موسيقيّاً، ينتمي الراحل بركات إلى الجيل الثاني من روّاد الأغنية اللبنانية. وعليه، جاءت ولادته الفنيّة في غمار موسم خصوبة إبداعية وحراك فنّي/أدبي يبحث له عن هوّية في الموروث، فيما يُطلّ من على شرفته المتوسطية، نحو القادم من الغرب وسائر العالم، غدا لُبنان مرسى الحداثة في العالم العربي، ونافذته الزجاجية الرقيقة والملونة، المُشرعة على رياح العصر وآخر صيحاته وتقليعاته.
في زمن لبناني، بدا البيت الرحباني فيه قدر كل من أراد الصعود والارتقاء في الفن والغناء، لم يكن ليشكّل ملحم بركات استثناءً، فبحكم الجيرة والصداقة ورفقة بندقية الصيد التي جمعته بالراحل فيلمون وهبي، كانت بداية الشاب من كفرشيما رحبانية. بدايةٌ سترسم، بخصوصية المدرسة التي أتاحت مِران كل من الغناء والمسرح في آن، شخصية بركات الفنية وتفرّده على الصعيد الأدائي.
عن فيلمون وهبي، أخذ بركات التمسّك بالهوية اللبنانية الصاعدة في وجه التمصّر. تشبثّاً، عُرف عنه حتى رحيله، هو الذي شبّ في بيت أولى محمّد عبد الوهاب منزلة على مقربة من قداسة، احتضنت البيئة الرحبانية تطلعات الشاب اليافع، قبل أن يكبر ويقوى على الخفقان، ليُعلن الانفصال عن المؤسسة الرحبانية، ويشرع في الطيران عالياً وحيداً، وإن ليس بعيداً، بفضل قوة شخصيته الدافعة.
في معرض الخارج الحاضر في الداخل، بحكم انفتاح لبنان الثقافي الدائم والكامن في سيرته وسيرورته، بنى ملحم بركات شخصيته الخاصة وفقاً لنموذج المُغنّي الدراماتيكي، المُستحضر في فرنسا السبّعينيات، فوسامة بركات المتوسطيّة إضافة على لغة ومقاييس جسده، ذكّرت بـ شارل أزنافور، حتى أن أغنية بركات "وحدي أنا" توحي بوحدة حال لافتة مع أغنية أزنافور، "أنتظرك".
عند هذا التقاطع مع شاعريّة ودراميّة الأغنية الفرنسية لتلك الفترة من القرن الماضي، طوّر بركات، مُستفيداً من حصيلة التجربة الرحبانية، شخصية تفاعليّة تتجاوز الإلقاء نحو الأداء. بركات يُجسّد الأغنية صوتاً وتمثيلاً، تُمكّنه من ذلك حنجرته الخارقة للعادة، والتي تُيسّر له حقن الأداء عاطفياً. مهارة قد سبقه إليها عبد الحليم حافظ متأثّراً بمُعاصر آخر غربي هو البلجيكي جاك بريل.
بيد أن التعبيرية عند بركات لم تكن في المسرحيّة وحدها، بل في الغنائية على حد سواء، في أسلوب أداء الجملة اللحنية من حيث الضغط على مفصل من مفاصلها دون آخر، كما وفي توكيد مخارج حروف صوتية دون غيرها، إلى درجة تحرير بعض الكلام من اللحن كُلياً بغيّة إشباعه دراميّاً، كما في مقطع من أغنيّة "شو ناطر"، حين يصرخ مردداً: "إنتي وين، إنتي، إنتي ليش اتأخرتي ليش".
الزوال المُباغت والصادم شعورياً للحدود بين الغناء عالياً والصراخ المشحون عاطفياً، جاء بفضل صوت بركات العابر للطبقات، بيسر وسلاسة فائقة، يستطيع من منسوب أدنى يُشارف على المُحادثة الشخصية، أن يثبَ ممتطياً طبقة صوتية عليا، فيحدث بذلك أثراً تعبيريّاً يبعث في المستمع النشوة والدهشة، بتطريب غير معهود عربياً، مُحمّل درامياً، لا يقف عند محض "الآه" والاستثارة الحسية.
يُتيح له صوته، مُطلق الحرية لدى إمساكه بالجملة الغنائية، على الرغم من ذلك، وهنا تكمن سمة الفنان الحقيقي، عادة ما يدفع بركات بأدائه نحو حافة الخطر، كما لو أنه، بحس فطريٍ مغامر، مقامر، يتوق إلى مجال العجز بوصفه عنصراً جمالياً يدخل به على الأغنية، أشد عمقاً وأكثر صدقاً في مخاطبة وجدان الإنسان. ثقته المُطلقة بذاته وحساسيّته البالغة، تجعله مُغنيّاً لا يهاب الخطأ.
يُحسن ملحم بركات الإمساك باللجام الإيقاعي للأغنية، بفضل رحابة رئتيه وحنجرته، يقدر على إطالة الجُمل من دون أن يخسر أيّاً من رصيده الأدائي، سواءً في القوة والانسيابية والتعبيرية، أو في الزخرفة والتطريب، ما يُكسب أغنيته ثقلاً وجاذبية إيقاعية فريدة، لجهة أنها توسّع من مجال التأثير بالمُستمع فيما تحفظ لصوته حرية التحليق عالياً، كنسر يكتفي بفرد جناحيه، فيحملهما الهواء.
تلك الرحابة والانفراد على مجال الزمن الموسيقي، يسمح له بتطوير اهتزازات صوتية واسعة لها موجات عريضة تؤدي البُعيدات الشرقية بطلاوة وسلاسة، كما تُضفي على صوته دفئاً صوفياً وحميمية شاعرية، استغلّها بركات بحنكة لجهة توظيفها في خدمة تعبيرية الأداء وصدقيّته، كما في الموال الاستهلالي لأغنية "شباك حبيبي"، من مسرحية "الربيع السابع" لعاصي ومنصور الرحباني.
بذلك، يكون ملحم بركات من أولئك الذين أجادوا الإبحار في كل الجهات، وإشباع مختلف الأذواق والأمزجة، في وقت كان لبنان نقطة عبور الحداثة إلى العالم العربي، وتقاطع الموروث بالعصري والمعروف بالأجنبي، كان من روّاد الطرب الحديث، مُمثلاً بالأغنية المُغرّبة الي تُدخِل التعبيرية والأداء المسرحي، كما أجاد، في آن معاً، الطرب الشرقي التقليدي بإطالاته السمعية واستمالاته الحسية.
كل ما سبق من إضاءة على السمات والمميزات لصوت كالذي كان لملحم بركات، إنما يصب في الميزة الأهم والأكبر لأي فنان موهوب وحقيقي، ألا وهي ملامح الشخصيّة الخاصة والفردية، في لبنان إبان الفترة الذهبية. محاطاً بالكبار من كل جانب، استطاع بركات أن يستفيد من المحيط المُفعم بروح الخلق والتجديد، ومن ثم حدد لنفسه بعد ذلك، طريقاً خاصاً رسم معالم الجيل الغنائي الثاني.