حاول الأمير محمد علي في رحلاته، سواء إلى أوروبا أو إلى الشرق الأقصى، الوقوف على أسباب تقدم الأوروبيين والأقوام الأخرى، وتخلّف العرب وتأخر مدنيتهم. وفي كل مكان كان يصل إليه، سواء في باريس أو فيينا أو جاوة أو موسكو، كانت الأيادي الأوروبية واضحة في نسج التقدم والتطور، وآخذة بالجد في العمل، في تلك المستعمرات البعيدة في الهند والشرق الأقصى.
كان محمد علي قد يئس نهائيا من استعادة عرش مصر، لذلك استعاض عن المطالبة بالملك بالتجول في أرجاء المعمورة، منفيا أو مبعدا أو عن طيب خاطر. وقد شملت رحلاته أوروبا وأميركا الشمالية وأميركا الجنوبية والهند واليابان والبوسنة والهرسك. وفي جاوة بإندونيسيا، التي وصل إليها في أغسطس عام 1929، سجل مشاهداته هناك، وما قام به الهولنديون في هذه الجزيرة من أعمال، عدّها "جليلة"، حيث كان الهولنديون من الذكاء، بحيث اندمجوا مع السكان الأصليين.
بل في سبيل ذلك، ارتبطوا معهم برابطة الزواج والمصاهرة، من دون أدنى تعال، كما هو الأمر بالنسبة للمستعمرين الإنكليزي أو الفرنسيين أو الإيطاليين أو الإسبان، الذين عملوا على إقامة حدود بينهم وبين السكان الأصليين، أصحاب الأرض. يكتب محمد علي "حين استعمر الهولنديون جزيرة جاوة، وهي من أقدم مستعمراتهم في آسيا، تلفتوا إلى صعيدها فإذا به يدل على كثير من الخصوبة ووافر من الحياة، فبذلوا جهدهم في تمهيده للإنتاج الصالح، تمهيدا يكفل لهم الربح الوفير، حتى أصبحت جاوة بفضل الجهود التي بذلوها، وبفضل ضآلة أجور العمال فيها تشبه في شأنها مصرنا العزيزة في وجهة الزراعة ونمائها واستطراد الناتج فيها.
وفي جاوة بإندونيسيا، التي وصل إليها في أغسطس عام 1929، سجل مشاهداته
ولم يترك الهولنديون شبرا واحدا مما يصلح للزراعة في جاوة، من دون أن يستغلوه ومن دون أن يصلحوا من شأنه. على أن الظاهرة التي تمسها في الناحية الزراعية بجاوة ظاهرة تدل على تعاسة أهلها وشقاء المواطنين فيها، فإن الهولنديين ككل شعب أوروبي طموح، قد امتلكوا كثيرا من هذه الأراضي الخصبة، سواء بالوراثة عن آبائهم وأجدادهم، أو بتحويل الفضاء الواسع على أكتاف الجاويين وبأيديهم إلى أرض زراعية تؤول إليهم، وتؤول إلى جيوبهم خيراتها. وعلى هذا، فإن موارد هذه الثروة تنتهي إلى خزائن الهولنديين، وإن نتاج الجزيرة العظيم لا تمتد إليه يد غير يدهم، التي عرفت كيف تغرس البذرة السليمة في الصعيد الخصيب لتجني حصادا موفورا جما.
وكما أن كثيرا من أغنياء الإنكليز يأخذون مواد ثروتهم مما يجلبونه من الهند، بل كما أن الإنكليز جميعا ينظرون إلى الهند، فإن الهولنديين قد جعلوا من جاوة ذلك المصدر الذي لن ينتهي خيره ولن تخبو شعلة حياته. فعلى ضوء هذه الحالة التي يشاؤها الهولنديون من مستعمرتهم الآسيوية الجميلة، تمكنوا من أن يلبسوها ثوبا قشيبا من الرونق الممتع والبهاء الجذاب، فعبّدوا من طرقها ومهدوا فيها أسباب النظافة، وآتوها من ألوان العناية بالصحة العامة ما ترى أثره على الجاويين، أولئك القوم الذين لا تقع بينهم على واحد ذي عاهة أو عيب، على الرغم من هزالهم الطبيعي وضعفهم الكبير.
