لا شيء في مسيرة محمد منير كان يوحي بتحوّله التدريجي إلى "الكينغ". حلم الشاب الأسمر القادم من أسوان بدا خيالياً، وتحقيقه شبه مستحيل. لم تكن القاهرة جنة الفنانين، كما كان يشاع، أو لنقل كانت جنة بعض الفنانين، لكن حتماً ليس هؤلاء القادمين من الأطراف والأقاليم البعيدة. لكن محمد منير أراد الغناء. وأراد النجاح، وأراد الشهرة والنجومية. وحصل عليها كلها.
اختصاراً يمكن القول إن مسيرة محمد منير كانت عام 1977 مع ألبوم "علموني عينيكي" واستمرّت حتى اليوم، رغم سقطات موسيقية وسياسية كثيرة. لكنّ "الحدوتة المصرية" للشاب النوبي أكثر تعقيداً، وأكثر متعة من هذا الاختصار.
لم يكن محمد منير الفنان ليبصر النور لولا ثنائي الشاعر عبد الرحيم منصور والأسطورة النوبية الملحن أحمد منيب. الألبوم الأول الذي تعتبر أغانيه اليوم، أناشيد لجمهور منير، والذي حمل عنوان "علموني عينيكي" فشل فشلاً ذريعاً، لم تلق الأغاني النجاح المتوقع، رغم مشاركة كل من منصور (كتابة) ومنيب والموسيقار هاني شنودة في تلحين الأغاني، وتوزيعها. بدا الألبوم الأول غريباً على أذن المستمع، رغم أن كل الأغاني تقريباً كانت تحاكي وجع المصريين المرتبط بالغربة، التي بدأت تأخذ شكل هجرة نحو الخليج وباقي الدول العربية بحثاً عن فرص عمل. لكن ذلك لم يشفع للشاب الأسمر النحيل، ومع ذلك لم يستسلم.
فعاد بعد سنة بألبوم ثان هو "بنتولد" مع منصور/منيب/شنودة ليبدأ خطوته الأولى نحو النجومية... إلا أن الهالة الأسطورية التي بدأت تحيط بمنير جاءت مع ألبومه الثالث "شبابيك" الذي يعتبر أكثر الألبومات مبيعاً في مصر حتى اليوم.
توالت النجاحات بعدها مع ألبومات مثل "وسط الدايرة"، "اتكلمي"، "يا اسكندرية"... وارتبط اسم منير بموسيقيين عباقرة في الساحة مثل فتحي سلامة، ويحيى خليل إلى جانب هاني شنودة وأحمد منيب.. بقي جمهوره يزداد، لكن رغم ذلك ظلّ محمد منير محسوباً على "محبي الفن المختلف"، أو "النخبويين" أو هؤلاء الباحثين عن موسيقى تشببهم خارج ما تقدّمه شركات الإنتاج. في تلك الفترة (مطلع التسيعينيات ومع صدور "يا اسكندرية") كان عمرو دياب قد بدأ هو أيضاً يشق طريقه نحو نجومية مطلقة... فكان جمهور منير يتحيّز للفنان النوبي في مواجهة الفنّ السائد والتجاري الذي كان عمرو دياب هو أيقونته. في تلك الفترة وما تلاها عرف منير كيف يجذب كل "الكبار"، تعاون مع "الخال" عبد الرحمن الأبنودي (بينها "يا رمان"، "يا حمام"، "كل الحاجات"...) وغنى للشاعر الكبير صلاح جاهين ("إيديا في جيوبي"، "ولد وبنت" وغيرهما).
لكن منير الذي دخل التسيعنيات محملاً بموسيقى الملحنين والشعراء "المستقلين" بدأت ألبوماته تتخذ اتجاهاً آخر، والشاب الذي دخل عالم الفنّ غير مكترث بما يطلبه السوق، ولا ما ينتظره الجمهور الذي لم يكن قد اعتاد بعد على فكرة رحيل عبد الحليم حافظ، وبقي يبحث عن خليفة تشبهه، طبّع تدريجياً مع السوق... بات صوت موسيقاه يشبه ما يسمعه الجمهور في السوق. ونتكلّم هنا عن ألبومات وأغان مثل "الليلة يا سمرا"... وصولاً إلى الألفية الجديدة.
