10 نوفمبر 2024
مجابهة الموت بالحياة
إثر الاعتداءات الإرهابية التي شهدتها باريس، وسقط ضحيتها عدد كبير من الشابات والشبان في مواقع مُختارة بعناية لضرب نموذج العيش الفرنسي، دعتني جامعات للتحدث إلى طلابها من الصفوف الأولى إلى الدراسات العليا. وحسبما جاء في الدعوات، عبّر القائمون على هذه المؤسسات العلمية والبحثية عن وعيهم الكامل بالحمولة الخطيرة، رمزياً وفعلياً، لمثل هذه العمليات الإرهابية. فمن جهة، غلب على الضحايا العنصر الشاب. ومن جهة الأهداف، كانت أماكن التسلية والترفيه ومحبة الحياة. ومن جهة الفاعلين، استعملوا حجةً دينيةً واضحة، تلطوا برمزيتها لقتل الإنسان. وما يستتبعه هذا من خطر تحميل المسؤولية إلى فئة بعينها، وتبعات هذا التصرف على مسألة التجانس والانسجام لدى الشباب.
كان من الصعب رفض هذه المهمة أو قبولها، لما تحمله من موازنات دقيقة ومسؤولية أكاديمية وإنسانية. فاختيار التعابير والجمل أساسي في مثل هذه الأمكنة، خصوصاً بعد أيامٍ قليلةٍ من الحدث. فوسائل الإعلام حفلت بالغث والسمين في معالجتها الحدث. وضرورة السرعة في التحليل أدت إلى الاستعجال في الاستنتاج. وقفز مشهورون إعلامياً، من المحللين وغيرهم، إلى استخلاصات متسرعة وإلى اتهامات تعميمية أو غير دقيقة.
كما قفز سياسيون، فرنسيون أساساً وأوروبيون عموماً، من اليمين واليمين المتطرف، على الفرصة الذهبية التي أفسحتها هذه الأحداث، ليستثمروها قدر ما يمكن في خضم معاركهم السياسوية والانتخابية. خصوصاً أن فرنسا على أبواب انتخابات إقليمية، يُعوّل عليها اليمين المتطرف لاقتحام المشهد السياسي المحلي بقوة. ومن جهتها، تقوقعت بعض المجموعات، التي اعتبرت أنها مُستهدفة في الرهاب العمومي، وتبنت خطاباً برّأت نفسها من خلاله من أية شكوك يمكن أن تلوح في الأفق. وصار مطلوباً من كل مسلم أن يكرّر اللازمة الإعلامية الهزيلة التي تدفع إلى التصريح بأن "هؤلاء القتلة لا يمثلون الدين الإسلامي". يؤتي هذا الموقف الدفاعي عكس أُكله، بحيث إنه يفرض على كل من انتمى إلى الإسلام أن يُميّز نفسه عن المجرمين. وفي تناقض صارخ، يتقبّل بعض المجتمع السياسي والإعلامي الفرنسي هذا الموقف من المسلمين، بل ويدعو إليه، إثر كل عمل إرهابي، لكنه، في المقابل، يرفض أي ربط مشابه أو تحليلٍ موازٍ إثر قيام أشخاصٍ من دياناتٍ أخرى بعمليات قتل فردية أو جماعية، فهو لا يُطالب اليهود بالتبرؤ من مجرمين متطرفين، ينتمون إلى ديانتهم مثلاً.
أمام هذه التحديات والصعوبات وسواها، كان التحضير للمداخلات أمام الطلاب عبئاً ثقيلاً
وممتعاً. وكان من اللازم التحسّب من نوعين من ردود الفعل الأساسية: الرد التعميمي والحانق بحق دينٍ بعمومه، كما بحق المنتمين إليه من جهة، ورد الفعل التبريري والتبسيطي الذي سيُلقي باللائمة، سهلة وسريعة الإلقاء، على المجتمع الفرنسي والتمييز والمؤامرات من جهة أخرى. حيث إن من أبرز إيجابيات النظام التعليمي الفرنسي وجود التنوّع بين الطلبة وتطوره على المستويات الإثنية والدينية والطبقية كافة.
