تتغيّر السياسة الخارجية للدول بحدوث واحد من ثلاثة متغيرات؛ الأول حدوث ثورة، الثاني حدوث أزمة سياسية، الثالث تحول قيادي أي تشكل متغير قيادي مختلف ويعني حدوث تغيير في رئاسة الدولة ملكية كانت أم جمهورية.
نظرياً السعودية ليست استثناء من ذلك، لكنها عملياً استثناء مثلها مثل جُل دول العالم الثالث، والدليل العملي لما سلف أن المبادرة العربية للسلام التي قدمتها السعودية في قمة بيروت عام 2002 لم تتغير حتى بتغير قمة النظام السياسي السعودي والانتقال من الملك عبد الله إلى الملك سلمان. وعلى الرغم مما جرى في المشهد من متغيرات وتحولات وأزمات استمر طرح المبادرة العربية للسلام، وبالتالي لم يحدث تغير يذكر في محددات السياسة الخارجية السعودية تجاه الذهاب صوب التسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي.
التغير الوحيد الذي حدث أن السعودية تجاوزت نص المبادرة التي قدمتها والتفّت على حيثياتها وبنودها، بل حتى تجاوزت الدول العربية التي وافقت بالإجماع على المبادرة حتى تحولت من مبادرة سعودية إلى مبادرة عربية. تجاوزت السعودية كل مقتضيات المبادرة وذهبت بعيداً في بناء جسور التقارب غير الرسمي مع إسرائيل حتى عندما رفضت إسرائيل المبادرة، الآن تطبيع السعودية مع إسرائيل يمضي من دون استدعاء المبادرة ومن دون أن تكون هذه المبادرة هي خارطة التسوية المزعومة، ومن دون أن تكون باقي الدول العربية شاهد زور كما كانت عندما وافقت، حتى الطرف الفلسطيني الذي انقسم بين مؤيد للمبادرة ومعارض لم يعد رأيه وموقفه وحضوره مهماً بالنسبة إلى السعودية، فقد مرت ومررت ما تريده، وتلاشت معالم الدولة الفلسطينية المزعومة على أوراق المبادرة العربية للسلام. تلاشت المبادرة وبنودها وبقيت مسارات التطبيع فقط.
انتهت الظروف التي طُرحت فيها المبادرة فلم تعد إحداثيات انتفاضة الأقصى كما كانت عام 2002، وشارون مات وأولمرت انتهى سياسياً وبوش الابن تبخر حضوره، حتى السبب الذاتي الذي دفع السعودية لتقديم المبادرة تلاشى؛ فقد كان واحداً من دوافع السعودية إلى طرح المبادرة أن العالم لتوّه كان قد عايش أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي شارك فيها 15 سعودياً من أصل 19 متهماً، فكانت المبادرة أولاً: محاولة لدفع تهمة الإرهاب عن السعودية، وثانياً تقديم لولي العهد أن جزءاً من المبادرة كان جواز مرور لولي العهد تجاه إسرائيل. المبادرة كانت بالون اختبار سعودي لعدة أطراف، وثالثاً محاولة لتقدم السعودية صوب المشهد، خاصة أن السعودية، وعلى لسان ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز، أحسنت توظيف غياب الرؤوس العربية الكبيرة المعنية عن قمة بيروت، فلم يحضر القمة في 22 مارس/ آذار 2002 كل من الرئيس المصري حسني مبارك ولا الملك الأردني عبد الله، ولم يكن بمقدور الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الحضور، فقد كان محاصراً في مقر الرئاسة الفلسطينية برام الله ومحاطاً بالدبابات من الجوانب الأربعة. غياب هذا الثالوث من الرؤساء العرب؛ مصر والأردن وفلسطين، كان فرصة ذهبية بالنسبة للسعودية، فقدمت المبادرة وتقدّمت صوب التطبيع مع إسرائيل.
المبادرة العربية للسلام، التي ستصبح لاحقاً المبادرة السعودية للتطبيع، لم تكن أول مبادرة سعودية، ففي عام 1981 اقترح ولي العهد فهد بن عبد العزيز انسحاب إسرائيل إلى حدود 1967 وتعويض اللاجئين الذين لا يريدون العودة إلى بيوتهم وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. لا تعرف السياسة النوايا ولكن ترى ما الأساس الذي افترضت عليه مبادرة السعودية عام 1981؛ إن هناك لاجئين فلسطينيين لا يريدون العودة إلى بيوتهم وبالإمكان تعويضهم من الطرف المكلف بذلك، ولماذا افتراض موافقتهم على التعويض، ثم لماذا لم تقل مبادرة 81 إن القدس عاصمة الدولة الفلسطينية وتصمت؟ ولماذا ألحقت بعاصمتها القدس وصف الشرقية ولماذا لا تكون الغربية أيضاً، ولماذا لم تقل عاصمتها القدس؟. واحدة من أهم الملاحظات المشتركة بين مبادرات السلام التي تقدمت بها السعودية أن الذين تقدموا بها هم أولياء العهد.