وقد لا نغلو في القول، إذا نحن تحدثنا في هذه الكلمة أن الهولنديين يرعون جانب المجاملة في معاملتهم لسكان الجزيرة، فقد باعدوا بين هذه الفوارق المنفرة، وجعلوا منهم شعبة جاوية إن حق لها أن تفاخر على المجموعة بشيء، فإنما تفاخر في التهذيب واللون الأبيض. نعم، باعد الهولنديون بين هذه الفوارق، فقبلوا أن يخالطوا الوطنيين ويمتزجوا بهم، حين ارتضوا أن يزوجوهم ويتزوجوا منهم، وهذا في الحق صنيع جميل، وعمل يدل على الرأفة التي تشبعت بها عقول المستعمرين الهولنديين من دون سواهم.
وليست مسألة الاختلاط الجنسي كل ما أخذ الهولنديون به أنفسهم من التقرب إلى سكان الجزيرة، بل إن هناك مسألة قل أن أخذ بها الإنكليز والأميركيون، وقلّ أن آمنوا بأنها دليل واضح على حسن الطوية وسلامة الضمير، تلك هي أنك ترى الجاويين يخالطون الهولنديين في النوادي والمجتمعات، وترى أنهم في هذا الاختلاط لا يبدون أقل شأنا ولا أيسر احتراما فيها من أندادهم الأجانب، فجميعهم في هذه الحلبة إخوان وعلى قدم المساواة".
سلاطين جاوة
يشير محمد علي إلى ظاهرة غريبة في جاوة، وهي أن سلاطين البلاد، ليسوا من الأغنياء. ولا جاه لهم إلا ما يتقاضونه من راتب، وهذا ما دفعهم إلى تدارك الأمر، بحيث جعلوا قصورهم رمزا للرفاهية والأبهة والعظمة، محاطين بالخدم والحشم. يكتب محمد علي "وثمة ناحية نشهدها في جاوة، وهي أن السلاطين فيها قوم فقراء جدا، معدمون بما لا يلابس مراكزهم، ولا يجانس قيمتهم في تلك الحياة، ذلك أن أكبر راتب يتقاضاه أجلّ سلطان فيهم لا يتجاوز ألف جنيه في الشهر، وعلى الرغم من هذه الضآلة الواضحة في رواتبهم، فقد أصبح من الحتم عليهم أن يحيطوا أنفسهم بسياج من العظمة والأبهة، وقد تمثلوا هذه العظمة فيما غمروا به قصورهم من مئات الخدم، ومئات النساء يسيطرون على الأولين ويتبادلون الآخرين في غير عمل إلا الأكل والنوم، وما ينصرم بين هذين من أوقات يقضونها إلى الزوجات.
يشير محمد علي إلى ظاهرة غريبة في جاوة، وهي أن سلاطين البلاد، ليسوا من الأغنياء. ولا جاه لهم إلا ما يتقاضونه من راتب
ومن العجب ألا يكون لأولئك السلاطين عمل رسمي بارز، اللهم إلا في مناسبة الأعياد الدينية حين يخرجون برجالهم لقضاء التشريفة، وإلا حين يستقبلون حاكم الجزيرة وما إليه من عظماء الأجانب، وهذا جل رسميتهم، وكل ما يؤدون من وظائف عامة. وبين المشاهد الأخاذة التي تغمر الزائر العربي في جاوة أنها تجمع إليها أشتاتا من العرب أقاموا مدارس عامة للتعليم العربي، على أنها وإن تكن فقيرة في مالها، فإنها في الحق تؤدي عملا جليلا يستحق الإكبار والفخر. وليس ذلك الفقر وليد الظروف الخاصة التي تحيط الأهالي عاما من أعوامهم ثم تندثر، بل هو طبيعة تضم الوطنيين جميعا، أولئك الذين يعيشون على التافه القليل، بينما يعيش الهولنديون عيشا رغيدا سعيدا. وهنا لا محيص لنا من أن نذكر الأغنياء وذوي الثروة في جاوة لا يتألفون إلا من طبقات الهولنديين، تتبعهم الشركات الأجنبية، تتلوهم فئة التجار من الصينيين، هذه الفئة التي استحلت حرمات الذمم، واستحوذت على جوانب الرياء والمعاملة السيئة الضارة".
