لم تُجدِ محاولات الجانبين التركي والروسي ترحيل حسم مصير شمال غربي سورية، إذ بدأت فعلياً معركة لطالما لوّح بها النظام السوري لإخضاع محافظة إدلب ومحيطها، بمحاولة قوات النظام أمس التوغّل في ريف حماة الشمالي، لكنها اصطدمت بمقاومة عنيفة من فصائل المعارضة، ليؤكد ذلك سريعاً أن معركة إدلب ومحيطها مختلفة عما سبقها من معارك، في ظل وجود آلاف المقاتلين من المعارضة المسلحة ومن "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) وفصائل تدور في فلكها، فضلاً عن وجود نحو 4 ملايين مدني، يفتح أيُّ صدام مسلح واسع النطاق أمامهم أبواب أزمات إنسانية كبيرة.
وشهد صباح أمس الإثنين محاولة من قوات النظام للتوغّل في ريف حماة الشمالي، التي تقدّمت باتجاه قرية الجنابرة "وسيطرت عليها بالفعل لمدة ساعتين، إلا أنها اضطرت إلى الانسحاب تحت ضربات فصائل المعارضة السورية"، وفق مصدر قيادي في الجيش السوري الحر، أشار في حديث مع "العربي الجديد" إلى مقتل وإصابة العشرات من القوات المهاجمة، مؤكداً حدوث اشتباكات "من بيت إلى بيت" في القرية. وأشار القيادي الذي طلب عدم ذكر اسمه، إلى أن هذه القوات تحاول منذ صباح أمس الإثنين التقدّم على محور "الصخر" حول بلدة كفرنبودة تحت غطاء جوي روسي، مؤكداً حدوث اشتباكات وصفها بـ"العنيفة".
ويؤكد النظام من خلال وسائل إعلامه أن قواته تستعد لـ"معركة إدلب" ومحيطها، إذ زعمت صحيفة "الوطن" أمس الإثنين أن "الجيش أحكم طوق قبضته على التنظيمات الإرهابية في قطاعي حماة وإدلب من المنطقة منزوعة السلاح، وبات على أهبة الاستعداد لتنظيفها من الإرهابيين"، وفق تعبير الصحيفة التي أكدت مشاركة الطيران الروسي في تنفيذ "غارات كثيفة ومركزة". كما زعمت وسائل إعلام النظام أن الجانب التركي حاول الضغط لتأجيل العملية العسكرية التي تنوي قوات النظام القيام بها ضد محافظة إدلب، من خلال تحريك الجبهة في ريف حلب الشمالي، مدعية أن النظام "أفشل المحاولة".
ويبدو أن النظام وداعميه الروس يمهدون الطريق لتوغّل بري من خلال حملة القصف التي لا تكاد تهدأ، وتطاول ريف حماة الشمالي وأجزاء من ريفي إدلب الشمالي والغربي. وأشارت مصادر قيادية في "جيش العزة" إلى أن النظام "بدأ عملياً معركة إدلب منذ 70 يوماً، من خلال التمهيد المستمر بالمدفعية والصواريخ"، موضحة أن "الطيران الروسي انضم للتمهيد"، مضيفة: "واليوم (الإثنين)، بدأ التقدم البري ولكنه انتكس انتكاسة كبيرة في قرية الجنابرة".
وفي هذا السياق، واصلت قوات النظام أمس قصفها مدناً وبلدات وقرى في المنطقة، موقعة قتلى وجرحى في صفوف المدنيين. وطاول القصف أمس قرى في ريف حلب الجنوبي الغربي، إضافة إلى ريف حماة الشمالي وإدلب الجنوبي، في حملة يصفها ناشطون بـ"المسعورة" أدت إلى مقتل وإصابة وتشريد عشرات الآلاف منذ أواخر الشهر الماضي، كما أدت إلى خروج مستشفيات ومراكز طبية عن الخدمة. وقال فريق "منسقي الاستجابة" في تقرير له السبت الماضي، إن القوات الروسية وقوات النظام استهدفت أكثر من 91 نقطة، من ضمنها 13 نقطة حيوية، تشمل أربعة مراكز طبية ومستشفيات، ونقطتين للدفاع المدني ومخيمين للنازحين، وخمس منشآت تجري فيها العملية التعليمية.