واحدة من أهم القضايا الواجب التوقف عندها هي البيئة التي قدمت فيها السعودية مبادراتها، فعقب مبادرة عام 1981 التي لم يقدّر لها التمرير بعد عام، قامت إسرائيل باجتياح لبنان وانتهى الاجتياح بخروج الثورة الفلسطينية من نقطة تماس محورية ومركزية مع إسرائيل، ومبادرة عام 2002 أفضت إلى اجتياح الضفة الغربية بالكامل على يد شارون.
ملاحظة أخرى تجلي الموقف الفلسطيني من مبادرة السعودية في قمة بيروت بردّ ما زالت تبعاته ماثلة حتى الآن، وتحدد طبيعة العلاقة بين السعودية وحركة حماس، ففي 27 مارس/ آذار 2002، وعلى بعد أيام من طرح المبادرة، تقدمت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس للرد، فنفّذت عملية فندق بارك التي قتل فيها 36 إسرائيلياً وأصيب نحو 190.
الآن، وقد مضى التطبيع بين السعودية وإسرائيل إلى الحد الذي باتت فيه الصحافة الإسرائيلية تتغزل بالسعودية، ويدعو وزراء إسرائيل نخبة المملكة لزيارة تل أبيب، يبقى السؤال ما هو مستقبل المبادرة العربية للسلام؟ هل السعودية بحاجة إلى المبادرة من أجل المرور إلى تل أبيب؟ هل تغيّرت السياسة الخارجية السعودية بتغير المتغير القيادي؟ تقول سارة ليفوفيتش في صحيفة معاريف بتاريخ 2/6/2016 حول ذلك ما يلي: "الملك سلمان بن عبد العزيز الذي توج ملكاً بدلاً منه، يهتم بالعلاقة مع إسرائيل في إطار التحالف السني. أنور عشقي، وهو صاحب منصب رفيع المستوى في الجيش السعودي في السابق، ومقرب من العائلة المالكة، قال في مقابلة مع الجزيرة إن السعودية ستقوم بفتح سفارة لها في تل أبيب إذا تبنّت إسرائيل مبادرة السلام العربية". فهل تتبنّى إسرائيل مبادرة السلام العربية.
إسرائيل لا يمكنها رفض المبادرة العربية للسلام إلا إذا مرت إلى السعودية وانفردت بها من دون الاضطرار إلى تنفيذ بند واحد مما ورد في بنود المبادرة العربية للسلام، وغالباً هذا ما يحدث الآن، إسرائيل لا تتحدث عن المبادرة وفي المقابل السعودية لا تتحدث عن دولة فلسطينية وانسحاب إسرائيل، محددات العلاقة بين السعودية وإسرائيل والتقارب المتوقع بات محكوماً بمتغيرات ليس من بينها إيجاد حل للقضية الفلسطينية، الأمر محكوم بمصالحة ذاتية أهم، والأمر لم يعد سراً، فقد طرح للنقاش، ففي 25 مارس/ آذار 2017 ناقش مجموعة خبراء مستقبل المبادرة العربية للسلام، وكان من بين النتائج أن "إسرائيل ستجني فائدة من علاقاتها مع العالَم العربي أكبر مقارنة بعلاقاتها مع الاتحاد الأوروبي". وذهب رأي آخر إلى أنه "للمرة الأولى هناك مصالح مشتركة لإسرائيل والدول العربية، مثل مواجهة داعش وإيران. مبادرة السلام العربية هي فرصة لاستئناف التعاون بين الدول".
ختاماً فإن مبادرة السلام العربية طُرحت كمبادرة عربية جماعية تتضمن بنودها حداً ما لتسوية القضية الفلسطينية، ولكن بعد 15 عاماً تحوّلت إلى مبادرة فردية، والآن تم تجاوزها بعدما بات التطبيع يمر من دونها وبشكل منفرد، كما انفردت إسرائيل بالدول العربية في السلام تنفرد اليوم بأقل من ذلك بدول التطبيع، وبالتالي لم يعُد استدعاء المبادرة العربية للسلام ضرورة من أجل التطبيع.
