نجحت المملكة العربية السعودية الزاخرة بالآثار، مؤخرًا بتسجيل رابع موقع في قائمة التراث العالمي في منظمة اليونيسكو. فبعد مدائن صالح وحي الطريف في الدرعية وجدة القديمة، جاء دور نقوش منطقة حائل في التسجيل. ونظرًا إلى أهمية الأمر لا من الناحية الثقافية فحسب، بل أيضًا من الناحية السياحية والتقنية، التقى "ملحق الثقافة" الدكتور زياد عبد الله الدريس المندوب السعودي الدائم في اليونيسكو.
* لا شكّ أنكم سعدتم لإدراج "الرسوم الصخرية في حائل" ضمن قائمة التراث العالمي من قبل منظمة اليونسكو أخيراً. ما خصوصية هذا الموقع وفرادته؟
يعدّ موقعا "جبة" و"الشويمس" في منطقة حائل من أهم وأكبر المواقع الأثرية في المملكة، ومن أكبر مواقع الرسوم الصخرية في المنطقة العربية، إذ يعود تاريخها إلى أكثر من عشرة آلاف سنة قبل الميلاد، وهو رابع المواقع الأثرية السعودية التي تمّ إدراجها ضمن قائمة التراث العالمي من قبل منظمة اليونسكو. تقع "جبة" على بعد ستين كيلومترًا عن حائل، فيما تبعد "الشويمس" مئتين وسبعين كيلومترًا. يتميز الموقعان بالرسوم الصخرية المنتشرة على واجهة الجبال، وتشمل رسوماً لأشكال آدمية وحيوانية متنوعة، تعود أقدمها إلى فترة ما قبل التاريخ. وتتوزع تواريخ النقوش بين عصور زمنية مختلفة، متسلسة بشكل تقريبي، إذ كما هو معروف، كانت جميع المواقع الأثرية مكشوفة تقريباً ونقشت عليها رسومات أو حزّت عليها ولا يمكن تحديد عمرها علمياً. لكن يمكن إجمال العصور بأربعة؛ أوّلها فنون العصر الحجري الحديث - أي من العصر الحجري الحديث 12000 إلى 7000 قبل اليوم - وهي مميّزة بالتصاوير الآدمية والحيوانية المنقوشة بالأسلوبين البارز والغائر وبحجمها الطبيعي وتفاصيل أجسامها، أما تقاسيم الوجه فمبهمة وغير واضحة. الأهم أن تلك التصاوير الآدمية والحيوانية تتميّز بالدقة والاتقان ولا مثيل لها، إذ رغم وجود مقومّات العصر الحجري الحديث في اليمن بوادي الطايلة، وخريمة الخور، وصافر، وبلحاف، وبيت النهمي؛ إلا أنه لا يوجد في هذه المواقع أية نقوش تعود لتلك الفترة.
وثانيها فنون العصر النحاسي - أي فترة ما بين 6500 - 4500 عام تقريباً من اليوم - حيث طاول الفن الصخري تغيّرٌ في المحتوى والأسلوب فصغرت أحجام التصاوير الآدمية والحيوانية وأضحت تخطيطية الشكل ووجوه الحيوانات مخروطية أو مثلثة بعد أن كانت خرطومية الشكل في العصر الحجري الحديث، وبقيت أحجام القرون كبيرة من دون تغير. ووفقًا للباحثين قد يكون مرد هذا التغير الطارئ إلى مغزى الفن الصخري ووظيفته في العصر النحاسي، إدخال الرسم التخطيطي والزخارف الهندسية والأفعوانية والتجريدية. لم تكن هذه التصاوير الآدمية والحيوانية عبثاً بل كانت عن قصد ومغزى، واشتملت نقوش هذا العصر على الغزال، والريم، والوضيحي، والماعز والزواحف.
وثالثها فنون العصر البرونزي، التي نقشت إبان العصر البرونزي التالي - أي 4500 - 2500 من اليوم - تصاوير آدمية وحيوانية مصحوبة بأنواع شتى من الزينات الهندسية، حيث طرأ على الفن الصخري تغيرات تدريجية منهجاً وهدفاً وأصبحت الرسومات تخطيطية وغالبها خطوط عريضة. وظهرت أوّل مرة التصاوير الآدمية والحيوانية عودية نحيفة. كما شهد هذا الفنّ بداية نمط جديد كطبعات القدم والكفين مع رسومات الإبل والوضيحي والريم والأسود والكلاب والذئاب والغزلان فأضحت عناصر مشتركة في الفن الصخري.
ورابعها فنون العصر الحديدي، أي العصر الحديدي 2500 - 1500 قبل اليوم - عند فترة سابقة لبداية الكتابة والأدب في الجزيرة العربية. حيث تميّزت برسوماتها الآدمية والحيوانية بأشكالها العودية مع رموز وزينات هندسية، حلّت محلّ الفنّ الطبيعي التخطيطي. وحين تغير المناخ والظروف البيئية من باردة مطيرة إبان العصر الحجري الحديث إلى حارة جداً وجافة في العصر البرونزي، أضحى الجمل محور النقوش الصخرية. كما بات الجمل يتميز بوسم القبيلة حتى يومنا هذا.
اقرأ أيضاً: تدمير الآثار في العراق وسورية غير مسبوق
* تبدو لي إذن "مدوّنة" هذه النقوش كبيرة، لكن لو ننتقل إلى الواقع؛ فهل ستُقدّم دورات تدريب للسعوديين في ما يخص التوثيق والتنقيب وتأهيل المواقع السياحية في المملكة؟
حسب علمي فإن الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني لديها مساعٍ كبيرة لتطوير الكوادر الوطنية السعودية في مجال السياحة وفي مجال التراث، وكذلك في مجال التنقيب، وذلك بالتعاون مع الجامعات السعودية التي سبق أن قامت بجهود في هذا الصدد، وهي جهود قديمة منذ السبعينيات من القرن الماضي تقريبًا، ونعرف أسماء كثيرة من خُبَراء الآثار السعوديين الذين قاموا بمبادرات قديمة جدًا للكشف عن مواقع أثرية ما زالت حتى الآن، محلّ اهتمام من قِبَل الباحثين. وتمّ هذا طبعًا، بالتعاون مع بعثات أثرية فرنسية وإيطالية وألمانية. إذن اليوم تقوم هيئة السياحة والتراث الوطني بهذا الدور، وتحاول بناء كوادر وطنية سعودية. وبالتأكيد ستستغرق المسألة وقتًا كافيًا، ويجب أن تستغرق الوقت الكافي، لئلا تصبح مجرد بناء شكلي لهذه الكوادر، وإنّما تكون بناءً مُعمَّقًا وفق أصوله العالمية أيضًا.