يضاف إلى هذا كله، ضرورة التوعية، على الرغم من الصدمة، على أن مشكلة الإرهاب الرئيسية تكمن في تطور الأنظمة الاستبدادية التي يخرج التطرف من عباءتها غالباً، ويترعرع في أنماط ظلاميتها مهما ادعت من تعلمنٍ أو من تقدميةٍ تملأ صفحات أدبياتها السياسية المملة. كما يتوجب إبراز المقتلة السورية قضية إنسانية حقوقية عادلة، بعيداً عما يُريد لها الاستبداديون والظلاميون من أن تكون قضية إرهاب ومواجهات مسلحة.
حوارات انطلقت بتمهيد تاريخي، حاول أن يستعرض أهم المحطات التي أودت، فكراً وممارسة، إلى مثل هذا "المصير". وتلى التمهيد بعضٌ من التحليل الموجز لسياسات عدد من الدول العربية والاسلامية، وكيفية تعاملها مع المسألة الدينية، استقطاباً واستغلالاً وتجهيلاً وتفرقةً. كما تم تحليل الدور الذي لعبته القوى الخارجية، بطرق مختلفة، وبأهداف تكاد تكون عموماً متناقضة. كما اهتم الحضور باستعراض تاريخ الفكر الإسلامي ومدارس التنوير ومدارس التشويه وكواليسها السياسية والسلطوية، بعيداً عن التطييف المُحبّذ لدى معتنقي "الفاست" تحليل.
أسعدتني، إن جاز التعبير، النسبية في التعليقات على الحدث، فكان الطلاب قادرين تماماً على تفهّم الطرح المتعلق بسعي القتلة، أساساً، إلى الانتصار في حرب إعلامية ترهيبية، وإبعاد النظر عن بؤر القتل المستمر في سورية وفي غيرها. وتوسعوا أيضا في السؤال عن اللاجئين السوريين، وإمكانيتهم المحدودة كطلبة، في تقديم يد العون والتعاون في هذا الملف. بالتأكيد، من تم التوجه إليهم كانوا، في أغلبهم، طلبة العلوم الإنسانية، ووعيهم السياسي، أو على الأقل المجتمعي، متقدم على أترابهم في الاختصاصات الأخرى.
كان الخوف والحزن والغضب صارخاً في عيون الشابات والشبان، لأنهم، إن لم يفقدوا قريباً أو صديقاً، فقد فهموا الرسالة الأساسية للقتلة: متعتكم هي عذابنا، فرحكم هو حزننا، حياتكم هي موتنا. وفي المقابل، خرجوا غالباً مع بعض مقومات استرجاع الأمل بأنهم جميعاً، ومن الأصول والأعراق والأديان المختلفة، واعون إلى أهداف المجرمين، وسيثبتون، في حياتهم العملية، بأنهم قادرون على مجابهة الموت بالحياة، والحقد بالحب، والتطرف بالانفتاح.
كان من الصعب رفض هذه المهمة أو قبولها، لما تحمله من موازنات دقيقة ومسؤولية أكاديمية وإنسانية. فاختيار التعابير والجمل أساسي في مثل هذه الأمكنة، خصوصاً بعد أيامٍ قليلةٍ من الحدث. فوسائل الإعلام حفلت بالغث والسمين في معالجتها الحدث. وضرورة السرعة في التحليل أدت إلى الاستعجال في الاستنتاج. وقفز مشهورون إعلامياً، من المحللين وغيرهم، إلى استخلاصات متسرعة وإلى اتهامات تعميمية أو غير دقيقة.
