عشرات الأحداث اليومية العالمية تتدفّق إلينا عبر شاشات التلفزة ووسائط التواصل الاجتماعي المتنوّعة، منها ما غيَّر التاريخ ومنها ما أصبح ذاكرة ثقيلة. نستقبل الحدث، نحلّله، نتأثّر به، ونبدي آراءنا. ليبقى الحدث حدثاً عالمياً ذا طابعٍ عام رغم انغماسنا في شبكة تواصل تحاصر يومياتنا من كلّ حدبٍ وصوب. هذا ما يحصل بسبب تفاعلنا مع التغييرات في هذا العالم. لكن ماذا لو علمتَ يوماً ما أنّ الحدث العام بات لك حصّةً فيه؟ وأنّ العام بات خاصّاً جدّاً؟ أعوامٌ كثيرة مضت على استهداف برجَي مركز التجارة العالمية في نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية وتدميرهما بطائرات مدنية اختطفها وقادها انتحاريون. هو حدث أعاد تشكيل العالم وخارطته وبعض مفاهيمه الدّولية، وأورثنا معضلاتٍ ما زلنا نعيش تداعياتها إلى يومنا هذا.
كان التلفزيون القريب يبثّ إلينا صوراً بعيدة جداً: أبراجٌ تخترقها طائرات مدنية تحيلها ركاماً. قنواتُ الأرض كلّها تقريباً تبثّ صوراً عدمية ومعلومات وصور الناس المرعوبة والمذهولة في شوارع نيويورك وتحليلات خبراء من كلّ بلد وصوب. أما أنا، فرحتُ أراقب الحدث بدهشةٍ، حتّى استحال الحدث العالمي حدثاً يعنيني شخصياً. فجأة تلاشت تلك العمومية لصالح الخاصّ مجرّد أن سمعت اسم "زياد الجرّاح"، أحد المتّهمين بتنفيذ الهجوم، الذي كان في الطائرة المتوجهة إلى بنسلفانيا.
صار الحادي عشر من سبتمبر/أيلول تاريخاً يحبس أنفاسنا. وتحوّل "زياد الجرّاح" إلى اسم مشحون بدلالات تحيل إلى مستقبل العالم وماضيه والى ذاكرة الطفولة معاً. تتصدّر صوره شاشات التلفزة، وأنا أطابقها مع صور في ذاكرتي، ذاكرة الحيّ البيروتي في منطقة الطريق الجديدة. أنبشُ ملامحه من بين الرّماد وهو صغير، كي أرسم له صورة الوداع الأخير، حين كان ملتحياً مستعدّاً إلى رحلة أميركا.
لقد فجّر ذاكرتي. فجثوتُ على ركبتيّ أمام التلفاز مردّداً: "زياد.. زياد.. هذا هو.. زياد الجرّاح!". ساعات مضت على وقوع الحدث والكلّ في الشارع يتناقل الاخبار ويُؤسطر الفعل ويحلِّل ويتكهّن وينتظر أيّ جديد من العائلة التي هرعت الى البقاع بصمت.
لم أستطِع النزول الى الشارع تفادياً للأسئلة، فقد كنتُ الصديق المقرّب. لم أجرؤ، حتّى، على زيارة العائلة ومقابلة أمّه. هي التي كانت تودّعه في نهاية الأسبوع، على باب منزلي، ريثما تعود من ضيعتهم البقاعية، بلدة المرج. أمّ زياد، كأيّ أمّ في حيّ "التنك"، هذا الحيّ القابع عند أطراف الطريق الجديدة في قلب بيروت، كانت تخشى على ابنها من الاختلاط بـ"الزّعران". فكانت تنتقي له أصدقاءه كالثياب، وأنا كنتُ من ضمن التشكيلة. فالحيّ الشعبي كان مقسوماً بين أولادٍ يلازمون المنزل وأولادٍ لا يفارقون الشارع. أما أنا فكنتُ تلك التوليفة التي تجمع بين واجبات الدراسة وبين الالتحاق بفتية الشارع كي نلعب كرة القدم في ملعب المدرسة المجاورة، مدرسة "وردة اليازجي" التي كانت أمّه ناظرتها.