* ربما أجبتم بصفة عابرة عن الموضوع، ولكني أعيد طرحه من جديد: هل توجد كليات أو معاهد في المملكة العربية السعودية خاصة بالآثار؟
طبعًا موجودة. وقد أشرت في الجواب السابق إلى وجود أقسام للآثار. وعلى حد علمي فإن قسم الآثار في جامعة الملك سعود ربما يكون أوَّل قِسْم معني بهذا التخصص. لكن، اليوم لدينا أقسامٌ أخرى في جامعات أخرى تهتم بالآثار والتراث. أشير إلى أن مساهمة الجامعات السعودية في هذا المجال قديمٌ، وما زال متواصلًا، بل أصبح أكثر فعالية وذلك بالتنسيق مع الهيئات المعنية.
* لكن مع المستجدّ اليوم، أي وضع الرسوم في قائمة التراث العالمي، تزداد الحاجة إلى التوثيق، فماذا عن واقع التوثيق في المملكة؟ وهل ستساعد منظمة اليونسكو في الأمر؟
هناك مساع متواصلة لتوثيق مواطن التراث. والمملكة السعودية دولة ترقُدُ على أرض زاخرة بالتراث الذي كان مَعْبرًا لقرون عديدة في الجزيرة العربية. وبالتالي فقد كانت هناك حضارات وقوافل متعاقبة مرّت في هذه الأرض وتركت آثارها، بعضها ظاهرٌ للعَيان وبعضها الآخر مطمورٌ يحتاج إلى تنقيب وحفر للوصول إليه. الجهود متواصلة، وقد تمَّ الكشفُ عن كثير من المَواقع المدفونة تحت الأرض، ولا شكّ أن هناك مواقع أخرى، أكثر بكثير من تلك التي تمّ الكشف عنها، إلا أن المسألة تحتاج إلى وقت، ووفق إستراتيجية الهيئة في عَدَم التسرع في الإعلان عن الكشف عن المَواقع ثم تركها، هكذا، مهملة. وأن يتمَّ الكشف عن المَواقع، شيئًا فشيئًا، وتوثيقها ثم الانطلاق إلى مواقع أخرى. وبالتالي فهي مسارات تدريجية لا بُدَّ أن تأخذ زمَنَها الكافي والضروري.
* هل يدل هذا على وجود سياسية واستراتيجية رسمية، أي قرار سياسي واضح في هذا المجال؟
نعم يوجد قرار سياسي واضح في هذا المجال. ويوجد مشروع وطني متكامل سبق أن أعلن عنه الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، قبل سنوات. وهو مشروع متكامل وشامل للبحث والتنقيب، لرعاية المواقع التراثية في المملكة العربية السعودية وصيانتها، و قد رُصِدَت له ميزانية كبيرة أيضًا، وبدأ العمل عليه. وأتوقع أن يستمرَّ لسنوات قادمة.
* لا بدّ أن أمرًا مماثلًا، يعني عمليًا وجود بعض الاتفاقيات الفنية والتقنية في هذا الخصوص
ليس في ذهني، حاليًا، تفاصيل عن الاتفاقيات. فأنت تعرف أن الهيئة قامت بالتوقيع على اتفاقيات عديدة مع مؤسسات وطنية في الداخل وأيضًا مع مؤسسات في الخارج، متخصصة ومُؤهَّلَة في هذا المجال. قد يصعب عليَّ الآنَ حصرها، أو إيراد أسماء منها، لكني متأكّدٌ أن الهيئة تقوم بانتقاء المؤسسات الكفؤة والجديرة بالمساهمة فعلًا بالكشف عن آثار الجزيرة العربية. وقبل قليل أشرتُ إلى مسألة التعاون مع اليونسكو، وهو، حتى الآن، متعلّقٌ بمجال التوثيق والتسجيل في لائحة التراث العالمي. أما في مجال التنقيب والبحث، فالسعودية تقوم بالتعاون مع فِرَق من الخبراء من الجامعات أو المراكز المتخصصة في العالَم الغربي وجهات أخرى من العالَم.
* موضوع الآثار التاريخية يقودنا إلى مسألة السياحة، فهل من الوارد أن تتحوّل السياحة إلى رافد مهم من روافد الاقتصاد، مثل الحج، خصوصًا بعد الإعلان عن المشاريع الضخمة لتوسعة الحرم مثلًا؟
طبعا كثر الحديث عن فتح أبواب السياحة في المملكة العربية السعودية، الذين يطالبون بفتح هذه الأبواب، هم في الخارج أكثر ممن هم في الداخل، رغبةً منهم وشوقًا للاطلاع على جهات ووِجْهَات الجزيرة العربية، التي تحتضن معظمَ مساحتها المملكةُ العربية السعودية. لكن في ظنّي، وبعيدًا من مسألة السياحة الدينية، التي تختص بالعُمرة والحج وزيارة مكة المكرمة والمدينة المنورة، قد يكون هناك بعضُ التحفّظ أو ما يسمى بالخصوصية في مسألة فتح المناطق الأخرى للسياحة، أي للسياحة العامة وللزائرين. أنا متأكد، أنه خلال السنوات القادمة لن يبقى الباب مغلقًا كما هو الآن، أو كما كان في السنوات الماضية، أي أمام من يريد زيارة مواقع التراث، خصوصًا المُسجَّلة في لائحة التراث العالمي. فنحن لدينا اليوم، أربعة مواقع مسجلة، وننوي تسجيل مواقع أخرى. لن يبقى الباب مغلقًا أمام زيارة مثل هذه المواقع. لكني أيضًا أشُكّ بأن يكون الباب مفتوحًا على مصراعيه، للسياح بطريقة جماهيرية، كما نشاهد في بعض البلدان السياحية التي ترتكز مواردها بشكل أساسي على السياحة. وأعتقد أنه حتى لو لم يكن للمملكة العربية السعودية المَوْرِدُ النفطي، فلا أظنّ أن اتخاذ السياحة كَمورد أو عدمه هو المحك أو المَفْصل في قضية فتح الأبواب أو إغلاقها. هناك جوانب أخرى تختلف عن مسألة الموارد المالية.
