هو وليس أحد غيره من يمتلك قارَّةً شعرية لا تطأها إلا أقدام الملهمين، وحسبهُ أن نثرَ زروعه في أرضٍ من كلمات، ونذر حياته للقصيدة وفلسطين، حتى إن القصيدة غدت فلسطين، وفلسطين هي كل القصائد مذ اكتوى محمود بنيران العشق ما استطاع إلى ذلك سبيلا، هو أحد عظماء الشعرية العربية الذين رفدوا بحكمة القديسين القصيدة، واجتازوا بها البقاع الموحشة، والأراضي المهجورة في أفق "تأبيد" الكلمة المشتهاة، وكتابة سيرة غير مكتملة للإنسان والوطن.
سفر في المتخيل، ذلك هو ديدن درويش في بناء القصيدة، بنيان مرصوصٌ واحتفاء بالحرف في حضرة الغياب، ولعلها من سمات الشعراء الملهمين: احتفاؤه بالحياة، أليست التعاليم القدرية من تكتب سيرته كاملةً؟ هو ذاك وتلك أيامه منذورة، موعودة بالأفول في الغياب، رغم كل شيء، يظلُ محمود مؤمناً بقدرة القصيدة على المحو والاستنبات: محو الذاكرة من ترسبات ماضوية، آهلةً بنزر قليل من الأمل، واستنبات حياة جديدة بما فيها من انوجاد قسري وأخطاء دنيوية، كانت "الجدارية" وما زالت معلقة ملحمية خُطَت بماء السحاب، وقالت كل الأسرار المعلنة والخفية، يومها، رأى درويش بياض القلب معجوناً بتعاليم القدس، رأى درويش ما رآه اسخيليوس والمتنبي ودانتي وناظم حكمت، وبدر شاكر السياب، ولوركا: مدينة نائمة تنبئ بقدوم أحفاد القصيدة، تراه يرتحلُ في اللانهائي، في اللازورد، في الأزرق السماوي، باحثاً عن آخر المشتهى، وهو "الحامل للمرآة" يعكسُ صفاء السريرة، ونقاء روح مشبعة بروح التحديث والتجديد.
محمود درويش كما عرفته، كالنهر المتدفق شعراً، وسفراً في أقاليم الدهشة والإرباك، لا شيء غير القصيدة ترمم تصدعاته، وتحقق له ذلك" الوعد الشعري" الذي طالما حلم به، نقول، أن نصوصه تكريس للحلم، وعلو في سماوات المجاز، ولا أحد غيره، من صارع الكبوات، وجاسر في نسج القوافي، وغواية الحرف، أترى أنا مثلك الآن، أكابدُ الهم الثقيل، أنثره مثل نشيد الجبار في أرض لا زرع فيها ولا ماء، وماذا أسمي حنيني إلي؟ اختراقاً أم احتراقاً، وأنت يا محمود قابع هناك تقلب التراب، وترقب سفائن آتية من جوف السماء، وكما أنت، في الحياة بتفاصيلها المتعبة، بمقاطعها اليومية، في الأبدية البيضاء، حيث ينفصل الهنا عن الهناك، ويتحدان عند أول لقاء.
فوق ذلك كله، يظل محمود طائراً مغرداً داخل السرب وخارجه، كيف لا، وهو الشجرة المترامية الأغصان التي حجبت غابة الشعر بفلسطين خاصة، وهو الدائم الترحل والترحال، من مدينة إلى أخرى، من مطار إلى آخر، يصرخ ذات قصيدة، بأن " قلوب الناس جنسيته"، وبين هذا وذاك، ثمة أمور تجري في النهر، منها المتحقق كفعل صيرورة في اتجاه "تحرير" الشاعر من اليقينيات، كذلك فعل درويش، حين تخلى -ولو ظاهريا- عن الانهمام بالحبيبة الأولى والأخيرة: فلسطين ظلت حاضرة في كل القصائد حتى الموت، وهو الذي حاربَ الموت بشراسة، ولم يهزم، بل صار أكثر إصراراً على المجابهة والاختراق وتفجير الطاقات الثاوية في الأعماق.
ثمة أشياء تحدث في الكتابة، وتمر ساكنةً ، متحررة من شبح النهايات، ووحده درويش أيقن بالقصيدة، وكان كما "هو" واضحاً، مجدداً ومتجدداً، لا يثق إلا في القصيدة بيضاء، وعالية بعلو السماء، هي سمات الشعراء المتنبئين بنهايات محتملة لسطوة الإنسان على وجه الأرض، كان اليقين من أسباب "جماهيرية" محمود درويش، يقينه في الله، في القدس، في فلسطين -الأم- الحبيبة، أسفار مؤجلة نحو جغرافيات الحلم، وتطريز عفوي لفن الكلام، نكايةً في هذا الزمن الطحلبي، زمن البهتان، زمن الخطايا، صدقت درويش، أنت هو رغم كل شيء.
