مِمّن ظلمهم التاريخ وغَمَط إسهاماتِهم الجليلة، مفكّرٌ تعددت انتماءاتُه الجغرافية، فلم يسكن عن الترحال عبر أرجاء العالم الإسلامي، كما لم يقرّ له في آفاق الفكر الرحيبة قرار. هو المفكر الشيخ مُحمد الخَضِر حُسين (1876 - 28 شباط/فبراير 1958) الذي كان من أنشط وجوه النهضة العربية، ذات التوجه الإصلاحي العقلي.
حمل لواء تجديد الخطاب الديني واللغوي، وكابد في سبيله عذابات التنقل بين مراكز الإشعاع الثقافي وقتها، من تونس، موطنه الأصلي، نحو دمشق والقاهرة والآستانة، مروراً ببلدان أوروبا، وخاصة ألمانيا، حيث عمرت مسيرته الحافلة بأعمالٍ هادفة إلى تطوير الضاد، وتبيين معقولية الخطاب الديني، وإعادة قراءة التاريخ الإسلامي، في وقتٍ انتقد فيه دُعاة الحداثة التغريبية التراثَ، ودعوا إلى القطع معه بالكلية، بعدما رأوا فيه عائقاً أمام الحرية والوعي.
تلقى الخضر حسين تكويناً تقليدياً متيناً في بلدة نفطة، بالجنوب التونسي، وكانت تُسمى آنذاك، وهذا من طرائف التاريخ الثقافي، "كوفة المغرب"، لكثرة مَن فيها من أفذاذ اللغة، العارفين بمعضلاتها والماهرين في تخريجات غريبها. ومنها انتقل إلى جامع الزيتونة حيث أرهف ملكاتِه في التعبير والتحرير، وثمةَ التقى بنخبة العلماء والمفكرين الذين تبنّوا الفكر الإصلاحي منهجاً، وسعوا إلى نشره عبر إصدار المجلات وتحبير المقالات وبعث الجمعيات.
وعلى امتداد ستة عقودٍ، تميّز عمله بالعودة إلى النص القرآني باعتباره المرجعية القِيمية الرئيسة، وشيَّد وفقها رؤاه ومواقفه الإصلاحية في مقاومة الجمود. فطوَّر في تفسيره "أسرار التنزيل"، المنهج الموضوعي، حيث يعتبر من أول واضعيه ومستخدميه: فقد أقام تفسيره للقرآن، لا على أساس الشرح الخطي الذي يتناول الآيات واحدة تلو الأخرى ويفك غامضها، بل حسب محورٍ ما، يتابعه ويستوفيه من خلال شرح كل الآيات المتصلة به. ونظراً إلى كثرة الموضوعات التي يتضمنها النص القرآني، فقد ركز هذا العالِم على المحاور التي تتصل بالمجال الإصلاحي مثل مفاهيم العمل والحرية والعقل، ثم استقصاها في أبحاث معمقة معتمداً صيغ ورودها في القرآن.
ومن المظاهر اللافتة في مسيرته العلمية، تصديه العلمي للرد على كتاباتٍ نقدية، اعتبرت وقتها تهديداً لهوية المسلمين ومساساً بشخصيتهم الثقافية والتاريخية. فمن جهة أولى، رد على كتاب طه حسين، حول "الشعر الجاهلي"، وأطروحة وضعه، وردَّ ثانياً على علي عبد الرازق، في "الإسلام وأصول الحكم"، الذي نفى شرعية الخلافة واعتبرها مجرد هيئاتٍ بشرية، لا أساس شرعيا لها.
وتجدر الملاحظة أن ردوده هذه لم تتخذ أرضية دينية، وإلا أسيءَ فهمُها وفقدت قيمتها، فليست المسألة عنده متصلة بمضامين الاعتقاد، بل هي ذودٌ عن مقومات الهوية الثقافية، ودفاع عن تاريخ أمةٍ، تعاقبت عليها الهجمات يسددها أبناؤها في الداخل، وأعداؤها من الخارج. ولذلك تحسُن إعادة قراءة هذين الرَّديْن لا بمنطق الرؤية الدينية، بل من خلال إمساك الشيخ بضرورة تاريخية: الحفاظ على ثوابت الهوية الإسلامية، في سياقٍ استعماريٍّ ومساعٍ تغريبية ماكرة.
وتبعاً لذلك، تصدّى شيخ الأزهر (من 1952 إلى 1954) إلى القضايا الاجتماعية التي شغلت آنذاك الفكر العربي إثر احتكاكه بالغرب الحديث، مثل قضايا تعدّد الزيجات، وتقليد الغرب، واختلاط الجنسين ولباس المرأة ومعركة السفور. فحاول تقديم إجابات متسقة مع المرجعية الدينية، تعتمد مبدأ منهجياً ثابتاً: التذكير بوجهة النظر الفقهية، مع بيان معقوليتها وحِكمتها، أي الأغراض والمقاصد الرامية إلى تحقيقها، ضمن الرؤية المقاصدية التي أرساها صديقه الطاهر ابن عاشور (1879-1973).