كنت أدير فريق كرة قدم من دون مهارات القائد، بل بما أملكه من طابات وألبسة ولوازم رياضية كان يزوّدني بها أخي المقيم في الاتحاد السوفياتي السابق. بدأت علاقتي بزياد في عامي الـ11. كان يكبرني بعام واحد. كان على زياد أن يدفع 100 ليرة لبنانية لأسمح له باللعب في فريقي، بدل اختياره في التشكيلة الأساسية خلال مباراتنا بوجه فريق حيّ البرجاوي، الحيّ المجاور لحيّنا. لا يقتصر المقابل على ذلك، بل كنت أمنحه جوارب مخصّصة للاعبي كرة القدم، من تلك الطويلة، وقميص الفريق.
زياد تلميذ مدرسة الحكمة في الأشرفية، وواحد من المدلّلين الذين يذهبون إلى مدرستهم في الباص. أما نحن، أغلبية أولاد الحيّ، فتلاميذ مدرسة "الفاروق"، التابعة لجمعية "المقاصد الخيرية الإسلامية" في منطقة الملعب البلدي. مدرسة "شبه مجّانية"، أقساطها في متناول الجميع. والمشوار على القدمين إليها خبزنا اليومي المحفوف بالمخاطر: مخاطر القنص ومخاطر الحرب على المخيمات الفلسطينية في صبرا وشاتيلا خلال عامي 1986 و1987. خلال السنوات اللاحقة انتقل زياد إلى مدرسة مار الياس بطينة في منطقة وطى المصيطبة، بين الرملة البيضاء والملعب البلدي، على شاطئ بيروت، وهي مدرسة خاصّة أقساطها مرتفعة، بينما نحن ظللنا نقبع في مدرسة تفصل بين الجنسَيْن، فلم يكن بوسعنا إلا أن نحسد زياد.
كان يغيظني بصور يلتقطها لنفسه في حفلات مختلطة، ذكوراً وإناثاً، وفي أعياد ميلاد، تُظهر فتيات المنطقة "الشرقية" لبيروت، حيث الأكثرية المسيحية. المنطقة نفسها التي تثير الرعب وتحيل شبح الموت إلى مخيّلاتنا، منطقة يصدر منها رصاص القنص. كانت طفولتنا كلّها ترزح تحت رحمة قنّاص. فالحيّ المتاخم لشارع قصقص، وهو الشارع الأخير في الطريق الجديدة، المحاذي لحرش بيروت، هو خطّ تماس على الدوام. تارة يفصل المسيحيين عن المسلمين إبّان الحرب الأهلية قبل العام 1990، وطوراً يفصل الشيعة عن السنّة في زمن السلم البارد والحروب المتفرّقة في التسعينيّات والألفية الجديدة.
بيد أنّ القنص لم يكن سلبياً على الإطلاق. فبعض السهرات المتأخّرة بيني وبين زياد كان القنص يمنحني خلالها فرصة النوم عنده لتعذّر العبور بين المبنيين المتلاصقين. سهرات القنص نخترقها برشقات الأحاديث عن فتيات زياد وغرامياته في "المنطقة الأخرى". منطقة مجهولة نتذكّر منها أصوات القصف المتبادَل بين الجيش اللبناني بقيادة ميشال عون وبين الجيش السوري المتمترس في شارعنا، خلال العام 1989.
وحكايات زياد مرحة مشوّقة تحدّ من وطأة أزيز الرصاص وتلطّف أصوات القنابل. لم يكن يكتفي بالحديث عن الفتيات بل كان يعرّج على استعراض مهاراته في فنون القتال. وقد حضرتُ له تمارين أكثر من مرّة على ملعب مدرسة مار الياس بطينة، حيث كان يواظب على تعلُّم لعبة "قتال الشارع"... فزياد كان ذاك الشرس المهذَب. يواظب على أشياء كثيرة، على عكس مللي من رتابة الأشياء والمواظبة عليها، لا سيّما رتابة نمط عيش الولد المطيع الملازم للمنزل.