هنا عرف منير كيف يقدّم إنتاجاً متوازناً بين ما يطلبه السوق، وبين صورة منير الأصلية، فقدّم "في عشق البنات"، و"مبارح كان عمري عشرين"... في الفترة نفسها أعاد غناء أغاني شادية، ومحمد رشدي، وطلعت زين، وشريفة فاضل... حتى قال البعض إنه يغني لفنانين آخرين أفضل مما يغني أغانيه.
ومع تعاظم نجوميته دخل منير عالم الدراما والسينما والمسرح.. وصولاً إلى مسلسله الأخير "المغني" الذي عرض في رمضان الماضي ولم يحقق أي نجاح يذكر. وهو الفشل الذي سبقه انتقادات كثيرة لمنير، بينها مثلاً أغانيه الأخيرة، واستعانته بملحنين يفتقدون الموهبة رغم شهرتهم مثل عمرو مصطفى.
في السياسة، حمّل منير منذ انطلاقته مواقف أكبر من قدرته، فهو الذي غنى للحرية، وللمعتقلين، وغنى لشعبه في النوبة بعد تهجيره إثر بناء السد العالي، وتحديداً أغنية "عالمدينة".. وهو أيضاً الذي غنّى "طفي النور يا بهية"، و"ساح يا بداح" التي يقول فيها الجملة الشهيرة "طول العمر العسكر عسكر بس الناس، الناس كانت ناس".. وأغاني مثل "مانرضاش"، هو نفسه تملّق كل الأنظمة، فكان مقرباً من محمد حسني مبارك، وهو نفسه انتظر أياماً قبل أن يعلن موقفاً من الثورة المصرية، وهو نفسه شارك في أوبريت "مصر قريبة"، وهو نفسه الذي حضن توفيق عكاشة قبل سنيتن، معتبراً إياه إعلاميا عريقا بينما كان عكاشة يحرض على قتل المعارضين لنظام عبد الفتاح السيسي... هل تبدّل منير، أم أنّ مواقفه أصلاً كانت مواقف عبد الرحيم منصور وأحمد منيب، وهو فقط من غناها؟ الجواب البديهي هو نعم. حمل محمد منير مشروعاً موسيقياً فقط لا غير، مشروعاً نوبياً ــ قاهرياً عرف كيف يغيّر شكل الموسيقى المصرية، وكيف يصنع لونه الخاص. أما في السياسة، فم يكن منير يوماً مناضلاً، ولم يدّع ذلك أصلاً... هو فنان وفي عيده الثاني والستين، يبقى منير ملكاً في عالمه الفنيّ، العالم الفنيّ فقط لا غير.
اقــرأ أيضاً
اختصاراً يمكن القول إن مسيرة محمد منير كانت عام 1977 مع ألبوم "علموني عينيكي" واستمرّت حتى اليوم، رغم سقطات موسيقية وسياسية كثيرة. لكنّ "الحدوتة المصرية" للشاب النوبي أكثر تعقيداً، وأكثر متعة من هذا الاختصار.
لم يكن محمد منير الفنان ليبصر النور لولا ثنائي الشاعر عبد الرحيم منصور والأسطورة النوبية الملحن أحمد منيب. الألبوم الأول الذي تعتبر أغانيه اليوم، أناشيد لجمهور منير، والذي حمل عنوان "علموني عينيكي" فشل فشلاً ذريعاً، لم تلق الأغاني النجاح المتوقع، رغم مشاركة كل من منصور (كتابة) ومنيب والموسيقار هاني شنودة في تلحين الأغاني، وتوزيعها. بدا الألبوم الأول غريباً على أذن المستمع، رغم أن كل الأغاني تقريباً كانت تحاكي وجع المصريين المرتبط بالغربة، التي بدأت تأخذ شكل هجرة نحو الخليج وباقي الدول العربية بحثاً عن فرص عمل. لكن ذلك لم يشفع للشاب الأسمر النحيل، ومع ذلك لم يستسلم.
فعاد بعد سنة بألبوم ثان هو "بنتولد" مع منصور/منيب/شنودة ليبدأ خطوته الأولى نحو النجومية... إلا أن الهالة الأسطورية التي بدأت تحيط بمنير جاءت مع ألبومه الثالث "شبابيك" الذي يعتبر أكثر الألبومات مبيعاً في مصر حتى اليوم.