ويدرك النظام وحلفاؤه أن معركة إدلب مختلفة بالمطلق عما سبقها من معارك، إذ تكاد تكون "أمّ المعارك" في سورية، وهو ما يدفع النظام إلى تغيير حساباته السياسية والعسكرية تجاهها بين فترة وأخرى. ومحافظة إدلب هي المعقل الأخير لـ"هيئة تحرير الشام" ومجموعات وتنظيمات متشددة تدور في فلكها، تملك آلاف المقاتلين الحاملين فكراً جهادياً يدفعهم للاستماتة في القتال، وهو ما قد يكبّد النظام خسائر فادحة في حال تقدّمه في عمق شمال غربي سورية. كما أن المعارضة السورية تعتبر إدلب معقلها البارز الذي "لن تفرط به"، وفق قيادي في الجيش السوري الحر، أشار إلى أن الأخير "جاهز لكل الاحتمالات بما فيها مواجهة كبرى".
وتنضوي أغلبية فصائل المعارضة المسلحة في "الجبهة الوطنية للتحرير"، باستثناء فصيل "جيش العزة" المدافع الرئيسي عن ريف حماة الشمالي خط الدفاع الأول والرئيسي عن محافظة إدلب. وأكدت مصادر لـ"العربي الجديد" أن "فصائل المعارضة تضم أكثر من 50 ألف مقاتل بات لهم باع طويل في قتال قوات النظام، وهم مدربون تدريباً يمكّنهم من الصمود بل والمبادرة بالهجوم على قوات النظام والمليشيات المرتبطة بها".
ورأى القيادي في الجيش السوري الحر العقيد فاتح حسون، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "تطور وتصاعد العمل العسكري الروسي في منطقة إدلب يعتمدان على مدى التقارب التركي الأميركي وتفاهماتهما بما يتعلق بشرق الفرات". ومضى بالقول: "الروس صرحوا بعد اتفاق سوتشي حول إدلب، بأنهم سيعطون تركيا وقتاً لتنفيذ بنود الاتفاق، وتتالت تصريحاتهم التي تصب في الاتجاه نفسه، لكنهم صعّدوا في قصفهم على المنطقة عندما تم الإعلان عن قرب التفاهم بين تركيا وأميركا بما يتعلق بالمنطقة الآمنة شرق الفرات والبدء بتنفيذ خطوات تصب لصالح هذا الاتفاق غير الموجودة به روسيا".
وأوضح حسون أن هناك جملة من العوامل التي تمنع النظام والجانب الروسي من اجتياح المنطقة، "منها جاهزية قوى الثورة العسكرية، والموقف التركي الرافض قطعياً، ودعم المجتمع الدولي وفي مقدمِه الولايات المتحدة لهذا الموقف"، مضيفاً: "ومن العوامل عدم وجود منطقة ينزح إليها المهجرون، وبالتالي هناك احتمال في تجاوزهم الحدود التركية وذهابهم إلى أوروبا مدنيين وعسكريين، مما سيجعل ذلك أزمة عالمية. وفي المحصلة، تمارس روسيا قصفها الإجرامي لتحقيق مكاسب لن تكون أكثر مما توصلت إليه في اتفاق قمة سوتشي حول إدلب".
وتعيد قوات النظام والطيران الروسي السيناريو نفسه الذي نُفذ في جنوب سورية، والغوطة الشرقية، وريف حمص الشمالي، والذي أدى في النهاية إلى إخضاع هذه المناطق من خلال سياسة "المصالحات" التي كانت مدخلاً واسعاً للفتك بالمدنيين.
ويسود تخوّف في محافظة إدلب ومحيطها بين نحو 4 ملايين مدني، بمَن فيهم النازحون من مناطق سورية أخرى، من عملية عسكرية واسعة النطاق للنظام، ستؤدي إلى تشريدهم في ظل تقلص المساحة الجغرافية التي من الممكن اللجوء إليها، إذ يرى البعض أنه من الصعب أن تفتح تركيا حدودها للنازحين الجدد. وأكدت مصادر محلية لـ"العربي الجديد" أن عائلات بدأت تفكر بالانتقال من محافظة إدلب إلى منطقتي "درع الزيتون" في عفرين وريفها، و"درع الفرات" في ريف حلب الشمالي.