(كاتب فلسطيني)
نظرياً السعودية ليست استثناء من ذلك، لكنها عملياً استثناء مثلها مثل جُل دول العالم الثالث، والدليل العملي لما سلف أن المبادرة العربية للسلام التي قدمتها السعودية في قمة بيروت عام 2002 لم تتغير حتى بتغير قمة النظام السياسي السعودي والانتقال من الملك عبد الله إلى الملك سلمان. وعلى الرغم مما جرى في المشهد من متغيرات وتحولات وأزمات استمر طرح المبادرة العربية للسلام، وبالتالي لم يحدث تغير يذكر في محددات السياسة الخارجية السعودية تجاه الذهاب صوب التسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي.
التغير الوحيد الذي حدث أن السعودية تجاوزت نص المبادرة التي قدمتها والتفّت على حيثياتها وبنودها، بل حتى تجاوزت الدول العربية التي وافقت بالإجماع على المبادرة حتى تحولت من مبادرة سعودية إلى مبادرة عربية. تجاوزت السعودية كل مقتضيات المبادرة وذهبت بعيداً في بناء جسور التقارب غير الرسمي مع إسرائيل حتى عندما رفضت إسرائيل المبادرة، الآن تطبيع السعودية مع إسرائيل يمضي من دون استدعاء المبادرة ومن دون أن تكون هذه المبادرة هي خارطة التسوية المزعومة، ومن دون أن تكون باقي الدول العربية شاهد زور كما كانت عندما وافقت، حتى الطرف الفلسطيني الذي انقسم بين مؤيد للمبادرة ومعارض لم يعد رأيه وموقفه وحضوره مهماً بالنسبة إلى السعودية، فقد مرت ومررت ما تريده، وتلاشت معالم الدولة الفلسطينية المزعومة على أوراق المبادرة العربية للسلام. تلاشت المبادرة وبنودها وبقيت مسارات التطبيع فقط.
انتهت الظروف التي طُرحت فيها المبادرة فلم تعد إحداثيات انتفاضة الأقصى كما كانت عام 2002، وشارون مات وأولمرت انتهى سياسياً وبوش الابن تبخر حضوره، حتى السبب الذاتي الذي دفع السعودية لتقديم المبادرة تلاشى؛ فقد كان واحداً من دوافع السعودية إلى طرح المبادرة أن العالم لتوّه كان قد عايش أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي شارك فيها 15 سعودياً من أصل 19 متهماً، فكانت المبادرة أولاً: محاولة لدفع تهمة الإرهاب عن السعودية، وثانياً تقديم لولي العهد أن جزءاً من المبادرة كان جواز مرور لولي العهد تجاه إسرائيل. المبادرة كانت بالون اختبار سعودي لعدة أطراف، وثالثاً محاولة لتقدم السعودية صوب المشهد، خاصة أن السعودية، وعلى لسان ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز، أحسنت توظيف غياب الرؤوس العربية الكبيرة المعنية عن قمة بيروت، فلم يحضر القمة في 22 مارس/ آذار 2002 كل من الرئيس المصري حسني مبارك ولا الملك الأردني عبد الله، ولم يكن بمقدور الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الحضور، فقد كان محاصراً في مقر الرئاسة الفلسطينية برام الله ومحاطاً بالدبابات من الجوانب الأربعة. غياب هذا الثالوث من الرؤساء العرب؛ مصر والأردن وفلسطين، كان فرصة ذهبية بالنسبة للسعودية، فقدمت المبادرة وتقدّمت صوب التطبيع مع إسرائيل.
المبادرة العربية للسلام، التي ستصبح لاحقاً المبادرة السعودية للتطبيع، لم تكن أول مبادرة سعودية، ففي عام 1981 اقترح ولي العهد فهد بن عبد العزيز انسحاب إسرائيل إلى حدود 1967 وتعويض اللاجئين الذين لا يريدون العودة إلى بيوتهم وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. لا تعرف السياسة النوايا ولكن ترى ما الأساس الذي افترضت عليه مبادرة السعودية عام 1981؛ إن هناك لاجئين فلسطينيين لا يريدون العودة إلى بيوتهم وبالإمكان تعويضهم من الطرف المكلف بذلك، ولماذا افتراض موافقتهم على التعويض، ثم لماذا لم تقل مبادرة 81 إن القدس عاصمة الدولة الفلسطينية وتصمت؟ ولماذا ألحقت بعاصمتها القدس وصف الشرقية ولماذا لا تكون الغربية أيضاً، ولماذا لم تقل عاصمتها القدس؟. واحدة من أهم الملاحظات المشتركة بين مبادرات السلام التي تقدمت بها السعودية أن الذين تقدموا بها هم أولياء العهد.
