يصبّ جزء من الجدل السياسي الدائر في الجزائر حالياً بشأن مضمون مسودة التعديلات الدستورية الجديدة المطروحة للنقاش، حول بنود جديدة تخصّ حرية الدين والمعتقد "من دون تمييز". وإذا كان الأمر محسوماً من ناحية المبدأ الذي يكفل ذلك، فإنّ نقاشاً حذراً يتجدد في البلاد في كل مرة تُطرح فيها هذه القضايا الحساسة، بسبب خلفيات تربط بين وجود الأقليات الدينية ومخططات "استعمارية" قديمة، مع كشف السلطات في السنوات الأخيرة عن وجود دعم أجنبي لمجموعات تبشيرية تنشط في الجزائر بشكل غير معلن، وتحذيرات البعض من أن تكون إشاعة حرية المعتقد بلا ضوابط بما يجعل الأقليات مبرراً للتدخل الأجنبي.
وضمّنت اللجنة الدستورية مسودة التعديلات بنوداً جديدة تخصّ "حرية ممارسة العبادات من دون تمييز"، وأفردت لها في المادة 51 ثلاثة بنود تتعلق بأنه "لا مساس بحرمة حرية المعتقد وحرمة حرية الرأي"، و"حرية ممارسة العبادات مضمونة وتمارس بلا تمييز في إطار احترام القانون"، فضلاً عن مسؤولية الدولة عن حماية أماكن العبادة بحيث "تضمن الدولة حماية أماكن العبادة وحيادها". وإذا كانت الدساتير الجزائرية السابقة قد تضمّنت أيضاً ما يفيد بحرية المعتقد، وأتاحت للحكومة سنّ قانون في العام 2005 يحدد ضوابط إنشاء معابد دينية لغير المسلمين وممارسة الأقليات الدينية لشعائرها، فإنّ البنود الجديدة فتحت الباب لنقاشات جمة حول خلفيات الأمر وملابساته وتداعياته مستقبلاً على النسيج الديني في الجزائر، كما أعادت هاجس "الأقليات" الدينية، ودفعت بمخاوف لدى بعض القوى السياسية التي عبرت عن ذلك بصراحة.
ويثير هذا الملف حساسية بالغة في الجزائر، وبرز ذلك خصوصاً في العقد الأخير الذي تزامن مع مشاكل سياسية، لا سيما في منطقة القبائل (ذات الأغلبية من السكان الأمازيغ). وقد زادت حساسية هذا الملف في السنوات الأخيرة بسبب خطاب رسمي وتقديرات وتحقيقات أمنية نشرتها السلطات الجزائرية، كان آخرها تحقيق نشرته وزارة الداخلية في عز الحراك الشعبي، عن وجود علاقة بين مجموعات دينية، مسيحية خصوصاً، تنشط في البلاد، بأجهزة استخبارات غربية (فرنسية)، وتتلقى دعماً وتمويلاً مالياً.
وعبّرت الكثير من القوى السياسية والمجتمعية لدى فحصها للمسودة الدستورية، عن اعتقادها بأنّ الأمر يتجاوز مسألة حرية المعتقد للأفراد، ويفتح الباب لإنشاء ما تصفه بـ"الأقليات الدينية" التي قد يتطور موقفها في وقت ما إلى مطالب سياسية تبرر تدخلات خارجية في الجزائر، وتحوّلها إلى مداخل للضغط الخارجي، على خلفية أنّ حماية الأقليات الدينية مضمار رئيس تشتغل عليه القوى الغربية في العقد الأخير، ولا سيما أنّ هذه القوى حاولت في أكثر من محطة سابقة إثارة مشاكل مماثلة تتعلق بوضع المسيحيين والكنائس في الجزائر وفي منطقة القبائل تحديداً، وكذلك مشاكل بعض الطوائف الدينية كالأحمدية. كما أثير في وقت سابق إقصاء المذهب الأباضي، الذي يعتقد به السكان الأمازيغ في منطقة غرداية جنوبي البلاد، من المقررات المدرسية في الجزائر.
وفي السياق، قال رئيس حركة "البناء الوطني" عبد القادر بن قرينة، إنّ المسودة "تناولت حرية المعتقد بجرأة، بحيث لا تجد تمييزاً بين عقيدة الأمة الجزائرية وبين كل ما هو دخيل، حتى وإن كان الغرض منه تمزيق وحدتنا، وأن يكون أداة ضغط لبناء أقليات كيفما كان شكلها". وأشار بن قرينة في تصريح مكتوب بشأن المسودة، إلى أنّ "بعض التعديلات المتضمنة في المسودة، بما فيها المتعلقة بالحريات، تأتي انطلاقاً من الاتفاقيات الدولية، والتي تتناقض أحياناً مع خصوصيات عقائدية وتاريخية وحضارية للجزائر، ولموروث الشعب الجزائري. ففي بنود تلك الاتفاقيات ما يناقض قيم مجتمعنا". وأضاف أنّ "الوثيقة تضمنت العديد من الحقوق، لم تكن في سابقاتها، وهي بالضرورة محل ترحيب منا، ولكن لا ندري ما معنى إطلاق الحريات العامة وعدم تقييدها إلا بقانون". وتابع "كثير من الممارسات المرفوضة شعبياً وحضارياً يضعها أصحابها في خانة الحريات، ولم يقيدها أي قانون". ويلمح بن قرينة كما كثير من المواقف، لقضايا حساسة كـ"المثليين" الذين يضغط الاتحاد الاوروبي منذ فترة على الجزائر للاعتراف بهم.