* يبدو الأمر جزءًا من مسار متصاعد، ولو بشكل متدرّج. فهل الباب مفتوح أمام مَواقع سعودية أخرى كي تسجل في قائمة التراث العالمي؟
استلمتُ قبل أشهر قليلة، قائمة معتمدة من السلطات السعودية العليا للبدء في إدراج عشر مواقع في القائمة. وبالفعل قمت، وزملائي في الوفد السعودي المشارك في لجنة التراث العالمي، التي انعقدت في شهر يونيو/ حزيران الماضي في مدينة بون بألمانيا، بوضع هذه المواقع العشرة في ما يُسمَّى بـ "القائمة المؤقتة للمملكة العربية السعودية". وبالفعل سُجّلت في وثائق مَركز التراث العالمي، بوصفها قائمة مؤقتة. وذلك يعني أننا سنبدأ تدريجيًا بالعمل على تسجيلها موقعًا تلو الآخر. وأعرف من الزملاء في هيئة السياحة والتراث الوطني، أنهم يعملون، الآن، على ترتيب موقع "الأحساء" للتسجيل، بحيث يؤلّف هو الملف القادم. بالإضافة إلى قيامهم بعمل مُواز، لتجهيز المَواقع التسعة الأخرى، التي أُدرِجَت مع الأحساء في القائمة المؤقتة.
* ما هي المعايير التي تعتمدها منظمة اليونيسكو من أجل قبول هذا الموقع أو ذاك؟ وما المدة الزمنية الواجب انتظارها قبل الوصول إلى نتيجة مُرْضِية؟ السؤال عن "الكواليس" داخل المنظمة.
يمكن القول إن موضوع "حائل" لم يتطلب "كواليس" كثيرة، كما حدث في موضوع "جدّة التاريخية". لكن عمومًا، سأتحدث بشكل عام عن كواليس ما يجري وما جرى منذ أن بدأنا سنة 2008 تسجيل "مدائن صالح"، ثم في سنة 2010 تسجيل "الدرعيّة القديمة"، ثم في سنة 2014 تسجيل "جدة التاريخية"، ثم سنة 2015 تسجيل "الرسوم الصخرية في حائل". بلا شك فإن العمل على التسجيل يتطلب جهودًا كثيفة، تستغرق زمنًا طويلًا، وهي تنطلق من هيئات عديدة وليس فقط من المندوبية الدائمة لدى اليونيسكو. هي تبدأ، فعليًا، من الموقع نفسه، ومن هيئة السياحة والتراث الوطني، التي تباشر بإعداد الملف بالتعاون مع الخبراء المعنيين، ثم بعد ذلك تقوم الهيئة بإرسال الملف إلينا، لتسليمه إلى مركز التراث العالمي بغرض التسجيل. بعد العمل الفني من قبل هيئة السياحة والتراث الوطني، يبدأ العمل الدبلوماسي من لدن المندوبية الدائمة، لمحاولة حشد التأييد. وحشد التأييد لا يكون بالمعنى الغوغائي، بل هو مبني على شُروحات وافية لأهمية هذه المواقع، وأهمية دعم تسجيلها في لائحة التراث العالمي وإقناع السفراء والمندوبين الدائمين والخبراء المشاركين في اجتماعات لجنة التراث العالمي، التي تنعقد سنويًا، بأن هذه المواقع الموجودة لدينا، مواقع جديرة بالتسجيل، وأن الفائدة من تسجيلها ليست فقط للمملكة العربية السعودية بل وأيضًا للمجتمع الدولي وللائحة التراث العالمي، بسبب قناعتنا الأكيدة بالقيمة المعرفية والحضارية والتاريخية لهذه المواقع. طبعًا، قد تحدث أحيانًا، بعض التحفظات، من بعض الخبراء على بعض المواقع. ولحسن الحظ، خلال تجارب التسجيل الأربعة، لم يَتِمَّ التحفّظُ على ما يسمّى "أصَالة الموقع"، وإنما كان التحفظ فقط على إجراءات إدارية أو إجرائية ولوجستية في الموقع. وهي أمور تتطلب عملًا دبلوماسيًا أكثر منه فنيّاً. وقد استطعنا إقناع المعنيين بالتصويت، بأن هذه الإجراءات الإدارية وإن كانت لم تكتمل، فإن هيئة السياحة والتراث الوطني تعمل بكل جدية واستمرارية لاستكمالها. ولا نقول هذا من باب المزايدة لكننا نقوله بصدق. ثم نُثبت لهم، فعليًا، عبر التقارير التي تزودنا بها هيئة السياحة والتراث الوطني، بأننا مستمرّون، حتى بعد التسجيل وتسليم الملف للتسجيل، في العمل وتطوير الموقع. ولا شك أن أكثر المواقع تعقيدًا كان هو "جدة التاريخية"، واستغرق المدة الأطول، ما بين 3 و4 سنوات للتسجيل. وهناك أسباب عديدة لتبرير طول المدة، بعضها مرتكزٌ على سبب السكنى، لأن الموقع مأهول بالسكان الأمر الذي يزيد المسألة تعقيدًا. ثم، أيضًا، بعض الظروف المناخية التي حدثت في جدّة قبل وصول الخبراء، وكان لها تأثير سلبي على تقييم الموقع. لكني، الآن، أشعُرُ بسعادة وفخر كبير جدًا بعد تسجيل الموقع، بفضل دور إمارة مكة المكرمة برئاسة الأمير خالد الفيصل ومحافظ جدّة الأمير مشعل بن ماجد، وأيضًا بفضل أهالي جدة، الذين تجمّعوا لخدمة موقع "جدة القديمة" من خلال تفعيله وتنشيطه وإقامة المهرجانات التي تجعل "جدّة التاريخية" في بؤرة الزائر لجدة. هذه كلها من الجوانب الإيجابية ومن الفوائد التي نظنّ أن تسجيل "جدة التاريخية" في لائحة التراث العالمي كان سببًا أو دافعًا أساسيًا لهذا التنشيط السياحي.
