نفذوا شروط الصندوق قبل أن تبدأ المفاوضات بشهور طويلة، واستعدوا جيداً للحصول على قرض قيمته 12 مليار دولار لعله ينقذهم في هذه اللحظات الحرجة التي بات فيها الاقتراض المحلي مكلفاً جداً، وبات سعر الدولار يضغط على كل السلع الأساسية والشعبية، بل ويسبب لهم حرجاً مستمراً وخاصة أنهم وعدوا أكثر من مرة بوقف الارتفاعات المستمرة في الأسعار دون جدوى أو حتى على الأقل الحد منها.
ما اعنيه هنا بالصندوق هو صندوق النقد الدولي الذي تلجأ له الدول في وقت الأزمات والانهيارات الاقتصادية والمالية، وما أعنيه بالروشتة هي شروط الصندوق التي يجب على الدول الدائنة تنفيذها بالحرف رغم أنها تكون أحيانا مذلة وتسبب اضطرابات اجتماعية عنيفة كما حدث في بلدان كثيرة.
أخيراً مصر تلجأ لصندوق النقد الدولي في إطار خطة لاقتراض 21 مليار دولار من المؤسسات المالية الدولية، ومع هذا اللجوء تدخل مصر عش الطاعة الاقتصادية التي يفرضها الصندوق على الدول المدينة، فالدائن له شروطه وإلا يرفض منح القروض.
ويبدو أن الحكومة المصرية تنبهت مبكراً لهذه الشروط، ولذا لم تترك ثغرة تنفذ منها بعثة صندوق النقد الدولي التي بدأت زيارة للقاهرة أمس السبت لتعطيل الحصول على القرض الدولاري الضخم أو حتى تأجيله إلا وسدتها.
ولم تترك الحكومة شرطاً واحداً طلبه الصندوق أو حتى لمّح اليه في فترات أو خلال مفاوضات سابقة إلا ونفذتها حرفياً وكما يقول الكتاب، بل نستطيع أن نقول إنها نفذت كل بنود الروشتة المقترحة في أوقات سابقة وزيادة.
فقد خفضت الحكومة قيمة الجنيه المصري أمام الدولار وهو بند دائم في مطالب صندوق النقد، بحجة جذب مزيد من المستثمرين وزيادة إيرادات البلاد من النقد الأجنبي، خاصة من قطاعي السياحة والاستثمارات الأجنبية.
وأقرت الحكومة قانون الخدمة المدنية الذي طالما كان مطلباً مستمراً للصندوق بحجة تقليص عدد العاملين بالجهاز الإداري للدولة، علماً بأن حكومات كثيرة سابقة رفضت تطبيقه، حتى لا يحدث انفجار مجتمعي في حال تخفيض الرواتب أو العلاوات أو إقالة موظفين حكوميين، ورغم ذلك أصرت حكومة شريف إسماعيل على تطبيقه بغض النظر عن التبعات، المهم رضاء الصندوق للإفراج عن قرض بقيمة 12 مليار دولار.
رفعت الحكومة الرسوم والضرائب على كل شيء ووسعت دائرة المجتمع الضريبي، وفي الوقت الذي خضعت فيه لضغوط رجال الأعمال ورفضت تطبيق ضريبة الأرباح الرأسمالية والاستثمارات في البورصة أقر البرلمان قانون القيمة المضافة الذي من المتوقع أن يصيب الأسواق التجارية في مقتل.
رفعت الحكومة الأسعار ومعها خفضت الدعم المقدم من الدولة لسلع رئيسية، مثل الكهرباء والمياه والبنزين والسولار والغاز والإسكان الاجتماعي.
رفعت الجمارك على 614 سلعة وهو ما رفع الأسعار إلى معدلات قياسية، وكانت حجة الحكومة في ذلك الحد من الواردات وعلاج العجز الكبير في الميزان التجاري وهي مطالب رئيسية للصندوق.
ببساطة طبقت الحكومة كل شروط الصندوق، حتى ولو جاءت على حساب ملايين الفقراء والموظفين، وتسببت في إرباك السوق ورفع الأسعار وتدني قيمة العملة لمستويات قياسية.
ورغم كل هذه الفاتورة الباهظة التي قدمتها الحكومة لكسب ود الصندوق فإن بعثة الصندوق تريد خلال زيارتها الحالية للقاهرة أن ترى "بأم عينها" مدى قدرة الحكومة على سداد الديون الخارجية، وما هو مصدر سداد القروض الضخمة، وما هي خطة الحكومة لإعادة التعافي لقطاع السياحة والاستثمارات الخارجية.
وما هي خطتها في البحث عن أسواق جديدة تمكنها من إعادة قطاع الصادرات لمستويات ما قبل ثورة 25 يناير؟
وكيف ستتعامل الحكومة مع ملفات مزمنة تؤثر على الأنشطة الاقتصادية منها ريجيني وحادث الطائرة الروسية والأمن في المطارات وحادث الطائرة المكسيكية؟
قرض صندوق النقد الدولي هو قرض طارئ لعلاج أزمة طارئة هي اضطرابات سوق الصرف والزيادة المستمرة في سعر الدولار، وربما يكون قرضاً ساماً، وبالتالي فإن الرهان الشديد عليه مضيعة للوقت، إذ لا بد أن تتحرك الحكومة بسرعة لإعادة الحياة للأنشطة الاقتصادية والإنتاج والصناعة والتصدير، فهذه الأمور هي قبلة الحياة للاقتصاد المصري وليس القروض الخارجية.
الغريب هنا أنه رغم تطبيق الحكومة المصرية كل هذه الشروط لمحاولة إقناع الصندوق بمنح البلاد القرض المطلوب تخرج علينا وسائل الإعلام وتؤكد أن قروض صندوق النقد بلا شروط، ونسي هؤلاء أن يقولوا لنا إن الصندوق خضع لضغوط الحكومة لا العكس.