كما قفز سياسيون، فرنسيون أساساً وأوروبيون عموماً، من اليمين واليمين المتطرف، على الفرصة الذهبية التي أفسحتها هذه الأحداث، ليستثمروها قدر ما يمكن في خضم معاركهم السياسوية والانتخابية. خصوصاً أن فرنسا على أبواب انتخابات إقليمية، يُعوّل عليها اليمين المتطرف لاقتحام المشهد السياسي المحلي بقوة. ومن جهتها، تقوقعت بعض المجموعات، التي اعتبرت أنها مُستهدفة في الرهاب العمومي، وتبنت خطاباً برّأت نفسها من خلاله من أية شكوك يمكن أن تلوح في الأفق. وصار مطلوباً من كل مسلم أن يكرّر اللازمة الإعلامية الهزيلة التي تدفع إلى التصريح بأن "هؤلاء القتلة لا يمثلون الدين الإسلامي". يؤتي هذا الموقف الدفاعي عكس أُكله، بحيث إنه يفرض على كل من انتمى إلى الإسلام أن يُميّز نفسه عن المجرمين. وفي تناقض صارخ، يتقبّل بعض المجتمع السياسي والإعلامي الفرنسي هذا الموقف من المسلمين، بل ويدعو إليه، إثر كل عمل إرهابي، لكنه، في المقابل، يرفض أي ربط مشابه أو تحليلٍ موازٍ إثر قيام أشخاصٍ من دياناتٍ أخرى بعمليات قتل فردية أو جماعية، فهو لا يُطالب اليهود بالتبرؤ من مجرمين متطرفين، ينتمون إلى ديانتهم مثلاً.
أمام هذه التحديات والصعوبات وسواها، كان التحضير للمداخلات أمام الطلاب عبئاً ثقيلاً
يضاف إلى هذا كله، ضرورة التوعية، على الرغم من الصدمة، على أن مشكلة الإرهاب الرئيسية تكمن في تطور الأنظمة الاستبدادية التي يخرج التطرف من عباءتها غالباً، ويترعرع في أنماط ظلاميتها مهما ادعت من تعلمنٍ أو من تقدميةٍ تملأ صفحات أدبياتها السياسية المملة. كما يتوجب إبراز المقتلة السورية قضية إنسانية حقوقية عادلة، بعيداً عما يُريد لها الاستبداديون والظلاميون من أن تكون قضية إرهاب ومواجهات مسلحة.
حوارات انطلقت بتمهيد تاريخي، حاول أن يستعرض أهم المحطات التي أودت، فكراً وممارسة، إلى مثل هذا "المصير". وتلى التمهيد بعضٌ من التحليل الموجز لسياسات عدد من الدول العربية والاسلامية، وكيفية تعاملها مع المسألة الدينية، استقطاباً واستغلالاً وتجهيلاً وتفرقةً. كما تم تحليل الدور الذي لعبته القوى الخارجية، بطرق مختلفة، وبأهداف تكاد تكون عموماً متناقضة. كما اهتم الحضور باستعراض تاريخ الفكر الإسلامي ومدارس التنوير ومدارس التشويه وكواليسها السياسية والسلطوية، بعيداً عن التطييف المُحبّذ لدى معتنقي "الفاست" تحليل.
أسعدتني، إن جاز التعبير، النسبية في التعليقات على الحدث، فكان الطلاب قادرين تماماً على تفهّم الطرح المتعلق بسعي القتلة، أساساً، إلى الانتصار في حرب إعلامية ترهيبية، وإبعاد النظر عن بؤر القتل المستمر في سورية وفي غيرها. وتوسعوا أيضا في السؤال عن اللاجئين السوريين، وإمكانيتهم المحدودة كطلبة، في تقديم يد العون والتعاون في هذا الملف. بالتأكيد، من تم التوجه إليهم كانوا، في أغلبهم، طلبة العلوم الإنسانية، ووعيهم السياسي، أو على الأقل المجتمعي، متقدم على أترابهم في الاختصاصات الأخرى.
كان الخوف والحزن والغضب صارخاً في عيون الشابات والشبان، لأنهم، إن لم يفقدوا قريباً أو صديقاً، فقد فهموا الرسالة الأساسية للقتلة: متعتكم هي عذابنا، فرحكم هو حزننا، حياتكم هي موتنا. وفي المقابل، خرجوا غالباً مع بعض مقومات استرجاع الأمل بأنهم جميعاً، ومن الأصول والأعراق والأديان المختلفة، واعون إلى أهداف المجرمين، وسيثبتون، في حياتهم العملية، بأنهم قادرون على مجابهة الموت بالحياة، والحقد بالحب، والتطرف بالانفتاح.