توالت النجاحات بعدها مع ألبومات مثل "وسط الدايرة"، "اتكلمي"، "يا اسكندرية"... وارتبط اسم منير بموسيقيين عباقرة في الساحة مثل فتحي سلامة، ويحيى خليل إلى جانب هاني شنودة وأحمد منيب.. بقي جمهوره يزداد، لكن رغم ذلك ظلّ محمد منير محسوباً على "محبي الفن المختلف"، أو "النخبويين" أو هؤلاء الباحثين عن موسيقى تشببهم خارج ما تقدّمه شركات الإنتاج. في تلك الفترة (مطلع التسيعينيات ومع صدور "يا اسكندرية") كان عمرو دياب قد بدأ هو أيضاً يشق طريقه نحو نجومية مطلقة... فكان جمهور منير يتحيّز للفنان النوبي في مواجهة الفنّ السائد والتجاري الذي كان عمرو دياب هو أيقونته. في تلك الفترة وما تلاها عرف منير كيف يجذب كل "الكبار"، تعاون مع "الخال" عبد الرحمن الأبنودي (بينها "يا رمان"، "يا حمام"، "كل الحاجات"...) وغنى للشاعر الكبير صلاح جاهين ("إيديا في جيوبي"، "ولد وبنت" وغيرهما).
لكن منير الذي دخل التسيعنيات محملاً بموسيقى الملحنين والشعراء "المستقلين" بدأت ألبوماته تتخذ اتجاهاً آخر، والشاب الذي دخل عالم الفنّ غير مكترث بما يطلبه السوق، ولا ما ينتظره الجمهور الذي لم يكن قد اعتاد بعد على فكرة رحيل عبد الحليم حافظ، وبقي يبحث عن خليفة تشبهه، طبّع تدريجياً مع السوق... بات صوت موسيقاه يشبه ما يسمعه الجمهور في السوق. ونتكلّم هنا عن ألبومات وأغان مثل "الليلة يا سمرا"... وصولاً إلى الألفية الجديدة.
هنا عرف منير كيف يقدّم إنتاجاً متوازناً بين ما يطلبه السوق، وبين صورة منير الأصلية، فقدّم "في عشق البنات"، و"مبارح كان عمري عشرين"... في الفترة نفسها أعاد غناء أغاني شادية، ومحمد رشدي، وطلعت زين، وشريفة فاضل... حتى قال البعض إنه يغني لفنانين آخرين أفضل مما يغني أغانيه.
ومع تعاظم نجوميته دخل منير عالم الدراما والسينما والمسرح.. وصولاً إلى مسلسله الأخير "المغني" الذي عرض في رمضان الماضي ولم يحقق أي نجاح يذكر. وهو الفشل الذي سبقه انتقادات كثيرة لمنير، بينها مثلاً أغانيه الأخيرة، واستعانته بملحنين يفتقدون الموهبة رغم شهرتهم مثل عمرو مصطفى.
في السياسة، حمّل منير منذ انطلاقته مواقف أكبر من قدرته، فهو الذي غنى للحرية، وللمعتقلين، وغنى لشعبه في النوبة بعد تهجيره إثر بناء السد العالي، وتحديداً أغنية "عالمدينة".. وهو أيضاً الذي غنّى "طفي النور يا بهية"، و"ساح يا بداح" التي يقول فيها الجملة الشهيرة "طول العمر العسكر عسكر بس الناس، الناس كانت ناس".. وأغاني مثل "مانرضاش"، هو نفسه تملّق كل الأنظمة، فكان مقرباً من محمد حسني مبارك، وهو نفسه انتظر أياماً قبل أن يعلن موقفاً من الثورة المصرية، وهو نفسه شارك في أوبريت "مصر قريبة"، وهو نفسه الذي حضن توفيق عكاشة قبل سنيتن، معتبراً إياه إعلاميا عريقا بينما كان عكاشة يحرض على قتل المعارضين لنظام عبد الفتاح السيسي... هل تبدّل منير، أم أنّ مواقفه أصلاً كانت مواقف عبد الرحيم منصور وأحمد منيب، وهو فقط من غناها؟ الجواب البديهي هو نعم. حمل محمد منير مشروعاً موسيقياً فقط لا غير، مشروعاً نوبياً ــ قاهرياً عرف كيف يغيّر شكل الموسيقى المصرية، وكيف يصنع لونه الخاص. أما في السياسة، فم يكن منير يوماً مناضلاً، ولم يدّع ذلك أصلاً... هو فنان وفي عيده الثاني والستين، يبقى منير ملكاً في عالمه الفنيّ، العالم الفنيّ فقط لا غير.