* سيجري قريبًا انتخاب مدير جديد لمنظمة اليونيسكو. فهل يمكن لنا "الحلم" بوصول مرشح عربي لإدارتها، أم علينا الاستمرار في الانتظار والحلم؟
أخشى أننا سنستمر في الانتظار. وقد سبق أن كتبت أكثر من مقالة في جريدة الحياة عن هذه المسألة. وقلت إننا مررنا، حتى الآن، بثلاث تجارب عربية في الترشّح لرئاسة منظمة اليونسكو؛ أحيانًا إمّا أننا لا نختار المرشح المناسب، أو أحيانًا لا نختار التوقيت المناسب للدفع بالمرشح المناسب. وأحيانًا، لم نختر، لا المرشح ولا التوقيت المناسبين. الآن سيكرر العرب التجربة الرابعة لهم، وإذا لم يتفقوا على مرشح موحّد، وإذا لم يتوصلوا إلى رؤية مشتركة في مرشح واحد عربي، ستتضاءل فرصهم في الفوز. لست متفائلًا كثيرًا في ظلّ ما يجري الآن في العالم العربي، بسبب النزاعات والصراعات والقلاقل والتجاذبات بين الدول العربية. لست متفائلًا بأن هذه هي اللحظة المناسبة التي سيتفق العرب فيها على مرشح واحد. وإذا كان العرب لم يتفقوا في عام 1999 حين كان المرحوم غازي القصيبي المرشح العربي، ولم يتفقوا بعد ذلك في سنة 2009، قبل أن تأتي موجة الربيع العربي، على مرشح واحد عندما كان المرشح الوزير المصري فاروق حسني، فمن باب أوْلى أن تكون الصعوبة الآن أشدّ في أن تتوصل الدول العربية إلى مرشح واحد. طبعًا وجود أكثر من مرشح لا يعني استحالة نجاح المرشح العربي، لكنه يعني تضاؤل فُرَص فوز هذا المرشح العربي، لسبب بسيط فوجود أكثر من مرشح عربي سيسمح للمجموعات الأخرى، أيضًا، بالدفع بمرشحين، وسيسمح بتفتيت الأصوات العربية. إذ بدلًا من أن تكون متوجهة إلى مرشح واحد، فستكون متقاسمة بين مرشحين أو ثلاثة أو أكثر. ثم إن الدول الأخرى عندما تجد أن هناك أكثر من مرشح عربي، يصبح لديها فرصة في ألاَّ تُصوّت لمرشح عربي. المسألة معقدة جدًا والبعضُ يثير سؤالًا كبيرًا جدًا، وهو: في ظلّ ما يجري في العالم العربي، الآن، منذ مطلع سنة 2011 حتى اليوم؛ هل العالم العربي بوضعيته الاجتماعية والثقافية والتعليمية والمآسي التي تمرّ به هنا وهناك، مُؤهَّلٌ أن يرأس المنظمة الدولية الكبرى في مجالات الثقافة والتربية والعلوم؟ هذا هو السؤال الذي يدور في كواليس اليونيسكو. إذ لم يَعُد السؤال حول مَن هو المرشح؟ بل هو السؤال عن جدارة وجود مرشح عربي لرئاسة اليونيسكو، بِغضّ النظر عمن يكون هذا المرشح، إذ يتحدثون، الآن، عن العالم العربي ككتلة كاملة. ونحن سننتظر وسنرى كيف سيكون الوضع.
* لا يمكن ونحن نتحدّث عن الآثار والتراث، إلا أن نتذكّر، بقلق وحزن، ما تقوم به الجماعات الإرهابية من تدمير في العراق وسورية وغيرهما. فما الذي يتوجب، في نظركم، على اليونيسكو القيام به؟
ما يجري بشأن التراث في العراق وسورية وفي دول أخرى مما يُسمى دول الربيع العربي لا شكّ أنه مؤلم ومزعج. والخطورة تكمُنُ في أن تحطيم الشيء أحيانًا يجعل إعادة البناء صعبة. وأعرف أن اليونيسكو تحاول قدر الإمكان أن تُبلّغ رسالتَها الشفوية بالتحذير من المساس بالتراث العالمي وتدعو كافّة الهيئات والمؤسسات المعنية والأفراد للمساهمة في الحماية، لكن البعض الآخر يعتب على اليونيسكو لأنها لا تتدخل مباشرة. وأنا من خلال عملي في المنظمة واطلاعي على التفاصيل أستطيع القول إن اليونيسكو لا تستطيع أن تعمل بسبب الوضع الأمني المرتبك داخل هذه الدول. هي لا تستطيع أن تعمل أكثر من مجرد هذه النداءات المتوالية لحماية التراث العالمي. ونحن نعرف أن ما يجري في بعض هذه الدول من نحر وقتل وتشريد الإنسان أشدّ بكثير مما يجري من نحر للتراث. ومع هذا لم تستطع المنظمات الدولية، كمجلس الأمن وغيرها التدخل لحماية الإنسان الذي يُقتَل كل يوم، فكيف تُطالَب اليونيسكو أن تتدخل لحماية الآثار! خصوصًا وأن المعنيين بحماية الآثار لا يستطيعون الدخول إلى هذه المواقع الخطرة إلا بأذونات من الجهات الأمنية والمنظمات الدولية المعنية بالحفاظ على الأمن. وحتى الآن فإنّ الرسالة الموجودة لدى اليونيسكو من قِبَل هذه المنظمات المعنية بالأمن تحذر من الدخول إلى هذه المواقع ومن إرسال الخبراء.
