حين حدّد أبو نصر الفارابي (260 - 339 هجري) مدينته الفاضلة وسيّجها بالمثاليات، عدّد في مقابلها الكثير من أصناف المدن الأخرى. وفيما كانت الأولى مبنيّة على نظريات أهل الحكمة، كانت الأخريات مبنيّات على خبرة التاريخ، لذا سنجد الكثير من الأمثلة التي تجسّدها، فيما ظلت "المدينة الفاضلة" يتيمة مقطوعة في كتاب.
يلفتنا الفارابي إلى أحد أنماط المدن؛ "مدينة التغلّب"، وهي التي "يكون أهلها قاهرين لغيرهم ولا يقهرهم أحد". هؤلاء مرشّحون لتأسيس "مدينة فاضلة"، إذ لا يمكن لأحد أن يحرمهم من السعادة التي يبتغونها.
غالباً ما أثبت التاريخ، وما زال يفعل ذلك، أن تلك الخطوة لم تقطع، إذ يظل أعضاء "مدينة التغلب" معطّلين عن هذه السعادة، وإن وفّروا كل شروطها، والتي هي بمصطلحات اليوم تركيبة من الرفاهية واحترام القانون وحرية التعبير والتداول السلمي للحكم والسوق الحرة وغيرها من أسباب سعادة المجتمعات.
إن "مدينة التغلّب" مهدّدة بسوء فهمها للسعادة وبأنانيتها، خصوصاً حين تعي بأن عدوانيّتها (في الخارج) سبب من أسباب سعادتها، وهي بذلك تسقط في أصناف مدن أخرى يذكرها الفارابي مثل "المدينة البدّالة"، تلك التي تصبح غاية أعضائها "اللذة بالمحسوس" فيبدأ انحدارهم، أو "المدينة الجاهلية" تلك التي رهنت سعادتها في منع غيرها من بلوغها (حروب على منابع الماء)، ليظل الجميع يتخبّط في التراجيديا التاريخية؛ القاهر والمقهور.