04 أكتوبر 2024
مصر.. لتعديل ثوابت الإنسانية وحقوق الإنسان
صرّح رئيس الهيئة العامة للاستعلامات في مصر، والذي يشغل، في الوقت نفسه، منصب نقيب الصحافيين، ضياء رشوان، بكلام عن إطلاق موقع إلكتروني حكومي بعدة لغات، لتصحيح مفاهيم حقوق الإنسان. وطبقا لتصريحات رسمية، الهدف من إصدار هذه المنصة التي يتم تحديثها على مدار الساعة هو إرساء المفاهيم الصحيحة عن حقوق الإنسان ومضمونها الحقيقي الشامل، بأبعاده ومكوناته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وشرح الأسس القانونية والثقافية والعالمية لهذا المفهوم وتطبيقاته، من أجل مواجهة "محاولات التسييس"، والاستخدام "المغرِض" لتحقيق أهداف سياسية، وتنفيذ أجندات "مشبوهة" من خلال التوظيف "الزائف" لشعارات حقوق الإنسان، إضافة إلى عشرات القوانين والتشريعات التي تقدّم ضماناتٍ لاحترام حقوق الإنسان في مصر وحمايتها على نحو يتفق مع أعلى المعايير العالمية في النصوص والتطبيق معًا.
ليست هذه التصريحات عجيبة، فهي متوافقة تماما مع تصريحاتٍ سابقة لمسؤولين مصريين مع وسائل إعلام أجنبية، يتحدثون فيها عن اختلاف معايير الإنسانية بين الشرق والغرب، أو اختلاف المنظورين، الشرقي والغربي، لحقوق الإنسان، أو تلك الردود المراوغة أن الحقوق الاقتصادية قبل الحقوق السياسية، أو ذلك الخطاب العجيب بأن محاربة الإرهاب من حقوق الإنسان، فهل المقصود أن تتم صياغة مفاهيم جديدة لحقوق الإنسان تكون متسامحةً مع الحبس الاحتياطي المطول وتلفيق التهم؟ أو ثوابت جديدة متصالحة مع التعذيب من أجل الإجبار على الاعترافات؟ وحقوق جديدة للإنسان تبيح قمع الحريات وإغلاق الصحف والمواقع الإخبارية ومنع ظهور أي معارضةٍ من أي نوع؟
يذكّرنا ذلك بمناظرات وكتابات قديمة، كانت تثار منذ عشرات السنين بين كتّاب الكتلتين،
الشرقية والغربية، عن مفاهيم حقوق الإنسان والحرية، هل هي مقصود بها الحريات الفردية أو حرية الدولة وحقوقها، ففي وقت صياغة ميثاق الأمم المتحدة عام 1945، ثم الإعلان الدولي لحقوق الإنسان عام 1948 ثم العهد الدولي عام 1966، كان هناك ذلك الجدل بين الاتحاد السوفييتي أمام الدول الغربية حول ما هي الحقوق والحريات، فالاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الشرقية كانت تزعم أن الحقوق هي الحقوق الجماعية وحقوق الدولة التي تفرض التزامات وواجبات على الفرد، وليس الحقوق الفردية، في مقابل الدول الغربية وأنظمة الحكم الليبرالية التي تُعلي من قيمة الحريات الفردية والحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
كان هناك الجدال نفسه في الوطن العربي، وفي التجربة الناصرية تحديدا، فقد كان الرئيس جمال عبد الناصر يرى أن الديمقراطية الغربية هي الفساد بعينه، وأن الانتخابات هي الوسيلة التي تمكن الإقطاعيين من الحكم، وأن النقابات العمالية لا بد أن تكون جزءا من الاتحاد الاشتراكي لضمان عدم وقوعها في يد الاستعمار وأعوانه. ولذلك كان عبد الناصر والكتّاب والمنظرون والمثقفون التابعون يعتبرون أن أسمى مظاهر الديمقراطية هي التي يطبقونها في تلك التجربة، فالحقوق هي حقوق الدولة، والحرية هي حرية الشعوب، وأن أعضاء مجلس قيادة الثورة هم الأكثر دراية وعلما بالمصلحة العامة للشعب.