يعدّ موقعا "جبة" و"الشويمس" في منطقة حائل من أهم وأكبر المواقع الأثرية في المملكة، ومن أكبر مواقع الرسوم الصخرية في المنطقة العربية، إذ يعود تاريخها إلى أكثر من عشرة آلاف سنة قبل الميلاد، وهو رابع المواقع الأثرية السعودية التي تمّ إدراجها ضمن قائمة التراث العالمي من قبل منظمة اليونسكو. تقع "جبة" على بعد ستين كيلومترًا عن حائل، فيما تبعد "الشويمس" مئتين وسبعين كيلومترًا. يتميز الموقعان بالرسوم الصخرية المنتشرة على واجهة الجبال، وتشمل رسوماً لأشكال آدمية وحيوانية متنوعة، تعود أقدمها إلى فترة ما قبل التاريخ. وتتوزع تواريخ النقوش بين عصور زمنية مختلفة، متسلسة بشكل تقريبي، إذ كما هو معروف، كانت جميع المواقع الأثرية مكشوفة تقريباً ونقشت عليها رسومات أو حزّت عليها ولا يمكن تحديد عمرها علمياً. لكن يمكن إجمال العصور بأربعة؛ أوّلها فنون العصر الحجري الحديث - أي من العصر الحجري الحديث 12000 إلى 7000 قبل اليوم - وهي مميّزة بالتصاوير الآدمية والحيوانية المنقوشة بالأسلوبين البارز والغائر وبحجمها الطبيعي وتفاصيل أجسامها، أما تقاسيم الوجه فمبهمة وغير واضحة. الأهم أن تلك التصاوير الآدمية والحيوانية تتميّز بالدقة والاتقان ولا مثيل لها، إذ رغم وجود مقومّات العصر الحجري الحديث في اليمن بوادي الطايلة، وخريمة الخور، وصافر، وبلحاف، وبيت النهمي؛ إلا أنه لا يوجد في هذه المواقع أية نقوش تعود لتلك الفترة.
وثانيها فنون العصر النحاسي - أي فترة ما بين 6500 - 4500 عام تقريباً من اليوم - حيث طاول الفن الصخري تغيّرٌ في المحتوى والأسلوب فصغرت أحجام التصاوير الآدمية والحيوانية وأضحت تخطيطية الشكل ووجوه الحيوانات مخروطية أو مثلثة بعد أن كانت خرطومية الشكل في العصر الحجري الحديث، وبقيت أحجام القرون كبيرة من دون تغير. ووفقًا للباحثين قد يكون مرد هذا التغير الطارئ إلى مغزى الفن الصخري ووظيفته في العصر النحاسي، إدخال الرسم التخطيطي والزخارف الهندسية والأفعوانية والتجريدية. لم تكن هذه التصاوير الآدمية والحيوانية عبثاً بل كانت عن قصد ومغزى، واشتملت نقوش هذا العصر على الغزال، والريم، والوضيحي، والماعز والزواحف.
وثالثها فنون العصر البرونزي، التي نقشت إبان العصر البرونزي التالي - أي 4500 - 2500 من اليوم - تصاوير آدمية وحيوانية مصحوبة بأنواع شتى من الزينات الهندسية، حيث طرأ على الفن الصخري تغيرات تدريجية منهجاً وهدفاً وأصبحت الرسومات تخطيطية وغالبها خطوط عريضة. وظهرت أوّل مرة التصاوير الآدمية والحيوانية عودية نحيفة. كما شهد هذا الفنّ بداية نمط جديد كطبعات القدم والكفين مع رسومات الإبل والوضيحي والريم والأسود والكلاب والذئاب والغزلان فأضحت عناصر مشتركة في الفن الصخري.
ورابعها فنون العصر الحديدي، أي العصر الحديدي 2500 - 1500 قبل اليوم - عند فترة سابقة لبداية الكتابة والأدب في الجزيرة العربية. حيث تميّزت برسوماتها الآدمية والحيوانية بأشكالها العودية مع رموز وزينات هندسية، حلّت محلّ الفنّ الطبيعي التخطيطي. وحين تغير المناخ والظروف البيئية من باردة مطيرة إبان العصر الحجري الحديث إلى حارة جداً وجافة في العصر البرونزي، أضحى الجمل محور النقوش الصخرية. كما بات الجمل يتميز بوسم القبيلة حتى يومنا هذا.
اقرأ أيضاً: تدمير الآثار في العراق وسورية غير مسبوق
* تبدو لي إذن "مدوّنة" هذه النقوش كبيرة، لكن لو ننتقل إلى الواقع؛ فهل ستُقدّم دورات تدريب للسعوديين في ما يخص التوثيق والتنقيب وتأهيل المواقع السياحية في المملكة؟
حسب علمي فإن الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني لديها مساعٍ كبيرة لتطوير الكوادر الوطنية السعودية في مجال السياحة وفي مجال التراث، وكذلك في مجال التنقيب، وذلك بالتعاون مع الجامعات السعودية التي سبق أن قامت بجهود في هذا الصدد، وهي جهود قديمة منذ السبعينيات من القرن الماضي تقريبًا، ونعرف أسماء كثيرة من خُبَراء الآثار السعوديين الذين قاموا بمبادرات قديمة جدًا للكشف عن مواقع أثرية ما زالت حتى الآن، محلّ اهتمام من قِبَل الباحثين. وتمّ هذا طبعًا، بالتعاون مع بعثات أثرية فرنسية وإيطالية وألمانية. إذن اليوم تقوم هيئة السياحة والتراث الوطني بهذا الدور، وتحاول بناء كوادر وطنية سعودية. وبالتأكيد ستستغرق المسألة وقتًا كافيًا، ويجب أن تستغرق الوقت الكافي، لئلا تصبح مجرد بناء شكلي لهذه الكوادر، وإنّما تكون بناءً مُعمَّقًا وفق أصوله العالمية أيضًا.