تربية إسلامية
سجل محمد علي التربية العالية لأهالي جاوة، يكتب "ومن الخير أن نسجل في سجل رحلتنا عن جاوة هذه الميزات الجميلة التي يتمتع بها أهلها، فإنهم على أجمل ما نرجو في طيبة النفس وسلامة الشعور، وإنهم لعلى جانب عظيم من جمال التربية الإسلامية المجيدة التي تهتف بالإخاء والنقاء والصفاء والتقوى. وإنه وإن تكن الميزات وحدها خير ما تنشد البشرية من محامد فإن الجاويين قد ألبسوها دثارا من تقديرهم للحياة كأنهم يعيشون أبدا، يعنون جد عنايتهم بالنظافة، فلا ترى فيها إرثا ولا أشعث أغبر، ويستقبلون في كثير من الإكبار والخضوع من دون أن يسترسلوا في مواطن الصلف، ولا في رحبة الكبرياء، آخذين في هذا السبيل عن طوية صادقة ونفس حساسة كبيرة. وقد اتخذوا لهم كثيرا عوائد الهنود والصينيين، أولئك الذين يشبهونهم في صور شتى، فعيون الجاويين وأوداجهم جد شبيهة بأمثالهم في الصين، وألوانهم وأجسامهم تتراءى لك وكأنها قد خلقت من طينة الهنود. وهذا ما دفعني إلى القول إن الجنسية الجاوية مزيج من الصين والهند، تهيأت لها هذه البقعة الخصبة في تلك الجزيرة، فآووا والتأموا فيها شعبا كاملا.
ملاهي الجزيرة
رصد محمد علي النشاط الاجتماعي في الجزيرة، حيث يخرج الناس خلال عطلتهم الأسبوعية يومي الجمعة والأحد إلى الفضاءات العامة، يقول "ومن بين المشاهد العجيبة المألوفة في الجزيرة وفي نوع ملاهيها أن الأهالي ينتظرون يومي الجمعة والأحد، فيكتظون في الفضاء الرحيب، فريق منهم يحمل هذه الطائرات وينشرها في الأجواء، وفريق كل همه أن يشاهد وأن ينظر وأن يطرب نفسه بهذه السابحات في الجو تملأ فضاءه وتقفز في فسيح رحابه.
ويمكننا حين نعود إلى ناحية الثروة في جاوة وإلى ما أفاضت على الهولنديين من خيراتها، أن نؤول هذا بكثرة الأيدي العاملة فيها وإلى ضآلة الأجور التي تعطى لهم، فالأجانب الذين يتملكون أراضي شاسعة في هذه الجزيرة وفي أشباهها يعمدون إلى إصلاحها بتلك الأيدي التي لا تتطلب أجورا كهذه التي يتناولها العامل الزراعي في مصر، نعم فإن العامل المصري يتراوح أجره في اليوم بين ستة قروش وسبعة، فإذا كان صبيا فإن أجره بين ثلاثة وخمسة، أما في جاوة فإن عاملها يتناول أقل من عاملنا اليافع بكثير! وعلى هذا، فقد تسنى للأجانب أن ينتجوا محصولا وافرا من الأرز والشاي والبن ومن دون أن يبذلوا في سبيل إنتاجه شيئا يذكر، وإلى هذا يعود ربحهم الكثير.
