يبني منير الشعراني (1952) مشروعه الممتدّ منذ أربعة عقود على أن الخط فن لا توجد صيغة نهائية لتطوّره، ما ينفي عنه صفة القداسة التي تلبّسته منذ العصر العثماني، وهو تنظير يقع في سياق من الجدل الفلسفي والجمالي خلال العقود الستّة أو السبعة الماضية، ولا يقود بالطبع إلى إجابات حاسمة.
يستند الفنان السوري، في وجهة نظره، إلى بحث وتجريب، حيث يرى أن الحاجة إلى الكتابة أملتها العلاقة مع مشروع الدولة لدى الأمويين الذين عرّبوا الدواوين، ثم حركة الترجمة وعصر التدوين، وصولاً إلى توظيف العمارة والفنون للحروفيات مع تقدّمها في فترة لاحقة.
مدخل يبدو ضرورياُ لتلقّي تجربة الشعراني الذي افتتح معرضه "إيقاعات خطّية" نهاية الشهر الماضي في غاليري "قصص الفن" بلندن، ويتواصل حتى السابع والعشرين من الشهر الجاري، بعد أن تنقّل بين عدّة مدن أوروبية منها باريس وبرلين.
الذهاب نحو مادية الحرف وصلته الوثيقة بالواقع يمثّل مقاربة تندرج ضمن مقاربات متعدّدة ومختلفة برزت منذ خمسينيات القرن الماضي في المشرق العربي لاستدخال الخط كجزء أساسي من اللوحة المعاصرة، لكن الشعراني لا ينفي البعد الصوفي أو الروحاني عن أعماله التي تستعير لغة وأسلوباً حداثويَّين، مع الإصرار على اللجوء إلى الشكل التقليدي للحرف.
يواصل في محاولته الجديدة نقل الأعمال الحروفية إلى مستويات أبعد، عبر إخراجها من النمطية والتكرار والتعامل معها باعتبارها عنصراً تزيينياً إضافياً، عبر تحميل الحرف دلالات غير محددوة أو منحه طاقة تأويلية متجدّدة، حيث يرى أن الخط فنّ تجريدي، وإن استعار عبارات الحكمة والشعر بمعان مكتملة مسبقاً.
يأتى عنوان المعرض من الثيمة الأساسية التي يشتغل عليها الشعراني، متمثلّةً في ضبطه المدروس لعلاقات الكتلة والفراغ في تكوين اللوحة، حيث العبارة المكتوبة تظهر ككتلة واحدة لها حساسيتها الخاصة، في محاكاة لتصميم معماري تنسجم عناصره الحركية واللونية.
يغلب على الأعمال المعروضة استخدام الخط الكوفي المربّع، وهو ما يميّزها ويمنحها خصوصية شكلية تتوازى مع رؤيته التحديثية نحو تجريد الحرف واختزاله وتوليده في نسق جمالي مختلف عمّا تمّ التعامل معه في التراث العربي، حيث تلتبس على المتلقّي قراءة هذه العبارة أو تلك، بل إنه سيضطر إلى العودة للوحة الإرشادية المرفقة.
تلازم هذا التجريب مع بحث نظري وبصري لم ينقطع، حيث بدأ الشعراني مشواره بالخط الكوفي النيسابوري، ثم الكوفي القيرواني والكوفي المشرقي، ثم توجّه إلى خط النسخ المغربي، إلى جانب جلي الديواني والثلث، وفي كلّ مرحلة يظهر بوضوح التطوير أو الإضافة التي قدّمها في الاشتغال على خطوطه.
لم تنفصل مواقف الفنّان وآراؤه في السياسة والمجتمع يوماً عن تجربته، حيث نفّذ في السنوات الأخيرة عدداً من اللوحات المشكّلة من أسماء الطوائف، مكتوب فيها كلمة "سورية" بأسماء مكوّناتها، بحيث لو حُذف أي مكوّن منها سيختلّ شكلها البصري، ما يعيدنا إلى بداياته؛ حين صمّم مجموعة ملصقات عن القمع وتسلّط العسكر، ومنه انطلق ليعمل مصمّماً لأغلفة الكتب والمطبوعات.