* ربما أجبتم بصفة عابرة عن الموضوع، ولكني أعيد طرحه من جديد: هل توجد كليات أو معاهد في المملكة العربية السعودية خاصة بالآثار؟
طبعًا موجودة. وقد أشرت في الجواب السابق إلى وجود أقسام للآثار. وعلى حد علمي فإن قسم الآثار في جامعة الملك سعود ربما يكون أوَّل قِسْم معني بهذا التخصص. لكن، اليوم لدينا أقسامٌ أخرى في جامعات أخرى تهتم بالآثار والتراث. أشير إلى أن مساهمة الجامعات السعودية في هذا المجال قديمٌ، وما زال متواصلًا، بل أصبح أكثر فعالية وذلك بالتنسيق مع الهيئات المعنية.
* لكن مع المستجدّ اليوم، أي وضع الرسوم في قائمة التراث العالمي، تزداد الحاجة إلى التوثيق، فماذا عن واقع التوثيق في المملكة؟ وهل ستساعد منظمة اليونسكو في الأمر؟
هناك مساع متواصلة لتوثيق مواطن التراث. والمملكة السعودية دولة ترقُدُ على أرض زاخرة بالتراث الذي كان مَعْبرًا لقرون عديدة في الجزيرة العربية. وبالتالي فقد كانت هناك حضارات وقوافل متعاقبة مرّت في هذه الأرض وتركت آثارها، بعضها ظاهرٌ للعَيان وبعضها الآخر مطمورٌ يحتاج إلى تنقيب وحفر للوصول إليه. الجهود متواصلة، وقد تمَّ الكشفُ عن كثير من المَواقع المدفونة تحت الأرض، ولا شكّ أن هناك مواقع أخرى، أكثر بكثير من تلك التي تمّ الكشف عنها، إلا أن المسألة تحتاج إلى وقت، ووفق إستراتيجية الهيئة في عَدَم التسرع في الإعلان عن الكشف عن المَواقع ثم تركها، هكذا، مهملة. وأن يتمَّ الكشف عن المَواقع، شيئًا فشيئًا، وتوثيقها ثم الانطلاق إلى مواقع أخرى. وبالتالي فهي مسارات تدريجية لا بُدَّ أن تأخذ زمَنَها الكافي والضروري.
* هل يدل هذا على وجود سياسية واستراتيجية رسمية، أي قرار سياسي واضح في هذا المجال؟
نعم يوجد قرار سياسي واضح في هذا المجال. ويوجد مشروع وطني متكامل سبق أن أعلن عنه الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، قبل سنوات. وهو مشروع متكامل وشامل للبحث والتنقيب، لرعاية المواقع التراثية في المملكة العربية السعودية وصيانتها، و قد رُصِدَت له ميزانية كبيرة أيضًا، وبدأ العمل عليه. وأتوقع أن يستمرَّ لسنوات قادمة.
* لا بدّ أن أمرًا مماثلًا، يعني عمليًا وجود بعض الاتفاقيات الفنية والتقنية في هذا الخصوص
ليس في ذهني، حاليًا، تفاصيل عن الاتفاقيات. فأنت تعرف أن الهيئة قامت بالتوقيع على اتفاقيات عديدة مع مؤسسات وطنية في الداخل وأيضًا مع مؤسسات في الخارج، متخصصة ومُؤهَّلَة في هذا المجال. قد يصعب عليَّ الآنَ حصرها، أو إيراد أسماء منها، لكني متأكّدٌ أن الهيئة تقوم بانتقاء المؤسسات الكفؤة والجديرة بالمساهمة فعلًا بالكشف عن آثار الجزيرة العربية. وقبل قليل أشرتُ إلى مسألة التعاون مع اليونسكو، وهو، حتى الآن، متعلّقٌ بمجال التوثيق والتسجيل في لائحة التراث العالمي. أما في مجال التنقيب والبحث، فالسعودية تقوم بالتعاون مع فِرَق من الخبراء من الجامعات أو المراكز المتخصصة في العالَم الغربي وجهات أخرى من العالَم.
* موضوع الآثار التاريخية يقودنا إلى مسألة السياحة، فهل من الوارد أن تتحوّل السياحة إلى رافد مهم من روافد الاقتصاد، مثل الحج، خصوصًا بعد الإعلان عن المشاريع الضخمة لتوسعة الحرم مثلًا؟
طبعا كثر الحديث عن فتح أبواب السياحة في المملكة العربية السعودية، الذين يطالبون بفتح هذه الأبواب، هم في الخارج أكثر ممن هم في الداخل، رغبةً منهم وشوقًا للاطلاع على جهات ووِجْهَات الجزيرة العربية، التي تحتضن معظمَ مساحتها المملكةُ العربية السعودية. لكن في ظنّي، وبعيدًا من مسألة السياحة الدينية، التي تختص بالعُمرة والحج وزيارة مكة المكرمة والمدينة المنورة، قد يكون هناك بعضُ التحفّظ أو ما يسمى بالخصوصية في مسألة فتح المناطق الأخرى للسياحة، أي للسياحة العامة وللزائرين. أنا متأكد، أنه خلال السنوات القادمة لن يبقى الباب مغلقًا كما هو الآن، أو كما كان في السنوات الماضية، أي أمام من يريد زيارة مواقع التراث، خصوصًا المُسجَّلة في لائحة التراث العالمي. فنحن لدينا اليوم، أربعة مواقع مسجلة، وننوي تسجيل مواقع أخرى. لن يبقى الباب مغلقًا أمام زيارة مثل هذه المواقع. لكني أيضًا أشُكّ بأن يكون الباب مفتوحًا على مصراعيه، للسياح بطريقة جماهيرية، كما نشاهد في بعض البلدان السياحية التي ترتكز مواردها بشكل أساسي على السياحة. وأعتقد أنه حتى لو لم يكن للمملكة العربية السعودية المَوْرِدُ النفطي، فلا أظنّ أن اتخاذ السياحة كَمورد أو عدمه هو المحك أو المَفْصل في قضية فتح الأبواب أو إغلاقها. هناك جوانب أخرى تختلف عن مسألة الموارد المالية.
