يُحارَب أهل القدس في لقمة عيشهم، وفي مدارسهم ومراكزهم الصحية، في مياههم، وكهربائهم، وبالضرائب الباهظة التي تُفرض عليهم، وبالأموال الطائلة والجنسيات الغربية الجاهزة، إن هم قرّروا بيع ممتلكاتهم ليهودي، وغادروا القدس من غير رجعة.
ومع هذا، وصل عدد السكان العرب الفلسطينيين داخل القدس إلى 300 ألف من أصل 850 ألفاً يسكنون شرق القدس وغربها، لكنها حياة مناكفة ومكابدة يومية.
ووفقاً لما يقوله أحد مسؤولي الأوقاف في القدس، إنها معركة ثلاثية الأبعاد، وهي المكان "شبراً شبراً"، والزمان "لحظة بلحظة"، وصلت إلى مرحلةٍ لا يمكن اعتبار الزمن فيها متاحاً، والإنسان المهدّد كل لحظة بكل ما يمكن أن تُهدّد به كرامته ومعيشته وحقوقه الأساسية.
والمعركة كما يقول السيد حنّا عيسى، أحد أهم المراجع وأكثرهم متابعة تفصيلية لما يجري في القدس، ليست مقتصرةً على المسلمين، ولكن ضد المسيحيين وأماكنهم المقدّسة.
وبسبب هذا الضغط، تراجع عدد المسيحيين في مدينة القدس إلى حوالي تسعة آلاف شخص فقط. واستهداف المسيحيين في القدس يسعى إلى تصوير المعركة حول القدس أنها معركةٌ دينيةٌ بين المسلمين واليهود.
وهنالك عشرات المراكز اليهودية المتخصّصة في الدراسات عن القدس وتاريخها من أجل ربطها بالنبيّين، داود وسليمان (قبل أكثر من ألف سنة من مولد المسيح عليه السلام).
ومع أن التهديد بالهدم ليس موجّهاً حتى الآن ضد كنيسة القيامة، إلا أن الوجود الآدمي للمسيحيين في القدس مهدّد. أما بالنسبة إلى المسجد الأقصى فهو المسجد الوحيد الذي يعترف الإسرائيليون بوجوده، وأما قبة الصخرة فيعترف به مكانا أثريا، وإن سمحوا باستخدام كلمة مسجد، فيشار إليه بالمسجد الصغير.
وهنالك ضغط كذلك على المدارس، حيث يتعرّض الأطفال، ذكوراً وإناثاً، قبيل دخولهم من أحد أبواب القدس إلى المدرسة إلى التفتيش المهين، والانتظار. وبذلك، بدأ يتراجع عدد الأطفال، وخصوصا الذين يدرسون في المدارس الوقفية.
وفي المقابل، لليهود عشرات المدارس الدينية التي تخرج المتعصبين والمتطرّفين منهم. ويقوم هؤلاء الطلبة في كل فرصة تتاح لهم بمتابعة الأطفال المقدسيين الفلسطينيين، ومضايقتهم بالإهانة والتهديد وبالضرب، أو حتى بالاعتداء بأسلحةٍ بيضاء. ولعل من المفيد أن يُذكر هنا أن اثني عشر وزيراً في حكومة إسرائيل الحالية درسوا في المدارس التلمودية المتعصّبة.
وفي وقتٍ تتاح الأموال بدون حدود، من أجل اجتثاث الهوية العربية والإسلامية من القدس، ومن أجل تفريغها من سكانها، فإن ما يأتي من تبرّعات للأماكن الإسلامية داخل القدس نزر يسير.
ومنذ إعلان الوصاية الهاشمية على القدس عام 1924، حين بايع أهل القدس الشريف الحسين بن علي، فقد أنفق الهاشميون، بحسب دراسة أجريت، حتى الآن ما قيمته مليار دولار، مقاسة بدولار عام 2016.
وترسل بعض الدول العربية هبات وزكوات توزّع في القدس وما حولها، وخصوصا من بعض دول الخليج والمملكة المغربية. أما اليهود فيقدّمون للمشروعات الإسرائيلية والتهويدية بلايين الدولارات، والتي لا يُعلم حسابها، لكنها تفوق، في سنة واحدة، ما قدّمه العرب والمسلمون في آخر عشرين سنة.
اقتربت الخطط الإسرائيلية لبناء الهيكل من نضوجها. وليس معلوماً إذا كان هذا البناء سيقوم مقام المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة بالكامل، كما تطالب الأحزاب المتشدّدة الحاكمة، أم أن جزءاً من الأقصى فوق الأرض، وكامل ما تحت الأرض هو الذي ستتحكّم به إسرائيل، وتقيم عليه الهيكل، ليس معلوماً على وجه الدقة حتى الآن.
على الجميع مسؤولية كبرى حيال القدس، فالأنفاق تحت المسجد الأقصى، وفي المساحة المخصصة للأماكن الإسلامية داخل أسوار القدس، والبالغة 144 دونماً وربع الدونم، وربط قطار أنفاق سريع يصل بين القدس وتل أبيب، تعلن عن نوايا إسرائيل في إنهاء كل الوجود العربي الإسلامي فيها.
إذا حصل المتوقع، وفعلت إسرائيل والصهيونية ما تنوي فعله، بدعم كبير ومباشر من الإدارة الأميركية، ستكون النتائج وخيمة. ولربما لن تكون ردة الفعل في بداياتها قوية، ولربما تكون قابلةً للاحتواء في ظل الأوضاع المعيشية والسياسية والعسكرية التي يعيشها الوطن العربي. ولكن أثرها في المديين، المتوسط والطويل، سيكون كارثياً.
نتذكّر الخليفة عمر بن الخطاب الذي أعطى العهدة العمرية لأهل القدس، وفي مقدمتهم البطريرك صفرونيوس، قائد الكنيسة الشرقية في القدس، لأنه أتى بالقدس من دون أن ينكر حقوق أهلها أو يعتدي عليها.
ونتذكّر صلاح الدين الأيوبي الذي استعادها، وعبد الملك بن مروان الذي بنى أسوارها، وسليمان بن عبد الملك الذي بنى إسطبلاتها، فماذا سيكون الحكم لو أقيم الهيكل وهدم الأقصى، لا سمح الله.
الوقت للتحرّك والعمل هو الآن، وأهل القدس يصرخون بنا. ويقولون لنا تعالوا إلينا، وادعموا موقفنا، فنحن صامدون، ونريد أنفاسكم معنا.
المطلوب تشجيع السياحة الإسلامية والمسيحية إلى القدس من الدول العربية والإسلامية. وكذلك المطلوب إنشاء صندوق دعمٍ للقدس، يموّل جزئياً بالصكوك الإسلامية، من أجل إعمار القدس وترميم مقدساتها، وتمكين أهلها من الحفاظ على ممتلكاتهم فيها.