(المغرب)
سفر في المتخيل، ذلك هو ديدن درويش في بناء القصيدة، بنيان مرصوصٌ واحتفاء بالحرف في حضرة الغياب، ولعلها من سمات الشعراء الملهمين: احتفاؤه بالحياة، أليست التعاليم القدرية من تكتب سيرته كاملةً؟ هو ذاك وتلك أيامه منذورة، موعودة بالأفول في الغياب، رغم كل شيء، يظلُ محمود مؤمناً بقدرة القصيدة على المحو والاستنبات: محو الذاكرة من ترسبات ماضوية، آهلةً بنزر قليل من الأمل، واستنبات حياة جديدة بما فيها من انوجاد قسري وأخطاء دنيوية، كانت "الجدارية" وما زالت معلقة ملحمية خُطَت بماء السحاب، وقالت كل الأسرار المعلنة والخفية، يومها، رأى درويش بياض القلب معجوناً بتعاليم القدس، رأى درويش ما رآه اسخيليوس والمتنبي ودانتي وناظم حكمت، وبدر شاكر السياب، ولوركا: مدينة نائمة تنبئ بقدوم أحفاد القصيدة، تراه يرتحلُ في اللانهائي، في اللازورد، في الأزرق السماوي، باحثاً عن آخر المشتهى، وهو "الحامل للمرآة" يعكسُ صفاء السريرة، ونقاء روح مشبعة بروح التحديث والتجديد.
محمود درويش كما عرفته، كالنهر المتدفق شعراً، وسفراً في أقاليم الدهشة والإرباك، لا شيء غير القصيدة ترمم تصدعاته، وتحقق له ذلك" الوعد الشعري" الذي طالما حلم به، نقول، أن نصوصه تكريس للحلم، وعلو في سماوات المجاز، ولا أحد غيره، من صارع الكبوات، وجاسر في نسج القوافي، وغواية الحرف، أترى أنا مثلك الآن، أكابدُ الهم الثقيل، أنثره مثل نشيد الجبار في أرض لا زرع فيها ولا ماء، وماذا أسمي حنيني إلي؟ اختراقاً أم احتراقاً، وأنت يا محمود قابع هناك تقلب التراب، وترقب سفائن آتية من جوف السماء، وكما أنت، في الحياة بتفاصيلها المتعبة، بمقاطعها اليومية، في الأبدية البيضاء، حيث ينفصل الهنا عن الهناك، ويتحدان عند أول لقاء.
فوق ذلك كله، يظل محمود طائراً مغرداً داخل السرب وخارجه، كيف لا، وهو الشجرة المترامية الأغصان التي حجبت غابة الشعر بفلسطين خاصة، وهو الدائم الترحل والترحال، من مدينة إلى أخرى، من مطار إلى آخر، يصرخ ذات قصيدة، بأن " قلوب الناس جنسيته"، وبين هذا وذاك، ثمة أمور تجري في النهر، منها المتحقق كفعل صيرورة في اتجاه "تحرير" الشاعر من اليقينيات، كذلك فعل درويش، حين تخلى -ولو ظاهريا- عن الانهمام بالحبيبة الأولى والأخيرة: فلسطين ظلت حاضرة في كل القصائد حتى الموت، وهو الذي حاربَ الموت بشراسة، ولم يهزم، بل صار أكثر إصراراً على المجابهة والاختراق وتفجير الطاقات الثاوية في الأعماق.
ثمة أشياء تحدث في الكتابة، وتمر ساكنةً ، متحررة من شبح النهايات، ووحده درويش أيقن بالقصيدة، وكان كما "هو" واضحاً، مجدداً ومتجدداً، لا يثق إلا في القصيدة بيضاء، وعالية بعلو السماء، هي سمات الشعراء المتنبئين بنهايات محتملة لسطوة الإنسان على وجه الأرض، كان اليقين من أسباب "جماهيرية" محمود درويش، يقينه في الله، في القدس، في فلسطين -الأم- الحبيبة، أسفار مؤجلة نحو جغرافيات الحلم، وتطريز عفوي لفن الكلام، نكايةً في هذا الزمن الطحلبي، زمن البهتان، زمن الخطايا، صدقت درويش، أنت هو رغم كل شيء.
(المغرب)