تعتقد السلطة وفروعها أن تغيير المفاهيم المتفق عليها، وتعديل المعاهدات الدولية، أكثر يُسرا من احترامها. وهذا يذكّر بالمحاولات السابقة لتأسيس "فيسبوك" مصري ليكون بديلا عن "فيسبوك" المعروف، عندما تنزعج السلطة مما يكتب عليه، أو تلك الاقتراحات بإنشاء هيئة أغذية مصرية بديلة لمنظمة FDA التي تصدر منها أحيانا تقارير دورية تحذر من محاصيل زراعية مصرية فيها نسبة عالية من الملوثات، أو تلك الاقتراحات بإنشاء هيئة مصرية دولية لمؤشرات التعليم عندما تصدر تقارير ومؤشرات التعليم، وتكون مصر كالعادة في ذيل الترتيب العالمي، أو تلك المقترحات الهزلية بإنشاء أمم متحدة جديدة، بدلا من التي تنتقد سجل الحكومة المصرية في حقوق الإنسان كل فترة. ويذكّر ذلك أيضا بزعيم كوريا الشمالية الذي أوهم شعبه بأن بلاده فازت بكأس العالم، مع أن منتخبها لا يشارك في البطولة من الأساس.
تصدر انتقادات دولية كل فترة للملف المصري لحقوق الإنسان، وإنْ على استحياء، مقتصرة على بعض المنظمات الحقوقية الدولية غير الحكومية، أو عن طريق مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، فاليمين أصبح يسيطر على الحكم في أميركا وأوروبا، وهناك مصالح وتعاون وتفاهم بين الحكومات اليمينية الغربية والحكام المستبدين في الشرق الأوسط، ولكن السلطة تسعى إلى تغيير مفاهيم الإنسانية وحقوق الإنسان، لتتوافق مع الممارسات القائمة، بدلا من بذل مجهود كبير من أجل الإصلاح والمحاسبة واحترام حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير.
وفي سياقٍ ليس منفصلا. ثار قبل أيام جدل في الأوساط الحقوقية، بعد تطوع حقوقيين مصريين للدفاع عن مؤسس صفحة "احنا آسفين يا ريس" ومديرها، وهي الصفحة الشهيرة التي تم إنشاؤها بعد الثورة للدفاع عن حسني مبارك وأولاده ونظامه، وهي الصفحة التي ظلت سنوات لا هم لها إلا تبييض وجه نظام مبارك أمام الجمهور، وهي الصفحة التي كان شغلها الشاغل هو الإساءة لثورة يناير وتشويها، والإيحاء بأنها مؤامرة خارجية ضد الرئيس الطيب البريء حسني مبارك، وهي الصفحة التي كانت تكيل الاتهامات للحقوقيين وللمجتمع المدني ليلا ونهارا وتتهمهم بأنهم عملاء للغرب يتم تمويلهم من أجل تنشيط الثورات بالحديث عن حقوق الإنسان، ولكن مدير تلك الصفحة وقع، أخيرا، في المحظور، عندما حاول المقارنة بين عهدي مبارك وعبد الفتاح السيسي، عقب الإجراءات الأخيرة لزيادة أسعار الوقود والكهرباء. ويا لسخرية القدر بأن يكون من يدافع عن مؤسس تلك الصفحة هم الأشخاص أنفسهم الذين كالَ لهم الاتهامات والشائعات الشنيعة طوال تلك السنوات.