كبرنا، كل على حدة، بعد سنوات الدراسة. التحقتُ بالجامعة اللبنانية لأدرس علم الاجتماع العام 1996، ولأكمل دراساتي العليا وأنال شهادة الدكتوراه، أما هو فسافر إلى ألمانيا للتخصّص في طبّ الأسنان.
أصبحت لقاءاتنا سنوية. سنتان ونلتقي صدفةً خلال زيارته الصيفية إلى لبنان قبل العام 2001. لقاءات في منتصف الليل، لا بل قبل الفجر بدقائق أحياناً. زياد ذاهب إلى الجامع! أما أنا فعائد من إحدى خمّارات المدينة.
أتذكّر صوت زياد يستوقفني أمام مدخل المبنى: "السلامُ عليكم"، ألتفتّ إليه لأراهُ، للمرّة الأولى، بلحيةٍ صهباء خفيفة. فيسألني عن أحوالي، لأردّ إليه السؤال دون أن يخطر ببالي ماذا دهى "زير نساء" طفولتنا. زياد ابن مفتّش في مؤسّسة "الضمان الاجتماعي" الرسمية، ووالدته ناظرة المدرسة، تلميذ مدرسة "الحكمة" و"مار الياس بطينة"، المسيحيتين، يهتدي إلى "صراطه المستقيم"، وأين؟ في ألمانيا! بعدها كان يغادر ليستقلّ سيارة إلى جانب ثلاثة شبّان لا أتذكّر سوى صورتهم النمطية كممثلين في أفلام عادل إمام، وتحديداً في فيلم "الإرهاب والكباب" حيث الإسلاميون المتّهمون بالإرهاب.
لم أفهم، لا بل لم أهتم، بالتغيُّر الذي أصاب زياد. لم أنتبه أصلاً إلى هذه الصحبة المُستجِدّة، باستثناء أنّني أعرف وجه أحدهم. هذا الوجه الذي كان يُقنعني في صغري أن أترك "جمعية المشاريع" التي انتميتُ إليها لمدّة سنة، وأن ألتحق بجماعته. فالدين لا يستقيم إلّا في جماعة واحدة، كلّ يظنّ أنّها جماعته. و"جمعية المشاريع" المشهورة بجماعة "الأحباش"، أسّسها عبد الله الهرري ولها مريدون كثر في بيروت فقط. هي جمعية صادرتني من ملعب كرة القدم إلى دروس الدين في الجامع. وتلك قصّة أخرى.
مرَّت الأيام إلى أن التقيت بأمّه بعد انقطاع أخباره لفترةِ طويلة. فقالت لي إنّه ما زال في ألمانيا، لكنّه لم يكمل اختصاص طبّ الأسنان. فقد بدّل اختصاصه ليتعلّم ميكانيك الطائرات. كما أخبرتني أنّه يحضِّر لزواجه من زميلته التركية وأنّهم يستعدّون للسفر إلى تركيا. التقيتُ زياد ثانية بعد أشهر لأسمع الأخبار نفسها، منه هذه المرّة.
مشينا في شارع "حيّ التنك" طوال الليل، ذهاباً وإياباً، تكراراً، حتّى استنفدنا كلّ الأحاديث. تجوَّلنا ونحن ندوس على ذكرياتنا. كان يحلو لزياد التكلُّم عن اختصاصه الجديد وعن متعة الطائرات وتحضيره للسفر إلى أميركا. جلّ ما لفتني فيه تبدُّل ملامحه وحركته. لقد أصبح أكثر هدوءاً ورصانةً. بدا لي راضياً سعيداً على عكس شراسته وعناده في الصغر.
ذهب زياد في رحلته الأخيرة وترك لي الأحجية: "أنا صديق أشهر إرهابيي القرن".