رغم توقّف حركتها منذ سنوات بسبب التدمير والأعطال، لا يزال عامر عبد الله يتفقد باستمرار قاطرته في محطة الموصل التي كانت يوماً صلة وصل بين العراق والعالم.
وجراء النزاعات والسياسة، فإن مسار "توروس إكسبرس" الذي ربط منذ بداية القرن العشرين البصرة في جنوب العراق، بتركيا، امتداداً بخط "أورينت إكسبرس" (باريس-فيينا- إسطنبول)، تقلص تماماً.
بعيد الغزو الأميركي للعراق، انخفضت حركة السكك الحديدية في الموصل بشكل كبير، وواصل قطاران فقط المغادرة كل أسبوع باتجاه غازي عنتاب في تركيا، حتى صيف عام 2010.
يقول عبد الله (47 عاماً) الذي كان يسمّي قاطرته "الحبيبة"، إنه "قبل ظروف الموصل كنت أنقل المسافرين والبضائع يومياً من الموصل وإليها، باتجاه بغداد والمحافظات وسورية، وأستمتع بعملي الذي حرمت اليوم منه".
لا تزال آثار الخراب والقصف واضحة في كل زاوية على أرض محطة قطار الموصل، بعدما حولتها التفجيرات إلى كتلة من الأنقاض، وهدمت أبنيتها التاريخية، فيما طاول التخريب غالبية خطوط السكك وخرجت عن مسارها.
أما القطارات، التي أوقفت يوماً صفيرها كرمى لعيون الفنانة اللبنانية صباح، حين أحيت حفلاً غنائياً في المدينة، باتت اليوم هياكل حديدية صدئة بلا أبواب ولا نوافذ ولا مقاعد.
ويستذكر علي عكلة (58 عاماً)، وهو أب لسبعة أبناء، كيف كان يدفع "ألفا وألفي دينار فقط (أقل من دولارين)" للسفر إلى بغداد أو المحافظات.
ويضيف "سابقاً، كنت أشحن بضائع من بغداد والمحافظات الأخرى إلى الموصل، عبر القطارات بتكلفة مالية مناسبة، وضمان إيصال البضاعة من دون تأخير أو أضرار".
ملحقات ومرافق عدة كانت تضمها محطة قطار الموصل، منها قاعة ملكية كبيرة تعود للملك فيصل الأول، وتعتبر أقدم قاعة ملكية في العراق، بحسب ما يقول المهندس في المحطة محمد عبد العزيز، الذي بات عاطلاً عن العمل تقنياً منذ سنوات.
يقول عبدالعزيز إن "المحطَّة كانت تضم دار استراحة، وفندقاً يعتبر الأقدم في الموصل، ومقهى وحدائق وكراجات لوقوف السيارات وعربات نقل الركاب التي تجرّها الخيول".
ويضيف أن "واردات المحطة كانت تشكل مصدر عيش لمئات العائلات، كالموظفين والعمال والباعة وأصحاب المحال والمطاعم والكازينوهات وسائقي الأجرة وغيرهم".
فعبر الموصل في الأول من حزيران/يونيو عام 1940، وصل أول قطار من بغداد إلى إسطنبول. لكن العاصمة اليوم لم تعد مربوطة إلا بالفلوجة غرباً، وكربلاء والبصرة جنوباً. وهو مستوى بعيد جداً عن 72 رحلة يومية كانت تسيّر على ألفي كيلومتر من السكك الحديدية في حقبة ما قبل الحصار الذي فرض على العراق في التسعينيات.
قبل زمن، كان العراق في طليعة التقدم والتطور في الشرق الأوسط. فمنذ عام 1869، كان الترامواي موجوداً في بغداد، ولكن لم يبق منه شيء اليوم، لا العربات الخشبية الأنيقة ولا حتى السكك التي ابتلعها التمدد العمراني في العاصمة.
ذكريات جميلة تربط العديد من الموصليين بقاطرات المحطة
احتضار محطة الموصل كان طويلاً. ففي 31 آذار/مارس عام 2009، فجرت شاحنة مفخخة جزءاً منها. وفي الأول من تموز/يوليو 2010، غادر آخر قطار بتذكرة ذهاب فقط إلى غازي عنتاب التركية. لكن ثالث مدن العراق، التي كانت يوماً مركزاً تجارياً للشرق الأوسط، صارت خراباً بفعل المعارك ضد تنظيم الدولة الإسلامية بين عامي 2014 و2017.
يقول معاون مدير سكك المنطقة الشمالية المهندس قحطان لقمان إن "نسبة دمار المحطة قبل وخلال استعادة الموصل وصلت إلى 80%".فلا يزال أثر الرصاص واضح المعالم على الأعمدة والأرصفة وواجهة المحطة، وبالكاد يمكن رؤية الفسيفساء التي كانت تغطي أرض وجدران القاعة.
ويوضح لقمان أن "إعادة الإعمار تشوبها معوقات مالية، ولا يوجد سقف زمني".
ذكريات جميلة تربط العديد من الموصليين بقاطرات المحطة، كما تقول نور محمد (37 عاماً). وتتذكر حين كان عمرها "عشر سنوات، كانت جدتي تأخذنا بسفرات في القطار من الموصل إلى حمام العليل ومعنا عائلات كثيرة من الأقارب والجيران".
باختفاء هذه المحطة يختفي جزء من تاريخ العراق، ومدينة الموصل الاستراتيجية على الحدود مع سورية وتركيا. ويقول مدير محطة قطار الموصل محمد أحمد "لقد زار محطة قطار الموصل على امتداد تاريخها العديد من الرؤساء والملوك والمسؤولين الكبار والفنانين المعروفين" ففيها طورت الروائية البريطانية أغاثا كريستي مغامراتها البوليسية، وغنت "كوكب الشرق" أم كلثوم في قاعة الاستقبال الملكية.
(فرانس برس)