كان من المتوقّع أن يُكرّر الحضور الأردني ما حدث مع "العلاّمة" في المغرب، وإحراجه بأسئلةٍ علميّةٍ تضعهُ ونظرياته التأويليّة على المحك، وأنّ كثيرًا من الشباب لم يأتوا إلّا لوضع النّجار في أضيقِ الزوايا وأحلكِ الظّروف، ليحطّموا "زجاجة علومه". ولمّا عُرف عن الاتجاه الإسلامي -المسيطر على النقابات والمنظّم للمحاضرة- من تعنّت واستفراد بالقرارات؛ فكان من المتوقّع أيضًا أن يعمل المنظّمون على قمع المخالفين لطروحات ضيفهم، ولم يكن مستغربًا منعُهم الأسئلة؛ فالسؤال جحيم المجيب عندما يكون مُدّعيًا. أما ما يحتاجُ للتّبرير، فهو الإصرارُ على عقد المحاضرة مع العلم المسبق أنّ "فضيلته" ليس أهلًا للإجابة على الأسئلة.
وإن كان إصرارُ المنظّمين على عقد المُحاضرة، رغم عدم ثقتهم بقدرة الضّيف على تقديم حججٍ وبراهين على ما يطرحه، ومنعهِم للأسئلة، وافتقاد النجّار لأبسطِ أساسيّاتِ النّقاش العلميّ المتحضّر، إن كان كل هذا متوقّعًا، فثمّة أمرٌ آخر يحتاجُ لوقفة، ويتعلّق بردّةِ فعل بعض المُعارضين لطروحات زغلول النجّار.
الفيديو الذي وثّق منْع الجهة المنظّمة للأسئلة، وتحوّل بعضهم في لمحة بصر، من أُناسٍ متحضّرين باحثين عن العلم، إلى غوغائيين، ينطقون بعباراتٍ غير لائقة ويشحذون أسنانهم للقتال، وثّق أيضًا ردّة فعلٍ مشابهة من بعض المُحتجّين، الذين خلعوا عنهم رداءَ العِلم فورَ منعِ أسئلتهم، وباشروا بالصّراخ والتّنديد وتوجيهِ الاتهامات للضّيف والمنظّمين على حدٍّ سواء، وأبدى بعضهم استعدادًا للعراك، لتتحوّل المحاضرة من اشتباكٍ فكري إيجابيّ، كما هو مأمولٌ، إلى ساحةٍ للفوضى والذّم.
أتساءل لماذا لم يلتزم الحاضرون أماكنهم ولم يصرّوا على طرح الأسئلة بأسلوبٍ حضاريّ؟ لماذا اختاروا الصّوت على العقل، بينما كان "الطّرفُ الضّعيف" يحاول الخروج من المأزق الذي وضع نفسه فيه بهدوء؟ لماذا نجح المغاربةُ في طرح الأسئلة رغم محاولات منعها، ورغم إساءة النجار نفسه لأحد السائلين، بينما ذهبنا لتخريب المُحاضرة واستعراض قدراتنا الصوتية والعضلية؟
من المُستغرب حقًا إصرارُ "تيّار الإعجاز العلمي" على ربط العلم بالدّين عنوةّ، بتلاعبٍ على المعاني والألفاظ، يأتي دائمًا متأخرًا عن الاكتشافات العلمية؛ فلم يسبق أن خرج أحد هؤلاء العلماء باكتشاف عقاقير أو مجرّات أو خيوط جراحة استنادًا إلى نصٍّ ديني، بل اكتفى باللّهاث وراء العِلم ليربطَ أيّ مُنجزٍ جديدٍ بنصٍّ دينيّ سابقٍ عليه؛ وما نتج عن أفكار هذا التيّار، لم يتسبّب إلا في مزيدٍ من الإحراج والإساءة لروحانيّة الدّين وأخلاقيّاته، وخيرُ مثال ما يحدث، وسيحدث مجدداً باعتقادي، مع زغلول النجار.
لكنّ المؤسف أكثر، أن يذهب بعض الدّاعين لحريّة الفكر والاعتقاد، إلى المطالبة بإلغاء المحاضرة، ثم الانتقال لمرحلة التشويش والتخريب، بدلًا من تقديم وجهة نظرٍ علميّة مُحترمة، وطرحٍ يحترم العقل والإنسان، ويأخذ بعين الاعتبار أنّ رجلًا يتعكّز على ثمانين عامًا من العمر، ومهما اختلفنا معه، يستحقّ أن يُعامل باحترام، وأن يواجه فكرهُ بفكر، لا بالإهانة، وأنّ الهبّات العنتريّة والشتائم ليست بديلًا أبدًا عن العِلم في مواجهة الخُرافات، وأنّ صرخةَ "دجّالين" ليست أكثر من صرخةٍ فارغة، مضغَ الجمهورُ الواقفُ في منتصف الطريق بين النّجار وبينكم، محتواها ومضى، ربّما ليقرأ كتب زغلول النجّار بهدوء. فمن هو الخاسر في كل الذي حدث؟