واحدة من أهم القضايا الواجب التوقف عندها هي البيئة التي قدمت فيها السعودية مبادراتها، فعقب مبادرة عام 1981 التي لم يقدّر لها التمرير بعد عام، قامت إسرائيل باجتياح لبنان وانتهى الاجتياح بخروج الثورة الفلسطينية من نقطة تماس محورية ومركزية مع إسرائيل، ومبادرة عام 2002 أفضت إلى اجتياح الضفة الغربية بالكامل على يد شارون.
ملاحظة أخرى تجلي الموقف الفلسطيني من مبادرة السعودية في قمة بيروت بردّ ما زالت تبعاته ماثلة حتى الآن، وتحدد طبيعة العلاقة بين السعودية وحركة حماس، ففي 27 مارس/ آذار 2002، وعلى بعد أيام من طرح المبادرة، تقدمت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس للرد، فنفّذت عملية فندق بارك التي قتل فيها 36 إسرائيلياً وأصيب نحو 190.
الآن، وقد مضى التطبيع بين السعودية وإسرائيل إلى الحد الذي باتت فيه الصحافة الإسرائيلية تتغزل بالسعودية، ويدعو وزراء إسرائيل نخبة المملكة لزيارة تل أبيب، يبقى السؤال ما هو مستقبل المبادرة العربية للسلام؟ هل السعودية بحاجة إلى المبادرة من أجل المرور إلى تل أبيب؟ هل تغيّرت السياسة الخارجية السعودية بتغير المتغير القيادي؟ تقول سارة ليفوفيتش في صحيفة معاريف بتاريخ 2/6/2016 حول ذلك ما يلي: "الملك سلمان بن عبد العزيز الذي توج ملكاً بدلاً منه، يهتم بالعلاقة مع إسرائيل في إطار التحالف السني. أنور عشقي، وهو صاحب منصب رفيع المستوى في الجيش السعودي في السابق، ومقرب من العائلة المالكة، قال في مقابلة مع الجزيرة إن السعودية ستقوم بفتح سفارة لها في تل أبيب إذا تبنّت إسرائيل مبادرة السلام العربية". فهل تتبنّى إسرائيل مبادرة السلام العربية.
إسرائيل لا يمكنها رفض المبادرة العربية للسلام إلا إذا مرت إلى السعودية وانفردت بها من دون الاضطرار إلى تنفيذ بند واحد مما ورد في بنود المبادرة العربية للسلام، وغالباً هذا ما يحدث الآن، إسرائيل لا تتحدث عن المبادرة وفي المقابل السعودية لا تتحدث عن دولة فلسطينية وانسحاب إسرائيل، محددات العلاقة بين السعودية وإسرائيل والتقارب المتوقع بات محكوماً بمتغيرات ليس من بينها إيجاد حل للقضية الفلسطينية، الأمر محكوم بمصالحة ذاتية أهم، والأمر لم يعد سراً، فقد طرح للنقاش، ففي 25 مارس/ آذار 2017 ناقش مجموعة خبراء مستقبل المبادرة العربية للسلام، وكان من بين النتائج أن "إسرائيل ستجني فائدة من علاقاتها مع العالَم العربي أكبر مقارنة بعلاقاتها مع الاتحاد الأوروبي". وذهب رأي آخر إلى أنه "للمرة الأولى هناك مصالح مشتركة لإسرائيل والدول العربية، مثل مواجهة داعش وإيران. مبادرة السلام العربية هي فرصة لاستئناف التعاون بين الدول".
ختاماً فإن مبادرة السلام العربية طُرحت كمبادرة عربية جماعية تتضمن بنودها حداً ما لتسوية القضية الفلسطينية، ولكن بعد 15 عاماً تحوّلت إلى مبادرة فردية، والآن تم تجاوزها بعدما بات التطبيع يمر من دونها وبشكل منفرد، كما انفردت إسرائيل بالدول العربية في السلام تنفرد اليوم بأقل من ذلك بدول التطبيع، وبالتالي لم يعُد استدعاء المبادرة العربية للسلام ضرورة من أجل التطبيع.
(كاتب فلسطيني)