بدورها، قالت حركة "العدالة والتنمية" في بيانها المتعلق بالمسودة بأنها "تناولت عدداً من القضايا الرئيسية بغموض قد يتسبب في تهديد وحدة الشعب واستقرار بنيانه الاجتماعي والسياسي ووحدته الترابية". فيما اعتبر القيادي في حركة "مجتمع السلم"، نصر الدين حمدادوش، أنّ بعض بنود المسودة "تبرز الخطر على الوحدة الوطنية واللغوية والدينية للشعب الجزائري".
لكن المسؤول في وزارة الشؤون الدينية، والخبير في الجماعات الدينية، يوسف مشرية، رأى أنّ "مخاوف الكثيرين من ملف الأقليات الدينية في الجزائر واعتباره تهديداً للبلاد وللمجتمع، غير واقعية وبالية، مرتبطة بهواجس لا تتأسس على أي مستند". واعتبر مشرية في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "دسترة موضوع الحريات الدينية وحق الممارسة من دون تمييز، يعدّ نقلة نوعية وخطوة كبيرة في مجال الحريات العامة في البلاد، والتي لطالما مورست على الجزائر ضغوط دولية بشأنها وتلقت ملاحظات سلبية من منظمات حقوق الإنسان، بسبب تكبيل قانون ممارسة الشعائر عام 2006 لحق ممارسة المعتقد، والذي لا يتماشى مع روح الدستور. وشهدنا في عز الحراك غلق عدد من المقرات التابعة لمنظومة الكنيسة الإنجيلية البروتستانتية على الرغم من أن هذه الكنيسة معتمدة في الجزائر منذ عام 1975".
وخلال السنوات الماضية، لا سيما في 2019، شنّت السلطات الجزائرية حملة لإغلاق عدد من المقرات كانت تتخذ ككنائس في منطقتي تيزي وزو وبجاية في منطقة القبائل ووهران غربي البلاد، وفقاً لقانون صدر عام 2005 ينظم إقامة الشعائر الدينية لغير المسلمين. وتعرّض البرلمان الأوروبي في لائحة أصدرها في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي لذلك، وعبّر عن "القلق إزاء العقبات الإدارية التي تواجهها الأقليات الدينية في الجزائر"، وطالب السلطات الجزائرية "بضمان الممارسة الكاملة لحرية الفكر والوجدان والدين أو المعتقد للجميع، التي يكفلها الدستور الجزائري، ووضع حد لانتهاكات حرية العبادة للمسيحيين والأحمديين والأقليات الدينية الأخرى، وإعادة فتح الكنائس المغلقة". لكن السلطات الجزائرية تجاهلت المطالبات الأوروبية.
وفي عام 2018، شنّت السلطات الجزائرية حملة واسعة ضدّ المنتمين إلى الطائفة الأحمدية، إذ اعتقل زعيم الطائفة في الجزائر محمد فالي، وتمّ توقيف ومحاكمة 266 عنصراً من أتباع الطائفة بتهم متعددة أهمها الإساءة لمبادئ الإسلام، وحيازة وتوزيع وثائق من مصادر أجنبية تهدد الأمن القومي، والانتماء إلى جمعية غير مرخص لها، وجمع التبرعات من دون ترخيص. وتعرضت الجزائر بسبب ذلك لانتقادات واسعة محلية ودولية، بينها من منظمة "هيومن رايتس ووتش" التي اتهمت السلطات الجزائرية باضطهاد الأحمديين والمجموعات الدينية بسبب الممارسة السلمية لعبادتهم.
وتوجد في العاصمة الجزائرية كنيستان كبيرتان وبعض الأديرة الصغيرة، إضافة إلى بعض الكنائس في وهران وعنابة وتيزي وزو، وأديرة في بعض المناطق الأخرى، والتي تضمن الدولة صيانتها وحمايتها.
من جهته، رأى الناشط والداعية الإسلامي، عبد الرحمن سعيدي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "حرية المعتقد من حيث المبدأ حق ولا مشكلة في ذلك، لكن المخاوف مشروعة إذا كان الأمر يتعلّق بإملاءات أجنبية"، مضيفاً أنّ "التخوفات تكمن أيضاً في عدم احترام قانون ممارسة الشعائر لغير المسلمين في الجزائر، والوافد ليس له أن يُرسم معتقده، بل من حقه أن يمارسه في حدود القانون الناظم لهذه الحرية".
في المقابل، فإنّ بعض القراءات التي تتجاوز الجدل السياسي الراهن والمخاوف المعلنة، تضع التعديلات المتعلقة بإشاعة حرية المعتقد، ضمن كسر تابوهات ومخاوف بالية تركزت في الخيال السياسي والشعبي في الجزائر، وأثرت بشكل بالغ على صورة الدولة في الخارج في ما يتعلق بقضايا التسامح. إضافة إلى أنّ التعديلات تنطوي أيضاً على رؤية مستقبلية تستوعب مجمل القضايا والانشغالات الاجتماعية والإنسانية في حال توجهت الجزائر فعلياً إلى مرحلة انفتاح اقتصادي وسياحي يستقطب الملايين من السياح واليد العاملة المتخصصة والعائلات الاستثمارية، على غرار دول جارة كتونس التي تحتضن أكثر من أقلية دينية بلا مشاكل قائمة.