31 أكتوبر 2024
من أجل جوار هادف بين المغرب والجزائر
يقول تشرشل "ليس هناك أصدقاء دائمون، ولا أعداء دائمون، ولكن توجد مصالح دائمة". طالما ردد الساسة والاستراتيجيون هذه المقولة التي قد تبدو أحيانا مجانبة للحقيقة، وقد تتحوّل إلى مشجب تعلق عليه كل المصائب والأزمات التي يمكن أن تطوّق علاقة دولة مع دولة أخرى. مبتغى هذه السطور ومقصدها هنا أن تخلخل الدلالة التقليدية والكلاسيكية التي ألصقت بهذه المقولة، لتضفي عليها حمولة عقلانية وواقعية، ولتحرّرها من رواسب توظيفات سياسية ميكيافيلية ضيقة، تحكمت في وجودها عوامل تاريخية واقتصادية واجتماعية وإيديولوجية.
تأسيسا على هذا الطرح، المصالح ليست دائمة، ويجب ألا تكون الإطار البنيوي الذي يهيكل العلاقات وينظمها، ويحدّد التوجهات الكبرى لهذه العلاقة، وإلا فإن تغليب مقاربة المصالح على مقاربات أخرى ممكنة قد يفضي إلى عواقب وخيمة، واصطدامات مدمرة، ذلك أن من شأن الانتصار والتعصب لمفهوم المصالح أن يوجدا وضعيةً من الكراهية المتبادلة بين شعب وشعب أو دولة ودولة، وحتى لو كان الجميع يدرك أن خيار التوتر والتشنج ليس صحيحا، فإن الجماعات واللوبيات التي لها مصلحة في الإبقاء على وضعيةٍ من هذا النوع تتحرك يمينا وشمالا، وترصد الإمكانات لتسخين المواقف وتفجيرها.
قد نسلم جدلا بأن الصداقة لم ولن تصمد أمام تيار المصالح. ولكن هل ستتغير الصورة، إذا نحن استبدلنا الأصدقاء بالجيران، فهذه الكلمة ليس لها مفهوم جغرافي فقط، بل ترتبط في ذاكرتنا بمعان أخلاقية ودينية وإنسانية، وهذا ربما ما يجعل منها قيمةً تحيط بها هالة من القدسية أحيانا. مثال على ذلك المغرب والجزائر، الظاهر أن بين البلدين حدودا وتماسا
جغرافيا، وقد أدى هذا التماس إلى اختلاط بشري وتمازج ثقافي وتبادل اقتصادي، وأفرز في كلا البلدين انشغالات وأسئلة متبادلة. وتحفل حفريات التاريخ بما لا حصر له من الأدلة والقرائن التي تؤكد أن التداخل بين الشعبين، المغربي والجزائري، شكل ويشكل حقيقة تاريخية، ولا أحد يستطيع أن يفند أو يلغي أمرا قائما وملموسا. أضف إلى هذا أن جغرافية المنطقة تحتفظ بما يكفي من الشواهد لإثبات أن جراح الماضي كانت مشتركة، ورهانات الحاضر والمستقبل لم تخرج كذلك عن هذا النطاق، بيد أن مفهوم الجوار أصيب "بصدمة" إذا صحّ التعبير، من جراء عوامل ومتغيرات كثيرة لعبت فيها الحروب الباردة، ونزعة الزعامة والقيادة الإقليمية، وتحريض القوى الاستعمارية بشقيها، القديم والجديد، دورا كبيرا أدّى، في فترات عديدة، إلى مجابهات عسكرية، وإلى مزايدات أنتجت حالة نفسيةً متوترة، وأفسحت المجال أمام نهوض شعورٍ بالقلق والشك وعدم الثقة.
