أن حالة "الغضب المكتوم" لدى قطاع عريض من المصريين قد تُنذر باشتعال "المشهد الاحتجاجي" مجدداً في البلاد، غير أن ترجمتها على الأرض تتطلب منح الأحزاب والقوى السياسية مساحة أكبر للتحرك، وهو ما لن يقبله نظام السيسي تحت أي ضغط، على الأقل خلال المرحلة الراهنة، في ضوء ما يقدمه من قرابين للخارج، في ملفات "شراء الأسلحة" و"القضية الفلسطينية" و"الهجرة غير الشرعية". وتوالي غالبية الأحزاب القائمة نظام السيسي، إما تخوفاً من بطش أجهزته الأمنية، على غرار حزب "الوفد" الذي عين أخيراً متحدث الجيش السابق، محمد سمير، في منصب مسؤول الشباب، أو لتشكيلها من الأصل بواسطة هذه الأجهزة، على غرار حزب "مستقبل وطن" المدار بمعرفة جهاز الاستخبارات الحربية، أو ائتلاف الغالبية في البرلمان "دعم مصر"، المشكل داخل مقار جهاز الاستخبارات العامة.
على الجانب الآخر، يبدو أن أحزاب ما يعرف بـ"التيار الديمقراطي" قد تفككت، من جراء الحصار الأمني المفروض عليها، وهي جبهة تضم أحزاب الدستور، وتيار الكرامة، والتحالف الشعبي الاشتراكي، والعدل، ومصر الحرية، والمصري الديمقراطي الاجتماعي، والعيش والحرية (تحت التأسيس)، وكانت قد أعلنت مقاطعتها "مسرحية الرئاسيات"، إثر تقديم بلاغات إلى النائب العام ضد مجموعة من قياداتها. واعتبرت تلك الأحزاب أن مقاطعة الانتخابات الرئاسية "حق دستوري"، وإعلان موقف من "معركة هزلية"، في مواجهة دولة فرغت الانتخابات من مضمونها، وأغلقت كل الأبواب أمام كل محاولات وجود حقيقي لها، وهو ما تضامنت معه مجموعة كبيرة من النشطاء، مؤكدين أن مشروع السيسي هو "بناء دولة الإفقار الديكتاتورية، التي تصادر الحريات العامة، وتنحاز ضد حقوق الغالبية العظمى من المواطنين".
وأعلن حزب "الدستور"، الذي أسسه نائب رئيس الجمهورية السابق، محمد البرادعي، في إبريل/نيسان 2012، قبل أيام قليلة، تجميد كافة أنشطته، بذريعة تركيز الجهود على الدعوة لانعقاد المؤتمر العام للحزب، وإجراء انتخابات جديدة في رئاسته، بعدما تقدم كل من أحمد بيومي وخالد داوود باستقالتيهما من رئاسة الحزب، واللذين كانا يتنازعان على رئاسته منذ مطلع العام 2017. بدوره، جمد حزب "مصر القوية" نشاطه السياسي بشكل مؤقت، في أعقاب اعتقال رئيس الحزب، عبد المنعم أبو الفتوح، ونائبه محمد القصاص، في فبراير/شباط الماضي، لانتقادهما، في تصريحات إعلامية، أداء السيسي لما وصفه الحزب بـ"تصاعد أجواء البطش، والاستبداد، وقمع المعارضين السلميين، والانسداد الكامل للحياة السياسية في مصر، وإغلاق النظام الحاكم كل أبواب الممارسة الديمقراطية، وتداول السلطة".
