تحت عناوين مثل: "طب وصحّة" أو "نصائح طبيّة" أو "العيادة التلفزية"، بات الإعلام العربي، في نُسخه الورقيّة ومواقعه الإلكترونيّة كما في إذاعاته وقنواته المرئية، يُخصّص زوايا قارّة لشؤون الصحّة وما يعتريها من العِلل، ولسُبل الوقاية منها حِميةً واستباقاً، فضلاً عن توصيف الأدوية والأغذية، وهي فرعٌ من فروع الطبِّ أصيل، وما لها من المنافع والمضار على جسم الإنسان وعقله.
وتُعالج هذه المواد الأمراضَ وأعراضها وتشرحها لجمهور القرّاء بوصف علاماتِها وطرق التعافي منها، ضمن ما يشبه الموسوعة الطبيّة الميّسَرة. كما تستعرض آخرَ ما توصّلت إليه الأبحاث الطبيّة من اكتشافات، وجلّها من إنجاز علماء الغرب في مختبراته.
واللافت أنَّ الغالبية الكبرى من هذه المواد، على تنوّعها وعُسر اصطلاحاتها، تُصاغ بفصيح الضاد مع المراعاة التامّة لخصوصية معانيها ودقّتها. وقد ابتدأت هذه الجهود مع شبلي شميل (1850 - 1917) أوّل الأطباء العرب، بالمعنى التجريبي الحديث. فقد ألّف العديد من المقالات عن شؤون الأحياء ونَشَرها عبر أعمدة مجلّة "المقتطف" (1876 - 1952).
ثم تواصلت جهود تعريب الخطاب الطبيّ بالتزامن مع إنشاء كليّات الطب وممارسته في مستشفيات العالم العربي بُعيد الاستعمار. واعتمد التأليف فيه على مرجعية مزدوجة: فمن جهة أولى، استند إلى كتبِ التراث وخصوصاً أعمال الأطبّاء العرب القدامى ومُشرِّحيهم.
وقد أظهر المعجمي التونسي إبراهيم بن مراد هذا الإسهام الثري في كتابه "بحوث في تاريخ الطب والصيدلة عند العرب" (1991). ومن جهة ثانية، اعتمد بشكل أكبر على ترجمة الأبحاث الغربية، إذ كان أطبّاؤنا حينَها يتلقّون تكوينهم في جامعات فرنسا وإنكلترا وأميركا، ومنها ينقلون العلوم إلى ذويهم.
وهكذا نشطت حركة التأليف والترجمة والنشر في المجال الطبّي، بما تستتبعه من توليد للمفردات، ليس فقط من أجل ضبط أسماء الظواهر الصحية المألوفة، وقد تعمّقت معرفة الإنسان بها بعد أن انجلت عنها التفاسير الغيبية والخرافية، وإنما للإحالة على هذا الكم الهائل من الأمراض الحديثة وأعراضها وتدقيق ما يتّصل بها من وسائل الوقاية والاستشفاء، وبعضها ناتجٌ عن النمط الحضري في الحياة وتأثيره في صحة الأفراد والشعوب.
"الصحة العمومية" وقد أضحى لها، في هياكل الدولة، وزارةٌ خاصة تحمل اسمها، وتشرف على مشافي البلد، عبر منشوراتٍ رسمية، تجسِّد سياسات الحكومة في التوعية الصحية، كما تتعامل مع الجهات الداخلية والخارجية لشراء الأدوية والمعدّات وفرض التلاقيح وضبط برامج التحسيس الصحي، خالقةً بهذا النشاط اللغوي خطاباً "رسميّاً" عن الجسد الذي غدا، بفعل هذا الإشراف، من صلاحيات الدولة ومشمولاتها. وعلى أجهزتها التعبير عنها باللغة الرسمية أي: العربية الفصحى.
ولاحقاً، ساهمت البرامج الإذاعية والنصائح الطبية والعيادات المباشرة وحملات التوعية المستمرّة، وهي أيضاً من عمل الدولة، في بسط المصطلحات وترسيخها عبر نقلها من السجلّ العالِم إلى محاورات الناس اليومية.