الإبحار ومقصف على السفينة
نحن الآن في غمرة اللجة، تسبح باخرتنا على صفيحة اليم، والهواء المندفع من خلفها إلى ما تفردت به من سرعة بالغة قد أحدث غير قليل من الضيق، إلى ذلك وفرة الحرارة ووهجها وشدتها. وفي المساء أقاموا مقصفا فاخرا بمناسبة وصولهم، وقدم الطعام كدعوة من القبطان، وأداروا كؤوس الشمبانيا على السائحين، وأتاحوا لكل منهم أن تصيبه هدية جميلة من الشركة الهولندية التي تتبعها هذه الباخرة كتذكار للسفر والمسافرين.
ولما كنت لا أحتسي الشمبانيا، ولم أتعرف من قبل إلى القبطان، فقد أسرعت جهدي في تناول الطعام حتى يتسنى لي أن أدع ذلك الازدحام الهائل والضجة العالية والضجيج المفزع، وحين انتهى الطعام بدأت حفلة الألعاب الرياضية مشوقة طريفة، ثم انتهت بما أخذه الفائزون من جوائز. استيقظت في الصباح الباكر وكانت طبيعة الجو مقرورة تنفث الزمهرير، وبعد أن أديت فريضة الصلاة، وتلوت ما تيسر لي أن أتلو من القرآن الكريم وفاقا لما رضيت عليه نفسي من أمد بعيد، تناولت طعام الإفطار ثم علمت أن الباخرة قد ألقت مراسيها على ثغر "سورابايا".
فأما ثغر "سورابايا" فإنه أكبر موانئ التجارة في الجانب الجنوبي الشرقي من الجزيرة، وأما ما يرجى له من مستقبل فإن بوادره تدلنا على نجاح باهر، ذلك أنه أول ميناء يصل إليه القادم من أستراليا والجزر الجنوبية التي تتبع هولندا، وذلك أنها قد استعدت بمعاملها العديدة لتهيئ طريقها المعبد بين الثغور الممتازة، وحسبها ما يتحدث به المتحدثون عنها من نوالها هذه النازلة الرحيبة في التقدم والنجاح في مثل هذا الزمن الوجيز.
وقدمنا إلى الباخرة مندوب "كوك" وقدم لنا رئيس فندق أورانج الذي رغبنا النزول فيه. وكان مما أردناه أن نغادر الباخرة قبل أن تطأ الأرض من ركابها قدم، نزوحا منا عن مغبة الزحام، وهكذا كنا أول من يأخذ طريقه إلى اليابسة بين السائحين جميعا، فمررنا بالجمرك وأرينا رجاله الجواز الذي أخذناه من السفير الهولندي في مصر كتوصية لهم من جانبه على أن يسهلوا أمامي من إجراءاتهم. ولما تقدم إلي واحد من الموظفين يسألني في أدب جم عما إذا كنت أحمل معي سلاحا، فلما أجبته بأني لا أحمل غير "روفلفر" صغير كان من شأنه أن أخبرني بكثير من الاحترام أنه من المحظور على أي قادم أن يدخل الجزيرة ومعه أي نوع من أنواع السلاح، ولكنه عاد فرجاني أن أنتظر خمس دقائق حتى يشير على رئيسه في الأمر جنوحا عن المسؤولية، ورغبة ألا يزيد في هذه المسألة تعقيدا، لأن واجبه الرسمي يحتم مصادرة السلاح فورا. وكان أن أمر رئيسه بمرو محمد علي مرور الكرام، بعد الاطلاع على أنه يحمل كتابا رسميا، بالإضافة إلى جواز "سياسي"، يفرض على حامله معاملته بما يليق من الاحترام.