وبعد ذلك، اقتراح تعديلٍ للحُكم الشرعي، أو تحييده أو وضعه في سياقه، أو تضييقه حسب ما تمليه عليه ملكته الاجتهادية في استقراء المقاصد وتحقيق المصلحة. ولعل أوضح مثال على تمشيه هذا موقفه من تعدد الزيجات الذي يعتبره مباحاً بسبب انعقاد اجتماع الأمة عليه، ولكنه، وهذا مناط الاجتهاد والإصلاح لديه، يوكل لولي الأمر أيْ للسلطة السياسية إمكانية تعطيل هذه الإباحة إذا اقتضت مصلحة الأمة ذلك.
ولئن أجاد في مجال الاجتهاد فبفضل تمكنه من متن اللغة العربية، حيث خصّص أبحاثاً عديدةً لتحقيق معاني مفرداتها ودلالة حروفها وعباراتها، إبعاداً لكل أشكال الاضطراب في آراء الأقدمين واتساع إحالاتهم. ولذلك ركز في فصوله التفسيرية على التثبت من المعاني الدقيقة وفويرقاتها التي تسم كل مفردة وعبارة. ثم وظف هذه التحقيقات اللغوية في بيان معقولية النص المنطقية، وإظهار تماسكه الداخلي وترابط أحكامه ضمن رؤية متكاملة.
وقد عرض لهذه الآراء اللغوية في كتب قيِّمة مجهولة مثل: "بلاغة القرآن"، الرامي إلى التدليل على جمالية هذا النص، حتى يظل مرجعية تطوير الضاد وإحيائها وإخراجها من دائرة التكلف والتخلف، وله أيضاً كتاب "دراسات في العربية وتاريخها" الذي يشمل مجموعة من المسائل المتعلقة بخصائص اللغة وخاصة بحثه المطوّل الذي قدّمه لنَيْل عضوية "هيئة كبار العلماء" في الأزهر"، وعنونه "القياس في اللغة العربية"، إلى جانب نظراتٍ أخرى في النحو والصرف والتوليد المعجمي... وتندرج هذه المجهودات ضمن التنصيص على ضرورة اعتماد الفصحى وخصائصها لتكون حاملةً للفكر الحديث رداً على دعوات التبسيط واعتماد الدارجة.
ويُسجّل لهذا المفكر المغمور دراسات معمّقة في التاريخ الإسلامي، وهي دراساتٌ تتبع نفس الرؤية الإصلاحية التي تعود إلى التاريخ وتوظفه من أجل الاستمداد من مظاهر التقدم فيه واعتماده لرفد الرؤية التجديدية، فكتب سلسلةَ تراجمٍ للرجال مثل سيرة عثمان بن عفان وموسى بن نصير ومالك بن أنس وغيرهم، إلى جانب مقالاتٍ مبتكرة في السيرة النبوية، لاستكشاف مظاهر النبل والفرادة فيها. وأما التاريخ المعاصر، فخصّص له أجزاء لبحث ظاهرة الاستعمار وأساليبه في طمس الهوية من خلال دراسته: "تونس: سبعة وستون عاماً تحت الاحتلال الفرنساوي 1881-1948".
وهكذا، تَكشف هذه الاستعادة السريعة للمسيرة الفكرية للخضر حسين عن سمة بارزة: لا يتمثل دور العالم الديني في الانزواء ضمن كتبه الصفراء، ودروسه المغلقة تحت قباب المساجد، وإنما في الانخراط الفعلي في قضايا المجتمع والاضطلاع بهموم الأمة عبر التصدي لمعضلات السياسة وشواغل التاريخ.
فليست العلوم الشرعية غاية في حد ذاتها، ولا يقصد من نصوصها أن تظل محفوظةً في الصحف والصدور، وإنما أن ينزِل حاملها -على غرار المثقف العضوي الذي نَظَّر له غرامشي أو المثقف الملتزم كما نظّر له سارتر- إلى معمعة التاريخ، فيُوَجهَ سيرَه نحو التحرّر والعقلانية.
قاوم الخضر حسين مظاهر الخرافة وأصلح التفكير الديني وجدّده دون الخروج عن ثوابته، بل استمد تلك العقلانية ذاتها من لطائف التعبير القرآني. وقد ساعده الترحال بين الآفاق على اكتساب شجاعة الخوض في معضلات التاريخ وقراءته عبر العلوم الشرعية، ثم تطبيق هذه الأخيرة عليه في جدلٍ معرفي ثري.