مؤكد أن المشكلات تكون أكثر حدّة بسبب القرب الجغرافي، وبسبب ما يكرسه هذا القرب من حذر متبادل. ولكن إذا قمنا بعملية إحصائية بسيطة لعدد الأعوام التي ذهبت سدى، وتبخرت من دون نتيجة تذكر، ندرك حجم الخسارة التي جناها البلدان، وهما يحملان معا عبء التاريخ وقسوة الجغرافيا وحتمية الاختلاط والتمازج، وضرورة الالتقاء على أرضية البناء المشترك والصلب للمستقبل. وبالفعل، خسر المغرب والجزائر عدة أشياء، وفوّتا على نفسيهما فرصا نادرة لإطلاق مشاريع استراتيجية تخدم مصالح الشعبين، وليست المصالح وحدها هي التي تخدم الشعبين.
أما الآن وقد وقع ما وقع، وباتت ذاكرة المنطقة مثقلةً بالأحداث غير السارّة، والأزمات المفتعلة أحيانا، كما هو الشأن بالنسبة للصحراء المغربية، فإن منطق الجوار ونداء التاريخ يفرض، بقوة، اجتثاث كل العناصر الفاسدة في جسم العلاقات المغربية- الجزائرية واستئصالها بغية تمكين هذه العلاقات من أداء وظائفها بشكل طبيعي، ولإعطائها مفهوما جديدا يتأسّس على الصراحة والموضوعية والجرأة والانتصار للمبادئ الكبرى التي تنشر القيم الديمقراطية والحداثية والمتسامحة وتوطدها، خصوصا وأن ما يحدث اليوم في الجزائر من حراكٍ شعبي يدعو إلى التغيير الجذري، وإلى بناء نظام ديمقراطي يقطع مع الفساد والزبونية والنهب، يشكل لحظة تاريخية بكل المقاييس، لإحداث تحول نوعي في العلاقات بين المغرب والجزائر، بما يذيب جليد الخلافات والتوترات.
ما ينبغي الإقدام عليه راهنا بالنظر إلى المستجدات السياسية والاجتماعية في المنطقة هو نقد الماضي، والعمل على نقضه، في محاولةٍ لتحرير العقول والذاكرات من إكراهاته المعيقة، سيما وأن الإرادات السياسية في المغرب والجزائر باتت اليوم أكثر وعيا واستعدادا لتدشين مرحلةٍ جديدة، واعتماد منهجية بديلة لدراسة المشكلات، وتدبير العلاقات، وتحديد الأهداف المشتركة.
وعندما نتأمل شعار "بناء المغرب العربي"، أو المغرب الكبير، كما هو مدوّن في دساتير وخطابات عدد من الدول، والذي دغدغ شعوب المنطقة عقودا، فإننا لا يمكن أن نقتنع أبدا بجدوى هذا الشعار، في ظل عدم تصفية الأجواء بين المغرب والجزائر، ولا يمكن أن يتحقّق هذا الحلم بدون هذين القطبين. معنى ذلك أن أي تكتل اقتصادي محتمل لن يُكتب له النجاح، إذا لم تستقم العلاقات المغربية - الجزائرية بعيدا عن أي شعور بالتفوق أو الصراع على الزعامة.
كثيرة هي المحطات الصعبة التي اجتازها البلدان، وكثيرة هي الاتهامات التي استهلكت وتبودلت، وكثيرة هي المسؤوليات التي حمّلت لهذا الطرف أوذاك، ولكن ما يهم الآن أنه غير
مسموح ارتكاب مزيد من الأخطاء، وغير مسموح، بشكل خاص، تكرار الأخطاء السابقة. وبعيدا عن الإلمام بتفاصيل التاريخ المعاصر للبلدين، والإمساك بالعناصر التي كانت مؤثرة في صياغة الذاكرة النضالية المشتركة والأحلام المشروعة للشعبين، فإن زمن الحقيقة ومنطق الواقعية التاريخية والسياسية عاملان يحتمّان الالتزام بقدر معين من الصراحة والشفافية. وهذا ما ينقص البلدين، وهذا ما يهم ويطرح نفسه اليوم بشكلٍ ملح.
