مرة زرت متحف بيسّوا في شارع ...
نصف نهار أمضيته هناك، فخرجت بانطباعَين شديدَي الأسى عن الشاعر كمواطن.
الأول أن حبيبته التي كان يحلم بالزواج منها، وقطعت العلاقة به فجأة، كانت أقل من عادية، ومظهرها الخارجي يفتقر إلى ومضة جمال.
الثاني: أن بيسوا الشاعر والناثر والإنسان ـ أي بيسوا كله، كان مؤمناً حقاً بالشعوذات والتنجيم وما يتعلق بهما من أدوات وأشياء.
لقد خصصوا لهذه الأمور الغريبة غرفة بالمتحف.
تأملت الغرفة برويّة ولم أستطع كبح جماح ضحكاتي، حتى أنني خجلت وتمنيت لو أتوارى عن أنظار زملائي الشعراء.
مسكين يا بيسوا البرتغالي!
كان غلبان بالفعل، طوال عمره القصير.
فمن زوج أم وهو طفل وفتى، مرورا بالعيش الصعب في جنوب أفريقيا، وانتهاء بمهنة المحاسب البائسة في لشبونة، وسواها من خيباته القارّة عن الحب وعن النشْر، بل عن نفسه وعن جدوى العيش ذاته.
حتى أنه كتب مرة: "لم أمتلك البتة فكرة نبيلة عن مظهري الفيزيقي".
ذلك أن حياته كانت تمضي من فشل لآخر، فلا يجد حينئذ من ملاذ سوى الخمر في حانات مواطنيه الشعبيين.
حياة لا علاقة لها أبدا بما صاره بعد موته، إذ تحوّل ببساطة إلى أسطورة.
أسطورة لا تخص البرتغاليين فقط، بل عمّت وتعمّ العالم.
كانوا قد فتحوا المتحف مخصوصاً للوفد، كنوع من التكريم، وكنت بعد انتهاء الزيارة، في ذلك الصيف القائظ، أتداول مع شاعر برتغالي شاب، هذه الهواجس:
أية مفارقة عاشها بلدياتك؟
أظنه لو بُعث في أوائل هذه الألفية، لاختار حياة الشارع، مفضلا إياها على سجنه الأبدي في ضجر هذا المتحف.
كنت أتأمل واحدة من جارات البناية وهي تنشر غسيلها الملوّن على الحبل، بتلك الطمأنينة البيتوتية خالية البال.
أتأمل وأقول للشاعر: ربما لو شاهدها بيسوا لحسدها، أو على الأقل، غبطها على نعمة ما هي فيه.
فماذا أعطاه الشعر، والكتابة، واختراع البدلاء، وصندوق العجائب ذاك، سوى اللاطمأنينة؟
ألم يقل مرة، مُحقاً: "يا للأمنيات المسكينة التي امتلكتُها ذات يوم"!
لكنْ .. من يفكر في كل هذا الآن؟
لقد اختزله الجميع بأعماله الكتابية فقط. توارى للأبد المواطنُ اللشبوني سليل الطبقة المتوسطة الدنيا (بكل جُبنه وحيرته وطموحه المؤرِّق)، وحضَرَ بدلا منه الشاعر العالمي ـ على ما يحويه هذا الوصف من تجريد قاس.
.. ثم نمضي إلى متحف ساراماغو، فأفكر أن أفضل تكريم قام به مواطن برتغالي لشاعره، هو بالفعل ما كتبه عن بيسّوا في تحفة رواياته: "سنة موت ريكاردو ريّس".
فليس إلا الشاعر يقدر على تكريم شاعر.
والحق أن ساراماغو الروائي، كان شاعراً من طراز فريد، وهو يكتب هذه الرواية العلامة عن شاعره الأقرب.
مات بيسّوا إذن، وبنوا له متحفاً أبيضَ، من حجر.
لكنّ متحفه الذي من كلمات، سيخلد أكثر.
ذلك أن الكلمة لها من نصيب الخلود، أضعاف ما للحجر.
* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة