تلك القطعة المنسية من الوطن الأم، وتلك الأرض الموجعة للسلطة المركزية، لم تكن حادثاً عارضاً، كما أنها ليست أثراً، وليست فعلاً ماضياً قد عبر ومضى، وأيضاً ليست صنماً في معبد كهنوتي تنحني له الرؤوس، بل على العكس من ذلك كله، فقد علت بها رؤوس كانت تظن أنها خليط من قوم تمثلهم أرقاماً وعدداً بلا روح.
ذهبت أرواح إلى باريها دون أن تحيا بما لها من الروح، ودون أن تنال من العيش ما يعتبر، أو يمكن وصفه بالحياة كالحياة.
كانت الوجوه فاترة، اعتادت على رتابة الظلمات، فحتى الظلم كان رتيباً، يعاني كشأننا، يشكو من بيروقراطية وروتين الجلاد.
صباح يوم 23 يناير/ كانون الثاني
يوم لا شمس فيه، وفي السماء غيمة وحيدة، بينما كان العمال يتحركون باتجاه مصنع الإسمنت الوحيد، المملوك لرجل الأعمال الوحيد، الذي كان يتكلم دوماً في الاجتماع السنوي العمومي للمساهمين، في جلسة توزيع الأرباح، بعد أن مرت الحسابات على المراقب المالي، الذي كان بدوره رئيس وزراء سابق، عن طموحات جيمي، ودعم الهانم وتبرعاتها السخية للمجلس القومي للمرأة، وفرشها للجانه الفرعية في المحافظات.
كان الغرض دوماً من الحديث المتكرر ليس آذان المساهمين، بل العاملين، في رسالة مفادها: "لا تجربوا أن تتمردوا، فالطريق مسدود أمام صدفة قد تأتي". حتى أنه من فرط الثقة في سيطرته على زمان المحافظة، لقّب نفسه بعاشق سيناء. كم بائسة هي سيناء بكل عاشقيها المدعين.
نهار اليوم السابق للثورة، ذرائع كثيرة تعوق التنمية، منها الطبيعة الخاصة، نعم ما سبق حقيقي، ويجُاهَر به في وسائل الإعلام كأنه مسوّغ لقمع ونبذ جماعي، قارب أن يكون عرقياً لارتباطه بالمكان وساكنيه.
ما يعني، عوضاً أن تكون الطبيعة الخاصة ميزة نوعية لهذه البقعة عن غيرها من ربوع المحروسة المخروسة، كانت وبالاً على أهلها، في كمائن المرور إلى المركزية وتمليك الأراضي، التي عاش أهلها من قبل الدولة أصلاً، وتوقف مشروعات ترعة السلام، وسكة حديد عادية تربطنا بأقرب محافظة إلينا، وهي الإسماعيلية.
شاهد أبي، كما غيره، قنوات التلفزة تنادي العامة من الناس "ألا فارجعوا.. لن تنالوا إلا الفوضى، وأنا تعلمت من أخطائي، اطمئنوا سأكون فيكم كما ناصر، ديكتاتور محبوب، أداعب أحلامكم في الوحدة والعروبة". رسالة من أبي: "يا حسين.. هيقعد الستة شهور بتاعته ويسلّمها ويمشي".
زوجتي تتفق معي أنه إن بقي في الحكم يومين ستعلّق المشانق، "بس إحنا دلوقتي ربنا كرمنا بعمر وانت بقيت أب، متنساش ده". عمي المقرّب، يهدئ عندي غريزة الاندفاع للمجهول كما يعتقد.
أنا ونفسي، لم أكن مناضلاً، وحتى الآن أترك الموضوع لمناضلي الشارع "أنت ابن أسرة لها باع مع الدولة، محسوب على أبوك الأمين العام السابق الوطني، وعمتك عضوة مجلس الشورى بالتعيين لثلاث دورات متتالية".
أنت دولتي دون أن تسيّس، أو تحمل "كارنيه" الحزب الحاكم، "إنت فاكر لما جتلك رخصة القيادة لحد البيت، ده انت حتى أصلاً قاعد تسوق سنتين من غير رخصة، أصلاً الحل من القاهرة مش من المحافظات".
ألف ألف ثورة لن تكفي سيناء لتزيل عنها مظالم العقود، واستدعاء لاعتقالات وذكريات لأحكام غيابية وحظر للتجوال عقب تفجيرات طابا وشرم الشيخ.
مشهد ليلي قبل موقعة الجمل
سهران على الجزيرة، أشاهد الضرب على الميدان، وضبطت نفسي. أبكي بصوت خافت والجميع نيام، اصمدوا إلى أن نأتيكم، اللّهُمّ ثورة (الآن حسمت أمري).
فجر الجمعة
اتصال عفوي بابن عم والدي، كان يحدثني عن الثورة كأنه يراها، ثم اتصال بآخر من الثوار الذين كفروا بمبادئها في أول منحنى لجمعنا الشبابي الثوري الذي أسسه، ما الخطة؟ لا خطة.. انزلوا ونادوا. لكن سيناء، ونزول جماعي، يعني انتحار.