وقد واجهت تسمية شؤون الصحّة وتركيبة الأعضاء التي كشفها علم التشريح، معضلتَين أساسيّتَين: وفرة المصطلحات التقنية، شديدة التخصّص، إلى درجة يصعب استخدامُها بين فئات الشعب، وجلّهم من ذوي الثقافة المحدودة، ومن أمثلتها ألفاظ: قسطرة، وفرزجة، وكهارل... علاوة على طغيان الاقتراض لمفردات اللاتينية والإنكليزية، ويكفي دليلاً إيرادُ أسماء المعادن والأملاح الموجودة في الجسم، مثل: صوديوم، وكالسيوم، وبوتاسيوم، وكلور، وفوسفات ومغنيسيوم... وكلّها حافظت على صيغها الإغريقية الأصلية، إذ جرى اقتباسها بدون كبير تحوير.
والعجب، وهذا من تبعات الحداثة الطبية غير المتوقّعة، أنَّ جل هذه المواد المعرفية، وإنْ كانت صادرة عن المختبرات الغربية، وهي عمومًا تؤمن بالمادة وتَجحد ما عداها، تلقى أصداء واسعة لدى الجمهور المؤمن، فيربط بين الصحّة والتعاليم الدينية، وهو ما يلاحَظ في انتشار المقالات الطبية، طيلة شهر رمضان، حول علاقة الصوم بالأمراض المزمنة: كالسكّري وضغط الدم والسرطان... ومن التبعات أيضاً، والنهج في البرهنة أدقّ، استغلال البحوث العلمية للإشادة بإعجاز القرآن، فغالباً ما "يَستدلُّ" الدعاة ببعض النتائج العلمية والاكتشافات الطبيّة، مع أنها فرضيات، بعد تبسيطها وحتى تشويهها، لبيان توافقها مع ما جاء في القرآن والسنة، وعدِّها من آيات الإعجاز العلمي.
ومن جهة أخرى، انتشرت أدبيّات القانون الطبّي التي تعالج علاقة الصحّة بالعمل والدراسة، سواءً على المستوى العضوي أو النفسي، ومنه انبثق فرع "حوادث الشغل" ضمن القوانين المالية وحتى الجنائية، وكلّها مرتبطة بالصحّة والجسد.
وفي كل هذه الساحات، تصول الضاد وتجول، ومن لطائف تصاريفها أنها تلجأ إلى تنويع التعبير، تصريحاً وتلميحاً، حين تستدعي خطير الأمراض ومُحرِجَها. ويكفي مثالاً على "شجاعتها"، والصورة لابن جنِّي (934 - 1002)، أسلوب الإحالة على مرض السرطان الذي اشتُقّ، على سبيل الاستعارة، من "داء يأخذ الناس والدواب، كان يظهر بقوائم الدواب، يشبه الدَّبيلة، وقيل: يأخذ في رُسْغِ الدابة فيُيَبِّسَهُ حتى يقلبَ حافرها"، كما جاء في لسان العرب.
وتدقق الاستعمال فصار "وَرَمًا"، يوصف بأنه "خبيث" أو "حميد"، وفي اللهجات المحكية، يقال: مرض "خَائِب" أو "شَين"، ويُستدعى أحياناً من دون وصفٍ أصلاً، لشدّة ظهوره، فيقال: "ذاك المرض" أو "توفيّ فلان بعد صراعٍ مع المرض". ثم تتالت النعوت؛ فهو مزمن ومعضل، خبيث وحميد، عرضي ودائم، معدٍ وغير معدٍ، وبائي ومحدود...
ولما تكاثرت مفردات الصحّة وفرةً ملحوظةً وتشعّبت فصولها، نهضت لها المعاجم تُدوِّنها وترتِّبها. وقام الأطباء، ولاسيما من ذوي التكوين اللغوي المتين، يوحّدونها بين الشرق والغرب جاهدين في تعريبها وإبعاد الدخيل عنها. ومن أبرز هذه المعاجم: "المعجم الطبي" لأحمد دياب (تونس، 1992) وقد تفانى مؤلّفه في تعريب مفردات الطب، مبتدئًا بعلم التشريح، وجمع مصطلحاته واشتقاقها أو ترجمتها لتأدية المعاني الطبية بسلاسة.
لكن، ورغم أهمية هذه الخطوات التي أهَّلت الضادَ للتمكّن والتمدّد في حقل الصحة، فإنَّ مستوى تواتر مفرداته وشيوعها في استعمالات الناس لا يزال محدوداً: فلا تزال الدارجة مهيمنةً والكلمات الأجنبية حاضرة، ضمن مشهد لغوي مزدوج، هو انعكاس لما تعرفه مجتمعاتنا العربية من انفصام.