على الرغم من بعض النقد الذي وجهه بعض أنصار ثورة يناير للحقوقيين المصريين الذين
تبرّعوا بالدفاع عن مدير صفحة "إحنا آسفين يا ريس" بأنهم يدافعون عن شخصٍ يشوّه ثورة يناير التي أزاحت مبارك، ويشوّه الحركة الحقوقية، وكل المطالبات بالديمقراطية وحرية التعبير، ولكن رد محامين كثيرين كان أن تلك هي مهمتهم، مهما كان الخلاف والاختلاف، فحتى لو كان المتهم كارها لثورة يناير، وغير معترف بحقوق الإنسان، فإن من حقه محاكمة عادلة ومعاملة طيبة وظروف احتجاز مناسبة. وهذا هو السبب نفسه الذي يجعل بعض الحقوقيين العلمانيين يتولون الدفاع في قضايا بعض رموز وأعضاء تنظيمات إسلامية، على الرغم من الخلاف الفكري الكبير، وهذا هو المبدأ نفسه الذي يجعل بعضا لا يزال يدافع عن حقوق الإنسان للخصم قبل الحليف.
وعلى الرغم من هزيمة ثورة يناير، وعلى الرغم من الانقسام المستمر والخلافات العميقة بين كل مكوناتها، إلا أن هناك كثيرين ممن لا يزالون متمسكين بقيمها الحقيقية، القيم التي يصفها بعضهم بالمثالية المفرطة، والتي ليس لها مجال في الحياة السياسية التي تشبه الغابة، إنها القيم التي منعت بعضهم من تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل، ورفضهم أي انتهاكات في صفوف أنصار مبارك بعد التنحي، وهي القيم نفسها التي سمحت لأنصار حسني مبارك بالتظاهر والاعتصام بحرية، على الرغم من عدائهم الثورة التي سلبتهم الكثير من امتيازاتهم، وهي القيم التي تجعل بعضهم يدافع عن كل المظلومين والمضطهدين، مهما كانت درجة العداء والخلاف السابق.
ليست هذه التصريحات عجيبة، فهي متوافقة تماما مع تصريحاتٍ سابقة لمسؤولين مصريين مع وسائل إعلام أجنبية، يتحدثون فيها عن اختلاف معايير الإنسانية بين الشرق والغرب، أو اختلاف المنظورين، الشرقي والغربي، لحقوق الإنسان، أو تلك الردود المراوغة أن الحقوق الاقتصادية قبل الحقوق السياسية، أو ذلك الخطاب العجيب بأن محاربة الإرهاب من حقوق الإنسان، فهل المقصود أن تتم صياغة مفاهيم جديدة لحقوق الإنسان تكون متسامحةً مع الحبس الاحتياطي المطول وتلفيق التهم؟ أو ثوابت جديدة متصالحة مع التعذيب من أجل الإجبار على الاعترافات؟ وحقوق جديدة للإنسان تبيح قمع الحريات وإغلاق الصحف والمواقع الإخبارية ومنع ظهور أي معارضةٍ من أي نوع؟
يذكّرنا ذلك بمناظرات وكتابات قديمة، كانت تثار منذ عشرات السنين بين كتّاب الكتلتين،
كان هناك الجدال نفسه في الوطن العربي، وفي التجربة الناصرية تحديدا، فقد كان الرئيس جمال عبد الناصر يرى أن الديمقراطية الغربية هي الفساد بعينه، وأن الانتخابات هي الوسيلة التي تمكن الإقطاعيين من الحكم، وأن النقابات العمالية لا بد أن تكون جزءا من الاتحاد الاشتراكي لضمان عدم وقوعها في يد الاستعمار وأعوانه. ولذلك كان عبد الناصر والكتّاب والمنظرون والمثقفون التابعون يعتبرون أن أسمى مظاهر الديمقراطية هي التي يطبقونها في تلك التجربة، فالحقوق هي حقوق الدولة، والحرية هي حرية الشعوب، وأن أعضاء مجلس قيادة الثورة هم الأكثر دراية وعلما بالمصلحة العامة للشعب.