* يبدو الأمر جزءًا من مسار متصاعد، ولو بشكل متدرّج. فهل الباب مفتوح أمام مَواقع سعودية أخرى كي تسجل في قائمة التراث العالمي؟
استلمتُ قبل أشهر قليلة، قائمة معتمدة من السلطات السعودية العليا للبدء في إدراج عشر مواقع في القائمة. وبالفعل قمت، وزملائي في الوفد السعودي المشارك في لجنة التراث العالمي، التي انعقدت في شهر يونيو/ حزيران الماضي في مدينة بون بألمانيا، بوضع هذه المواقع العشرة في ما يُسمَّى بـ "القائمة المؤقتة للمملكة العربية السعودية". وبالفعل سُجّلت في وثائق مَركز التراث العالمي، بوصفها قائمة مؤقتة. وذلك يعني أننا سنبدأ تدريجيًا بالعمل على تسجيلها موقعًا تلو الآخر. وأعرف من الزملاء في هيئة السياحة والتراث الوطني، أنهم يعملون، الآن، على ترتيب موقع "الأحساء" للتسجيل، بحيث يؤلّف هو الملف القادم. بالإضافة إلى قيامهم بعمل مُواز، لتجهيز المَواقع التسعة الأخرى، التي أُدرِجَت مع الأحساء في القائمة المؤقتة.
* ما هي المعايير التي تعتمدها منظمة اليونيسكو من أجل قبول هذا الموقع أو ذاك؟ وما المدة الزمنية الواجب انتظارها قبل الوصول إلى نتيجة مُرْضِية؟ السؤال عن "الكواليس" داخل المنظمة.
يمكن القول إن موضوع "حائل" لم يتطلب "كواليس" كثيرة، كما حدث في موضوع "جدّة التاريخية". لكن عمومًا، سأتحدث بشكل عام عن كواليس ما يجري وما جرى منذ أن بدأنا سنة 2008 تسجيل "مدائن صالح"، ثم في سنة 2010 تسجيل "الدرعيّة القديمة"، ثم في سنة 2014 تسجيل "جدة التاريخية"، ثم سنة 2015 تسجيل "الرسوم الصخرية في حائل". بلا شك فإن العمل على التسجيل يتطلب جهودًا كثيفة، تستغرق زمنًا طويلًا، وهي تنطلق من هيئات عديدة وليس فقط من المندوبية الدائمة لدى اليونيسكو. هي تبدأ، فعليًا، من الموقع نفسه، ومن هيئة السياحة والتراث الوطني، التي تباشر بإعداد الملف بالتعاون مع الخبراء المعنيين، ثم بعد ذلك تقوم الهيئة بإرسال الملف إلينا، لتسليمه إلى مركز التراث العالمي بغرض التسجيل. بعد العمل الفني من قبل هيئة السياحة والتراث الوطني، يبدأ العمل الدبلوماسي من لدن المندوبية الدائمة، لمحاولة حشد التأييد. وحشد التأييد لا يكون بالمعنى الغوغائي، بل هو مبني على شُروحات وافية لأهمية هذه المواقع، وأهمية دعم تسجيلها في لائحة التراث العالمي وإقناع السفراء والمندوبين الدائمين والخبراء المشاركين في اجتماعات لجنة التراث العالمي، التي تنعقد سنويًا، بأن هذه المواقع الموجودة لدينا، مواقع جديرة بالتسجيل، وأن الفائدة من تسجيلها ليست فقط للمملكة العربية السعودية بل وأيضًا للمجتمع الدولي وللائحة التراث العالمي، بسبب قناعتنا الأكيدة بالقيمة المعرفية والحضارية والتاريخية لهذه المواقع. طبعًا، قد تحدث أحيانًا، بعض التحفظات، من بعض الخبراء على بعض المواقع. ولحسن الحظ، خلال تجارب التسجيل الأربعة، لم يَتِمَّ التحفّظُ على ما يسمّى "أصَالة الموقع"، وإنما كان التحفظ فقط على إجراءات إدارية أو إجرائية ولوجستية في الموقع. وهي أمور تتطلب عملًا دبلوماسيًا أكثر منه فنيّاً. وقد استطعنا إقناع المعنيين بالتصويت، بأن هذه الإجراءات الإدارية وإن كانت لم تكتمل، فإن هيئة السياحة والتراث الوطني تعمل بكل جدية واستمرارية لاستكمالها. ولا نقول هذا من باب المزايدة لكننا نقوله بصدق. ثم نُثبت لهم، فعليًا، عبر التقارير التي تزودنا بها هيئة السياحة والتراث الوطني، بأننا مستمرّون، حتى بعد التسجيل وتسليم الملف للتسجيل، في العمل وتطوير الموقع. ولا شك أن أكثر المواقع تعقيدًا كان هو "جدة التاريخية"، واستغرق المدة الأطول، ما بين 3 و4 سنوات للتسجيل. وهناك أسباب عديدة لتبرير طول المدة، بعضها مرتكزٌ على سبب السكنى، لأن الموقع مأهول بالسكان الأمر الذي يزيد المسألة تعقيدًا. ثم، أيضًا، بعض الظروف المناخية التي حدثت في جدّة قبل وصول الخبراء، وكان لها تأثير سلبي على تقييم الموقع. لكني، الآن، أشعُرُ بسعادة وفخر كبير جدًا بعد تسجيل الموقع، بفضل دور إمارة مكة المكرمة برئاسة الأمير خالد الفيصل ومحافظ جدّة الأمير مشعل بن ماجد، وأيضًا بفضل أهالي جدة، الذين تجمّعوا لخدمة موقع "جدة القديمة" من خلال تفعيله وتنشيطه وإقامة المهرجانات التي تجعل "جدّة التاريخية" في بؤرة الزائر لجدة. هذه كلها من الجوانب الإيجابية ومن الفوائد التي نظنّ أن تسجيل "جدة التاريخية" في لائحة التراث العالمي كان سببًا أو دافعًا أساسيًا لهذا التنشيط السياحي.
