على مقاعد الدراسة في كلية الآداب في "جامعة فؤاد الأول" (جامعة القاهرة لاحقاً) فُجع الأكاديمي والناقد محمود السمرة (1923 – 2018) الذي رحل السبت، باحتلال القسم الأكبر من فلسطين عام 1948 ومنه مسقط رأسه؛ قرية الطنطورة على ساحل المتوسط قرب مدينة حيفا، حيث غُسل بماء وملح بحرها وكاد أن يغرق فيه مرتين لينجو متمسّكاً بالحياة ومثابراً ومجتهداً فيها.
كانت تلك الحقيقة الأولى المؤسّسة في مشواره، أن يغادر مصر عام 1950 إلى الكويت ليعمل مدرّساً وليس إلى بلدته التي خرج منها أهلُه لاجئين إلى مدينة طولكرم، فلم تمض بضع سنوات حتى حصل على بعثة لدراسة الدكتوراه في لندن، ليقدّم أطروحته بعنوان "أثر الحضارة الغربية والدراسات التبشيرية في الفكر الإسلامي في بلاد الشام من 1860- 1920" ولا تزال مخطوطاً باللغة الإنكليزية ولم تنشر في كتاب إلى اليوم، والذي يشير إلى رؤية ناضجة في سن باكرة.
سيعود صاحب "غربيون في بلادنا" (1969) إلى الكويت مرة أخرى عام 1958، ليؤسّس في العام نفسه "مجلة العربي" مع الكاتب المصري الراحل أحمد زكي (1894 - 1975/ أستاذ الكيمياء ورئيس جامعة القاهرة الأسبق)، والتي كانت من أولى المطبوعات العربية المتخصّصة في الثقافة ومختلف الحقول المعرفية، وعلى صفحاتها كتب الراحل عشرات المقالات خاصة ما أضاء فيها على أحدث نظريات النقد أو أعلام الثقافة الإنغلوفونية بشكل خاص والغربية بشكل عام.
في كتابه "إيقاع المدى" (2006) الذي دوّن فيه سيرته الذاتية، يورد قصّة تعود إلى نهايات عام 1964، حين أرسل إليه بدر شاكر السياب قصيدة مرفقة برسالة منه يذكر أنه يريد نشرها، ويطلب إرسال مكافأتها له ليشتري بها دواء، فيكتب السمرة "قرأتها ولم أفهمها، فعرضتها على الدكتور أحمد زكي وبعد أن قرأها سألني: هل فهمتها؟ قلت: لا، قال: إذن لمن سننشرها؟ ولم تنشر وأرسلنا له المكافأة وكانت المفاجأة أن الكتاب المسجل المرسل إليه وبداخله الشيك رُدّ إلينا دون أن يُفتح، وقد كتب عليه: المذكور قد توفي".
ربما سيكون عام 1964 مفصلياً في حياته، إذ انتقل إلى الأردن ليكون واحداً من خمسة أساتذة يدرّسون في كلية الآداب التي كانت أولى كليات "الجامعة الأردنية" الناشئة حديثاً، وسيكون لها دورها في تخريج عدد من الطلبة الذين كان لهم حضورهم في تأسيس وإدارة العديد من مؤسسات البلاد التي قام معظمها بدءاً من ستينيات القرن الماضي.
في السنة نفسها، خاض السمرة تجربة مختلفة سيقرّر بعدها بسنوات قليلة الابتعاد مطلقاً عن العمل السياسي أو اتخاذ مواقف مؤدلجة يميناً أو يساراً، إذ اختير آنذاك عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني الأول الذي عقد مؤتمره في القدس، لينتخب فيه عضواً في أول لجنة تنفيذية لـ"منظمة التحرير الفلسطينية"، لكنه سرعان ما يستقيل منها ويتفرّغ لحياته الأكاديمية التي كانت وظلّت أساس تجربته على مدار خمسة عقود.