تعتقد السلطة وفروعها أن تغيير المفاهيم المتفق عليها، وتعديل المعاهدات الدولية، أكثر يُسرا من احترامها. وهذا يذكّر بالمحاولات السابقة لتأسيس "فيسبوك" مصري ليكون بديلا عن "فيسبوك" المعروف، عندما تنزعج السلطة مما يكتب عليه، أو تلك الاقتراحات بإنشاء هيئة أغذية مصرية بديلة لمنظمة FDA التي تصدر منها أحيانا تقارير دورية تحذر من محاصيل زراعية مصرية فيها نسبة عالية من الملوثات، أو تلك الاقتراحات بإنشاء هيئة مصرية دولية لمؤشرات التعليم عندما تصدر تقارير ومؤشرات التعليم، وتكون مصر كالعادة في ذيل الترتيب العالمي، أو تلك المقترحات الهزلية بإنشاء أمم متحدة جديدة، بدلا من التي تنتقد سجل الحكومة المصرية في حقوق الإنسان كل فترة. ويذكّر ذلك أيضا بزعيم كوريا الشمالية الذي أوهم شعبه بأن بلاده فازت بكأس العالم، مع أن منتخبها لا يشارك في البطولة من الأساس.
تصدر انتقادات دولية كل فترة للملف المصري لحقوق الإنسان، وإنْ على استحياء، مقتصرة على بعض المنظمات الحقوقية الدولية غير الحكومية، أو عن طريق مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، فاليمين أصبح يسيطر على الحكم في أميركا وأوروبا، وهناك مصالح وتعاون وتفاهم بين الحكومات اليمينية الغربية والحكام المستبدين في الشرق الأوسط، ولكن السلطة تسعى إلى تغيير مفاهيم الإنسانية وحقوق الإنسان، لتتوافق مع الممارسات القائمة، بدلا من بذل مجهود كبير من أجل الإصلاح والمحاسبة واحترام حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير.
وفي سياقٍ ليس منفصلا. ثار قبل أيام جدل في الأوساط الحقوقية، بعد تطوع حقوقيين مصريين للدفاع عن مؤسس صفحة "احنا آسفين يا ريس" ومديرها، وهي الصفحة الشهيرة التي تم إنشاؤها بعد الثورة للدفاع عن حسني مبارك وأولاده ونظامه، وهي الصفحة التي ظلت سنوات لا هم لها إلا تبييض وجه نظام مبارك أمام الجمهور، وهي الصفحة التي كان شغلها الشاغل هو الإساءة لثورة يناير وتشويها، والإيحاء بأنها مؤامرة خارجية ضد الرئيس الطيب البريء حسني مبارك، وهي الصفحة التي كانت تكيل الاتهامات للحقوقيين وللمجتمع المدني ليلا ونهارا وتتهمهم بأنهم عملاء للغرب يتم تمويلهم من أجل تنشيط الثورات بالحديث عن حقوق الإنسان، ولكن مدير تلك الصفحة وقع، أخيرا، في المحظور، عندما حاول المقارنة بين عهدي مبارك وعبد الفتاح السيسي، عقب الإجراءات الأخيرة لزيادة أسعار الوقود والكهرباء. ويا لسخرية القدر بأن يكون من يدافع عن مؤسس تلك الصفحة هم الأشخاص أنفسهم الذين كالَ لهم الاتهامات والشائعات الشنيعة طوال تلك السنوات.
على الرغم من بعض النقد الذي وجهه بعض أنصار ثورة يناير للحقوقيين المصريين الذين
وعلى الرغم من هزيمة ثورة يناير، وعلى الرغم من الانقسام المستمر والخلافات العميقة بين كل مكوناتها، إلا أن هناك كثيرين ممن لا يزالون متمسكين بقيمها الحقيقية، القيم التي يصفها بعضهم بالمثالية المفرطة، والتي ليس لها مجال في الحياة السياسية التي تشبه الغابة، إنها القيم التي منعت بعضهم من تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل، ورفضهم أي انتهاكات في صفوف أنصار مبارك بعد التنحي، وهي القيم نفسها التي سمحت لأنصار حسني مبارك بالتظاهر والاعتصام بحرية، على الرغم من عدائهم الثورة التي سلبتهم الكثير من امتيازاتهم، وهي القيم التي تجعل بعضهم يدافع عن كل المظلومين والمضطهدين، مهما كانت درجة العداء والخلاف السابق.