وفي ما يتعلق بالحركات الشبابية، انتهى الحال بمعظم أعضاء حركة "السادس من إبريل"، إحدى أيقونات الثورة المصرية، ما بين حبيس ومطارد ومهجر، كغيرهم من أعضاء جبهات المعارضة السلمية، التي تكتفي الآن بإصدار البيانات المهاجمة النظامَ، من دون تنظيم فعاليات على الأرض. وتعود تسميتها إلى إضراب عمال شركة "غزل المحلة" في العام 2008، احتجاجاً على تدهور الأوضاع المعيشية إبان عهد الرئيس المخلوع، حسني مبارك. ويقبع أكثر من 60 ألفاً من المعتقلين السياسيين في السجون المصرية، وفق تقدير المنظمات الحقوقية غير الحكومية، تنتمي غالبيتهم إلى جماعة الإخوان المسلمين التي نالت النصيب الأوفر من قمع السلطة العسكرية الحاكمة، التي صنفتها بـ"الجماعة الإرهابية" من دون دلائل، ودفعت الثمن الباهظ من انقلاب الجيش على الرئيس المعزول، محمد مرسي، في 3 يوليو/تموز 2013.
احتجاجات متفرقة
وشهد مبنى التلفزيون الرسمي في "ماسبيرو"، أخيراً، وقفة احتجاجية نظمها عدد من الموظفين الذين أحيلوا إلى التقاعد، اعتراضاً على تأخر صرف مكافآت نهاية الخدمة والمعاشات الشهرية، رغم مرور أكثر من عام على تقاعدهم، والتي تركت حالة من القلق والتوجس لدى أمن المبنى التابع للحرس الجمهوري، الذي تصدى عناصره للتظاهرة بعد هتاف المحتجين ضد السيسي، واتهامه بالاستيلاء على أموال المعاشات. ووصل حجم أموال التأمينات في مصر إلى نحو 755 مليار جنيه (42.8 مليار دولار) بنهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي. وتعود الأزمة إلى عهد مبارك، ووزير ماليته الأسبق، بطرس غالي، عندما قررت الحكومة الاستيلاء على أموال التأمينات، لاستخدامها في سد عجز الموازنة العامة، مقابل إصدار صكوك لمصلحة صناديق التأمينات بفائدة سنوية تتراوح بين 8 و9 في المائة، ومنذ ذلك الحين تحولت تلك الأموال إلى سندات وديون على خزانة الدولة. وخالفت حكومة السيسي، بدورها، المادة 17 من الدستور المصري، الصادر في العام 2014، والتي تنص على أن "أموال التأمينات والمعاشات أموال خاصة، تتمتع بجميع أوجه وأشكال الحماية المقررة للأموال العامة، وهي وعوائدها حق للمستفيدين منها، وتستثمر استثماراً آمناً، وتديرها هيئة مستقلة، وفقاً للقانون، وتضمن الدولة أموال التأمينات والمعاشات".
واتهمت نيابة أمن الدولة العليا 20 شخصاً "بارتكاب جرائم الاشتراك مع جماعة أنشئت خلافاً لأحكام القانون، بهدف منع مؤسسات الدولة من مباشرة عملها، والتجمهر المخل بالأمن والسلم العام، ومقاومة السلطات"، وذلك على خلفية الاحتجاجات التي شهدتها محطات المترو، رداً على ارتفاع أسعار التذاكر. وتعاملت معها السلطات بتعزيز الوجود الشرطي، والاستعانة بـ"بلطجية" تابعين للأمن، للحيلولة دون اتساع رقعتها. غير أن محافظة البحيرة شهدت احتجاجات أكثر شدة، الأربعاء 23 مايو/أيار الماضي، حين اقتحم العشرات من أهالي مركز كفر الدوار، التابع لمحافظة البحيرة بدلتا مصر، مقر شركة مياه الشرب في المركز، وحطموا جميع محتويات المبنى، بعدما اشتبكوا مع الموظفين الموجودين بالشركة، نظراً لانقطاع المياه عن السكان منذ 10 أيام بالتزامن مع شهر رمضان. وقال شهود عيان، لـ"العربي الجديد"، إن الأهالي توجهوا إلى مقر الشركة من أجل الحصول على إجابات شافية عن سبب انقطاع المياه كل هذه الفترة، إلا أنهم لم يجدوا إجابة لدى العاملين بالشركة، ولذا اشتبكوا مع الموظفين وقاموا بتحطيم محتويات الشركة. وبحسب مصادر أمنية، إن اقتحام الأهالي مقر شركة مياه الشرب أدى لإصابة 3 موظفين، والقبض على 5 من الأهالي، في سبيل عرضهم على النيابة العامة.