في السنوات الأولى لحكم الملك محمد السادس، زار بشير بومعزة، رئيس مجلس الأمة الجزائري في حينه، الرباط، وتبادل وجهات النظر مع مسؤولين مغاربة، واستقبله الملك محمد السادس، وحظي منه بتوشيحٍ، كانت له دلالة عميقة، وانطوى على رسائل متعدّدة، بددت كتلا من الغموض واللبس. وأهم رسالة أراد إيصالها العاهل المغربي إلى المسؤولين الجزائريين، وهو في بداية حكمه، التعبير الصادق عن الأمل الوطيد في تدشين مرحلة جديدة وواعدة بين البلدين الشقيقين. وكان هذا النوع من الإشارات قادرا على فتح أفق واسع للأمل والتفاؤل، خصوصا أن الزمن في المغرب، وقتئذ، كان زمن التأسيس لما عرف بالتحوّل الديمقراطي.
ومهما كانت اتجاهات الأحداث في الحراك الجزائري، وما يمكن أن ينتهي إليه من نتائج، وما يمكن أن يفرزه من قوى جديدة، ومراكز بديلة لصناعة القرار السياسي والعسكري، فمحكوم على المغرب والجزائر أن يضعا اليد في اليد، وأن ينظرا إلى الأمام من دون أي حرج أو عقدة. وخطوة من هذا القبيل ستعطي لمفهوم الجوار مضمونا ثوريا، وستحوّله إلى صخرة ستتكسر عليها كل العوائق والحواجز التي تقف في وجه المستقبل والاستقرار.
تأسيسا على هذا الطرح، المصالح ليست دائمة، ويجب ألا تكون الإطار البنيوي الذي يهيكل العلاقات وينظمها، ويحدّد التوجهات الكبرى لهذه العلاقة، وإلا فإن تغليب مقاربة المصالح على مقاربات أخرى ممكنة قد يفضي إلى عواقب وخيمة، واصطدامات مدمرة، ذلك أن من شأن الانتصار والتعصب لمفهوم المصالح أن يوجدا وضعيةً من الكراهية المتبادلة بين شعب وشعب أو دولة ودولة، وحتى لو كان الجميع يدرك أن خيار التوتر والتشنج ليس صحيحا، فإن الجماعات واللوبيات التي لها مصلحة في الإبقاء على وضعيةٍ من هذا النوع تتحرك يمينا وشمالا، وترصد الإمكانات لتسخين المواقف وتفجيرها.
قد نسلم جدلا بأن الصداقة لم ولن تصمد أمام تيار المصالح. ولكن هل ستتغير الصورة، إذا نحن استبدلنا الأصدقاء بالجيران، فهذه الكلمة ليس لها مفهوم جغرافي فقط، بل ترتبط في ذاكرتنا بمعان أخلاقية ودينية وإنسانية، وهذا ربما ما يجعل منها قيمةً تحيط بها هالة من القدسية أحيانا. مثال على ذلك المغرب والجزائر، الظاهر أن بين البلدين حدودا وتماسا
مؤكد أن المشكلات تكون أكثر حدّة بسبب القرب الجغرافي، وبسبب ما يكرسه هذا القرب من حذر متبادل. ولكن إذا قمنا بعملية إحصائية بسيطة لعدد الأعوام التي ذهبت سدى، وتبخرت من دون نتيجة تذكر، ندرك حجم الخسارة التي جناها البلدان، وهما يحملان معا عبء التاريخ وقسوة الجغرافيا وحتمية الاختلاط والتمازج، وضرورة الالتقاء على أرضية البناء المشترك والصلب للمستقبل. وبالفعل، خسر المغرب والجزائر عدة أشياء، وفوّتا على نفسيهما فرصا نادرة لإطلاق مشاريع استراتيجية تخدم مصالح الشعبين، وليست المصالح وحدها هي التي تخدم الشعبين.