* سيجري قريبًا انتخاب مدير جديد لمنظمة اليونيسكو. فهل يمكن لنا "الحلم" بوصول مرشح عربي لإدارتها، أم علينا الاستمرار في الانتظار والحلم؟
أخشى أننا سنستمر في الانتظار. وقد سبق أن كتبت أكثر من مقالة في جريدة الحياة عن هذه المسألة. وقلت إننا مررنا، حتى الآن، بثلاث تجارب عربية في الترشّح لرئاسة منظمة اليونسكو؛ أحيانًا إمّا أننا لا نختار المرشح المناسب، أو أحيانًا لا نختار التوقيت المناسب للدفع بالمرشح المناسب. وأحيانًا، لم نختر، لا المرشح ولا التوقيت المناسبين. الآن سيكرر العرب التجربة الرابعة لهم، وإذا لم يتفقوا على مرشح موحّد، وإذا لم يتوصلوا إلى رؤية مشتركة في مرشح واحد عربي، ستتضاءل فرصهم في الفوز. لست متفائلًا كثيرًا في ظلّ ما يجري الآن في العالم العربي، بسبب النزاعات والصراعات والقلاقل والتجاذبات بين الدول العربية. لست متفائلًا بأن هذه هي اللحظة المناسبة التي سيتفق العرب فيها على مرشح واحد. وإذا كان العرب لم يتفقوا في عام 1999 حين كان المرحوم غازي القصيبي المرشح العربي، ولم يتفقوا بعد ذلك في سنة 2009، قبل أن تأتي موجة الربيع العربي، على مرشح واحد عندما كان المرشح الوزير المصري فاروق حسني، فمن باب أوْلى أن تكون الصعوبة الآن أشدّ في أن تتوصل الدول العربية إلى مرشح واحد. طبعًا وجود أكثر من مرشح لا يعني استحالة نجاح المرشح العربي، لكنه يعني تضاؤل فُرَص فوز هذا المرشح العربي، لسبب بسيط فوجود أكثر من مرشح عربي سيسمح للمجموعات الأخرى، أيضًا، بالدفع بمرشحين، وسيسمح بتفتيت الأصوات العربية. إذ بدلًا من أن تكون متوجهة إلى مرشح واحد، فستكون متقاسمة بين مرشحين أو ثلاثة أو أكثر. ثم إن الدول الأخرى عندما تجد أن هناك أكثر من مرشح عربي، يصبح لديها فرصة في ألاَّ تُصوّت لمرشح عربي. المسألة معقدة جدًا والبعضُ يثير سؤالًا كبيرًا جدًا، وهو: في ظلّ ما يجري في العالم العربي، الآن، منذ مطلع سنة 2011 حتى اليوم؛ هل العالم العربي بوضعيته الاجتماعية والثقافية والتعليمية والمآسي التي تمرّ به هنا وهناك، مُؤهَّلٌ أن يرأس المنظمة الدولية الكبرى في مجالات الثقافة والتربية والعلوم؟ هذا هو السؤال الذي يدور في كواليس اليونيسكو. إذ لم يَعُد السؤال حول مَن هو المرشح؟ بل هو السؤال عن جدارة وجود مرشح عربي لرئاسة اليونيسكو، بِغضّ النظر عمن يكون هذا المرشح، إذ يتحدثون، الآن، عن العالم العربي ككتلة كاملة. ونحن سننتظر وسنرى كيف سيكون الوضع.
* لا يمكن ونحن نتحدّث عن الآثار والتراث، إلا أن نتذكّر، بقلق وحزن، ما تقوم به الجماعات الإرهابية من تدمير في العراق وسورية وغيرهما. فما الذي يتوجب، في نظركم، على اليونيسكو القيام به؟
ما يجري بشأن التراث في العراق وسورية وفي دول أخرى مما يُسمى دول الربيع العربي لا شكّ أنه مؤلم ومزعج. والخطورة تكمُنُ في أن تحطيم الشيء أحيانًا يجعل إعادة البناء صعبة. وأعرف أن اليونيسكو تحاول قدر الإمكان أن تُبلّغ رسالتَها الشفوية بالتحذير من المساس بالتراث العالمي وتدعو كافّة الهيئات والمؤسسات المعنية والأفراد للمساهمة في الحماية، لكن البعض الآخر يعتب على اليونيسكو لأنها لا تتدخل مباشرة. وأنا من خلال عملي في المنظمة واطلاعي على التفاصيل أستطيع القول إن اليونيسكو لا تستطيع أن تعمل بسبب الوضع الأمني المرتبك داخل هذه الدول. هي لا تستطيع أن تعمل أكثر من مجرد هذه النداءات المتوالية لحماية التراث العالمي. ونحن نعرف أن ما يجري في بعض هذه الدول من نحر وقتل وتشريد الإنسان أشدّ بكثير مما يجري من نحر للتراث. ومع هذا لم تستطع المنظمات الدولية، كمجلس الأمن وغيرها التدخل لحماية الإنسان الذي يُقتَل كل يوم، فكيف تُطالَب اليونيسكو أن تتدخل لحماية الآثار! خصوصًا وأن المعنيين بحماية الآثار لا يستطيعون الدخول إلى هذه المواقع الخطرة إلا بأذونات من الجهات الأمنية والمنظمات الدولية المعنية بالحفاظ على الأمن. وحتى الآن فإنّ الرسالة الموجودة لدى اليونيسكو من قِبَل هذه المنظمات المعنية بالأمن تحذر من الدخول إلى هذه المواقع ومن إرسال الخبراء.