خفض الدعم
وقال مصدر مطلع في وزارة التموين، لـ"العربي الجديد"، إنه تم الاتفاق مع جهات سيادية في الدولة على تقليل حصة الدعم من خمسة أرغفة يومياً للمواطن إلى ثلاثة أرغفة فقط. وكانت الوزارة قد أصدرت، في يوليو/تموز من العام الماضي، تقريراً رسمياً، بشأن معدل استهلاك الفرد الخبزَ، أكدت خلاله أن المعدل لا يزيد عن 3.8 أرغفة، ما دفعها إلى دراسة مقترح بتقليل حصة الفرد من أرغفة الخبز، مع زيادة فارق نقاط الخبز من 10 لـ 20 قرشاً للرغيف في حال قيام الفرد بتوفيره. وتقول أستاذة الاقتصاد في جامعة القاهرة، شيرين الشواربي، التي شاركت في إعداد تقرير: "دعم الغذاء في مصر بين المنفعة والتسرب"، الصادر عن البنك الدولي في العام 2010، إن دعم الخبز شارك بلا شك في حماية المصريين من الوقوع في الفقر، مشيرة إلى أن "الدعم الغذائي في مصر، رغم عدم كفاءة توزيعه، ما نال حيزاً واسعاً من البحث، انتشل 9 في المائة من المصريين من الفقر، وكان للخبز البلدي المدعم تحديداً أكبر أثر في ذلك".
تحذير أمني
في موازاة ذلك، قال مسؤول أمني رفيع المستوى، لـ"العربي الجديد"، إن جهاز الأمن الوطني التابع لوزارة الداخلية رفع تقريراً إلى رئاسة الجمهورية، يحذر فيه من احتمال اتساع دائرة الغضب من جراء الإجراءات الاقتصادية المرتقبة والخاصة برفع الأسعار، مشيراً إلى أن التقرير حذر من خطورة خروج تظاهرات تشمل جميع محافظات مصر، وهو الأمر الذي يصعب من مهمة الوزارة في التعامل معها. وكان النائب الأول لمدير عام صندوق النقد الدولي، ديفيد ليبتون، قال، بداية مايو/أيار الماضي، إن تأخر مصر في تنفيذ إصلاحات دعم الطاقة، يمكن أن يؤدي مرة أخرى إلى تعريض الموازنة لمخاطر ارتفاع أسعار البترول. ويتوقع خبراء رفع أسعار الطاقة مرتين خلال العام المالي الجديد (2018/2019)، وهو ما سيؤدي بدوره إلى رفع أسعار كافة السلع الاستهلاكية، والخدمات المقدمة للمواطنين.
هجمة شرسة
وبالتزامن مع بدء السيسي فترة ولايته الرئاسية الثانية، شنت السلطات الأمنية هجمة شرسة على العشرات من النشطاء، والمدونين، والمدافعين عن حقوق الإنسان، حيث ألقت القبض على المدون وائل عباس، والناشط السياسي حازم عبد العظيم، والناشطين هيثم محمدين وشادي الغزالي حرب. وتتنوع التهم التي توجهها النيابة إلى النشطاء بين الانضمام إلى جماعات محظورة، ونشر أخبار كاذبة، والدعوة إلى تعطيل الدستور. وفي مقابل ذلك، استنكرت جهات دولية عدة حملات القبض على النشطاء في مصر، إذ أعرب الاتحاد الأوروبي عن قلقه الشديد إزاء ازدياد عمليات اعتقال المدافعين عن حقوق الإنسان. وقالت الناطقة باسم وزارة الخارجية ودول الجوار في الاتحاد الأوروبي، مايا كوتشيانتشيتش: "لا يمكن أن يسير الاستقرار والأمن المستدامان، إلا مع الاحترام التام لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، بما يتماشى مع دستور مصر، والتزاماتها الدولية".