أما الآن وقد وقع ما وقع، وباتت ذاكرة المنطقة مثقلةً بالأحداث غير السارّة، والأزمات المفتعلة أحيانا، كما هو الشأن بالنسبة للصحراء المغربية، فإن منطق الجوار ونداء التاريخ يفرض، بقوة، اجتثاث كل العناصر الفاسدة في جسم العلاقات المغربية- الجزائرية واستئصالها بغية تمكين هذه العلاقات من أداء وظائفها بشكل طبيعي، ولإعطائها مفهوما جديدا يتأسّس على الصراحة والموضوعية والجرأة والانتصار للمبادئ الكبرى التي تنشر القيم الديمقراطية والحداثية والمتسامحة وتوطدها، خصوصا وأن ما يحدث اليوم في الجزائر من حراكٍ شعبي يدعو إلى التغيير الجذري، وإلى بناء نظام ديمقراطي يقطع مع الفساد والزبونية والنهب، يشكل لحظة تاريخية بكل المقاييس، لإحداث تحول نوعي في العلاقات بين المغرب والجزائر، بما يذيب جليد الخلافات والتوترات.
ما ينبغي الإقدام عليه راهنا بالنظر إلى المستجدات السياسية والاجتماعية في المنطقة هو نقد الماضي، والعمل على نقضه، في محاولةٍ لتحرير العقول والذاكرات من إكراهاته المعيقة، سيما وأن الإرادات السياسية في المغرب والجزائر باتت اليوم أكثر وعيا واستعدادا لتدشين مرحلةٍ جديدة، واعتماد منهجية بديلة لدراسة المشكلات، وتدبير العلاقات، وتحديد الأهداف المشتركة.
وعندما نتأمل شعار "بناء المغرب العربي"، أو المغرب الكبير، كما هو مدوّن في دساتير وخطابات عدد من الدول، والذي دغدغ شعوب المنطقة عقودا، فإننا لا يمكن أن نقتنع أبدا بجدوى هذا الشعار، في ظل عدم تصفية الأجواء بين المغرب والجزائر، ولا يمكن أن يتحقّق هذا الحلم بدون هذين القطبين. معنى ذلك أن أي تكتل اقتصادي محتمل لن يُكتب له النجاح، إذا لم تستقم العلاقات المغربية - الجزائرية بعيدا عن أي شعور بالتفوق أو الصراع على الزعامة.
كثيرة هي المحطات الصعبة التي اجتازها البلدان، وكثيرة هي الاتهامات التي استهلكت وتبودلت، وكثيرة هي المسؤوليات التي حمّلت لهذا الطرف أوذاك، ولكن ما يهم الآن أنه غير
في السنوات الأولى لحكم الملك محمد السادس، زار بشير بومعزة، رئيس مجلس الأمة الجزائري في حينه، الرباط، وتبادل وجهات النظر مع مسؤولين مغاربة، واستقبله الملك محمد السادس، وحظي منه بتوشيحٍ، كانت له دلالة عميقة، وانطوى على رسائل متعدّدة، بددت كتلا من الغموض واللبس. وأهم رسالة أراد إيصالها العاهل المغربي إلى المسؤولين الجزائريين، وهو في بداية حكمه، التعبير الصادق عن الأمل الوطيد في تدشين مرحلة جديدة وواعدة بين البلدين الشقيقين. وكان هذا النوع من الإشارات قادرا على فتح أفق واسع للأمل والتفاؤل، خصوصا أن الزمن في المغرب، وقتئذ، كان زمن التأسيس لما عرف بالتحوّل الديمقراطي.
ومهما كانت اتجاهات الأحداث في الحراك الجزائري، وما يمكن أن ينتهي إليه من نتائج، وما يمكن أن يفرزه من قوى جديدة، ومراكز بديلة لصناعة القرار السياسي والعسكري، فمحكوم على المغرب والجزائر أن يضعا اليد في اليد، وأن ينظرا إلى الأمام من دون أي حرج أو عقدة. وخطوة من هذا القبيل ستعطي لمفهوم الجوار مضمونا ثوريا، وستحوّله إلى صخرة ستتكسر عليها كل العوائق والحواجز التي تقف في وجه المستقبل والاستقرار.