لو قُيّض للكاتب الأميركي ديفيد هنري ثورو أن يعود للحياة، لوجد أن البشرية كلها تهتف للعزلة التي امتدحها ذات يوم في فصل كامل من كتابه الشهير "والدن". واسم الكتاب مستمد من اسم البحيرة التي عاش الكاتب على ضفافها وحيداً، لمدة سنتين وشهرين ويومين، حيث بنى هناك كوخاً بنفسه، وانقطع عن عائلته وعن الناس.
وفي هذا الفصل يقول إنه لم يجد صاحباً أحلى من العزلة، وإن الشمس وحيدة، والله نفسه وحيد، بينما يرى أن الشيطان ليس بمفرده. إنه حشد. وإن أفضل الرفقة لديه هي حين لا يزوره أحد. ويقول والتر هاردينغ إن للكتاب سحراً رعوياً أغرى المئات، بل الآلاف، من الناس بهجر المدن والانتقال إلى الطبيعة. علماً أن الكاتب لمّح إلى أنه لا يرغب أن يقلده الآخرون في حياة العزلة.
دأب الكتّاب منذ زمن بعيد على الرغبة في العزلة، أو مديح العزلة، وهي تستهوي الكتابة الأدبية، وفي الغالب فإن من يكتب عنها، أو يشير إليها إنما يقدّم أبطالها في صورة الغريب، المتفرد، الخيالي. وتحضر رواية ماركيز الشهيرة "مئة عام من العزلة" وقرية ماكوندو بشخصياتها، وعوالمها العجائبية، واقترانها بهذا العدد الرهيب من السنوات، إلى الخاطر حين تُذكر مفردة العزلة. بل إن الثقافة المعاصرة باتت تربط بين الكلمة والرواية، وسرعان ما يفكر أي قارئ أو أي ناقد في رواية ماركيز، وفي شخصياته حين تُذكر: العزلة.
تغيّر الوضع هذه الأيام إذن. لم تعد العزلة اختصاصاً إبداعياً يجرّبه الكتّاب والفنانون وحدهم، ولا مكاناً سحرياً لشخصيات غرائبية، فقد أُرغِم العالم كله على تجربتها، وهذه المرة يبدو الأمر شبيهاً بعزلة النسّاك والكتّاب، إنها عملية هروب من المجتمع. غير أنها هنا تنشُد الحرص على الحياة نفسها. وهي عزلة مفروضة واختيارية في آن واحد، على البشرية جمعاء، ولا تحتاج لأي فلسفة نظرية، أو أي تفكير مجرّد.
ولكن على الرغم من الشعور بالأمان، وجدة التجربة، والطمأنينة إلى العزلة التي تساعد على النجاة من الفيروس القاتل، فإن الحقيقة البشرية الغالبة هي روح الاجتماع. والدليل هو هذا الرعب الذي يعيشه معظم البشر من هذه "الآماد اللانهائية" التي تتضمّنها أيام العزلة. هذا الخوف الذي بدأ الآلاف يعبرون عنه تجاه ما كان. هذا الحنين السريع إلى الأمس. فلا الأصدقاء قادرون على الاجتماع معاً، ولا العشاق يستطيعون التواعد، ولا يمكن للمحبين أن يعبروا من الغياب إلى اللقاءات المشتهاة.
وهكذا فإن المتغير الاجتماعي الطارئ يضعنا أمام سؤال عريض هو: ماذا بعد؟ ماذا سيحدث بعد الانتهاء من الوباء؟ هل سيتغيّر شكل الاجتماع البشري بعد عزلة الكورونا؟ أم أننا سننسى ونعود إلى ما كنا عليه؟ فالنصائح الآمنة تقول اليوم: خليك بالبيت. يقولها الأطباء والفلاسفة والكتّاب والعسكر. ولكن تساؤلات الناس تستبطن الرغبة في الاجتماع لا في العزلة، وتجارب الإنسانية تقول إنها قد تدرّبت على المواجهة لا الهرب، ولذلك فإن القاعدة التي يلتزم بها الجميع هي تأجيل الحاضر، وترحيل الأمل إلى الغد.