سينحاز بعدها صاحب "أدباء الجيل الغاضب" (1970) إلى الفكر الذي آمن أن لا حدود تحدّه، لكنه سيقف دائماً مع المؤسسة ممثّلة بشكل أساسي بـ "الجامعة الأردنية" التي عمل فيها فلم يختلف موقفه عن رئيسها ناصر الدين الأسد (1922 – 2015) وهو الذي كان نائبه حين شهدت أكبر إضراب في تاريخها عام 1979 بمناسبة ذكرى "يوم الأرض"، إذ التزم الاثنان بالتعليمات الموكلة إليهما رافضين ممارسة العمل السياسي والحزبي داخل الحرم الجامعي.
من جهة أخرى، كان يرى في التمرّد قيمة عليا في الإبداع حيث يبرز ذلك في كتابه "متمردون: أدباء وفنانون" الذي أصدره عام 1974، ولاقى رواجاً في الأوساط الثقافية الأردنية لما احتواه من معرفة ودراية واسعتين بالغضب كمفهوم ومحرّك للتغيير ضمن السياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المعاصرة في الغرب، محللاً عدداً من النماذج الغاضبة مثل تشيخوف وسارتر وهمنغواي ومورافيا.
يلفت السمرة في تقديمه الكتاب إلى أنه "لا تملك إلا أن تتجاوب مع صموئيل بيكيت، لأنك لا بدّ أن تحسّ في كثير من اللحظات بانهيار قانون "العلية" الكبير، وبسيطرة العبث على كل مظاهر الحياة المعاصرة، وبفقدان "الغائية" التي تحرّك الأحياء نحو هدف منشود".
عند العودة إلى عدد من مؤلّفاته، نجد أن الجزء الأهم منها الذي قدّم خلاله إفادة معرفية حقيقية لطلّاب الأدب ومتابعيه يتعلّق بالنقد الحديث وربط الحركات والمدارس الأدبية في صيرورة تطوّر المجتمعات الغربية، إذ تظهر ثقافته الموسوعية التي تتكئ على معرفة عميقة باللغة والفلسفة والتاريخ والعلوم الاجتماعية والإنسانية والتربوية، وقدرته على تقديم النصوص الأدبية وأصحابها بوصفهم جزءاً من مشهد أكبر له سماته الخاصة.
فمثلاً، يذهب السمرة في كتابه "في النقد الأدبي" (1974) إلى تناوله للكاتب الألماني توماس مان من زاوية التحليل لمقارباته حول المرض والموت، فيشرح بسلاسة ولغة غير معقّدة مفهوم الألم في العديد من نصوصه، أو النزعات الصوفية الغامضة في شعر الكاتبة البريطانية إملي برونتي في الكتاب نفسه.
كما يقدّم العديد من الشخصيات غير المعروفة في الثقافة العربية – على الأقل في زمن تقديمه لها-، ومنها الكاتب البريطاني جون أوزبورن (1929 – 1994) الذي عُرف بنقده للحضارة الغربية التي سحقت من وجهة نظره إنسانية الإنسان تماماً، أو الأميركي وليم ستيرون (1925 – 2006) الذي أرّخ لأول ثورة منظّمة للسود في الولايات المتحدة.
في النقد، ركّز صاحب "فلسطين الأرض والشعب والقضية" (1984) على مجالات عديدة؛ في مقدمتها الإبداع الفني من المنظور النفسي، ومسرح اللامعقول، والنظرية الأدبية ونظرية الشكل، والنقد الجديد وموقع النقد من الفن والعلم، كما يورد الباحث أحمد العبوشي في أطروحة الماجستير التي قدّمها عام 2008 بعنوان "محمود السمرة ناقداً".
لكن الأهمّ من ذلك كلّه، تأثيره على مئات بل آلاف الطلبة الذين درّسهم أو أشرف على أطروحات الماجستير والدكتوراه، حيث توّجه معظمهم لدراسات تعدّ مضامينها حديثة ونوعية وتقدّم إضافة إلى المكتبة العربية وساهم في صوغ رؤى وقيم الحداثة والتنوير وتقديس العلم لدى هؤلاء الطلاب الذين قدّم كثيرٌ منهم شهاداته على وسائط التواصل الاجتماع بعد إعلان خبر رحيله.
رحيل يذكّر بالجيل الذي بنى دولة المؤسّسات والقانون والعلم في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وفقدنا معظمه خلال العقد الأخير الذي شهد تراجع معظم ما بنوه، وكأن غيابهم الجسدي يتزامن مع أفول مرحلة بأسرها.