نهار الجمعة
حراك لا بأس به في العريش، شهداء في الشيخ زويد، وجه بلال الطفل الرجل الذي يريد أن يحمله فيسبقه إلى الجنان.. اشتعال الشوارع وضرب أقسام الظلم في المدن الحدودية. ثوار هناك، هم المظلومين الذين اغتُصبت أحلامهم جهاراً نهاراً وعياناً بياناً، حتى في المساواة في الظلم، هم مناضلون بالفطرة، أضاف عليهم مناضلو الشارع، كما اعتاد الناس أن يلقبونهم،
انسحاب مفاجأة للأمن دون مقاومة، اشتباك في "قسمين" في العريش أسفر عن مقتل مدنيين.
أشرف الحفني الاشتراكي اليساري يتسيّد المشهد
ااااااااه مريض قلبك أنت يا رفيق
مشهد من الذاكرة
مروا من قبل التاريخ في فعالية لخروج المعتقلين، قالوا عنه مجنون، "مر ودعه، لا تلتفت يا حسين"، الآن قدماه لا تقويان على السير وسط الجموع، قلت لكم هي آتية، رددت أصدقك.
وصلت الجموع من مسجد النصر إلى ميدان الرفاعي، أخي الأوسط يأمرني بالرجوع إلى المنزل بإلحاح، رغم قناعته بالعكس، لكن أبي نزل الميدان ليخرجني منه، والضغط العالي يظهر في احمرار أذنيه، والناس تحييه، وسعداء بانضمامه إلى الجموع.. أخرج معه من الميدان مؤقتاً، خوفاً عليه، أسمع اثنين يقولان بصوت مسموع، لا بهمس: "اممممممم ده جاي ياخد ابنه ويمشي". حريق بمبني الحزب الوطني في المحافظة، يلتهم معظم محتوياته، والباقي يُسرق.
تنحى الطاغية، قال تخليت، كلّفت!! كيف؟ نسجد شكراً ونخر راكعين..
شكّلنا ائتلافاً للشباب الثوري الحالم باسم "حركة شباب سيناء"، ثم قمنا بفعالية اعتصام أمام مبنى المحافظة لأسبوعين، مطالبة بإقالة كل التنفيذيين الفَسَدَة، إدارياً ومالياً، ومعهم المحافظ، الذي ما زال معلقاً صورة المخلوع في بهو الديوان العام للمحافظة.
مصرون على مطالبنا، ومتوحدون على هتاف "ابعدوا كل رموز النظام والتنفيذيين الفاسدين"، فلا معقولية الآن لوجودهم.
المحافظ يتفاوض.. سأقيل أربعة والخامس مسنود، ويلمح لصداقته بمراد موافي، الشخصية المخابراتية ومحافظ الإقليم قبل الثورة.
إصرار قدّر له النجاح، حتى أنه في كل هذا العدد من الإقالات، لم تسعد الجماهير إلا بإقالة مدير الإدارة المختصة بالمسابقات والتعيين، الذي كان يتندّر الكثيرون من المحافظة على كون التعيينات تكفي جميع العاطلين لولا أنه كان يجلبهم من خارج المحافظة.
إقرار جديد باتفاق جميع القوى السياسية والثورية لمعايير جديدة للتعيين، منها: أبناء المحافظة والمقيمون فيها، لهم الأولوية، مخافة الاتهام بالعنصرية، الأقدم في تاريخ التخرج.. من ثم مشهد فاصل، فعاليات عسكر كاذبين وعرض بروجكتور لفيديوهات قمع وقتل، وإشارات على تغوّل مؤسسة سيادية، وتعجيل تسليم السلطة للمدنيين، بينما يمر قيادي سابق في الإخوان، ثم أصبح بعدها نائباً، وبمروره يتهمني أمام الجميع بالمراهقة السياسية والتهوّر وعدم النضوج وفوبيا لا مبرر لها، قائلاً باستغراب: "كيف لك أن تنادي بسقوط مؤسسة صانت وحمت، وهي آخر عمود للبلاد ولحماية الثورة؟".
مشهد أخير وليس آخراً
تقلّد أكبر قيادي في جهاز سيادي كان معوّقاً للتنمية والاستثمار في سيناء، بذريعة الأمن القومي، منصب رئيس جهاز تنمية سيناء، المخوّل بالتنمية وتغيير وجه الحياة هنا!
كيف لرئيس جاء بإرادة حرة أن يُسنِدَ منصباً مثل هذا لرجل مثل هذا؟!
الآن فهمت.. الثورة لا تحكم. ولا محال، حين ينصلح الحال خارج سيناء، بالضرورة سينصلح الحال لبلد حلمت أن تقتص لها الثورة، لا أن تقتص منها.
يقيناً لنا عودة..
(مصر)