من البوعزيزي إلى جورج زريق.. ماذا بعد؟

21 فبراير 2019

جورج زريق ومحمد البوعزيز

+ الخط -
كان احتجاج محمد البوعزيزي الشرارة التي ألهبت نيران الثورة التونسية في 17 ديسمبر/ كانون الأول من العام 2010، اليوم الذي أضرم فيه بنفسه النيران أمام مقر ولاية سيدي بوزيد احتجاجا على مصادرة السلطات البلدية في المدينة العربة التي كان يبيع عليها الخضار والفواكه لكسب الرزق، وتنديدا برفض سلطات المحافظة في حينه قبول شكواه في حق شرطية صفعته وهي تصرخ قائلة ارحل. فكانت ثورة مدوية أشعلت نيران الثورات العربية الطامحة إلى تغيير حقيقي لا يطاول رأس الهرم السلطوي فقط، بل يطاول المبادئ الدستورية والقيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة في دولنا، جاعلةً الحقوق الفردية أساسا متينا تُبنى عليه الأوطان، من الحق في الحياة الكريمة إلى حق العمل والتعليم والطبابة، وطبعا الحق في المشاركة السياسية والتعبير الحر، وتبادل السلطة، ومئات المطالب والحقوق البديهية التي كنا وما زلنا نتطلع إليها يوميا.
وقد أعادنا حرق المواطن اللبناني جورج زريق نفسَه أمام مدرسة ابنته قرابة تسعة أعوام إلى الوراء، كما أعادتنا عشرات حوادث الاحتجاج العربية المماثلة أيضا إلى احتجاج البوعزيزي، وكأننا أمام الظاهرة نفسها، وبالتالي النتيجة نفسها، أي كأن ظواهر الاحتجاج حرقا أو موتا أو انتحارا سوف تعيد دفق الحركة الثورية، وتقرّبنا خطواتٍ ملموسةً من حقوقنا المسلوبة، وإنْ كانت بديهيةً وطبيعية. وهو ما يهمل أسباب هذه الظواهر عموما، واختلاف ظاهرة البوعزيزي التي عبّرت عن احتجاجه على السلطات الحاكمة ومؤسساتها وقوانينها عمّا تبعها من ظواهر 
الحرق والموت طوعا، تعبيرا عن أزمة مركبة سلطوية واجتماعية، أو أزمة سياسات السلطة الريعية والمافيوية المتشابكة مع أزمة المعارضة العاجزة عن تقديم خيارٍ بديلٍ عن النظام الاجتماعي والاقتصادي القائم. وكأن المواطن العربي أمام خيارين لا ثالث لهما، الموت قهرا وعجزا أو الموت طوعا واحتجاجا على الواقع الذي تفرضه السلطة، والذي لا سبيل للخلاص منه، ولا مكان فيه لحقوق الفقراء والمواطنين على حد سواء، باستثناء حقوق المافيا الحاكمة ورجالاتها في نهب المال العام، والتمتع بخيرات الوطن والمواطن، من دون مساءلة أو حساب.
نعم، تتحمل السلطات الحاكمة المسؤولية الأولى والأكبر عن تكرار ظواهر الموت طوعا، والقتل هربا من قسوة الحياة اليومية وصعوبتها، كما نتحمّل جميعا، وخصوصا المعارضة والمثقفين العرب، مسؤولية عجزنا عن ملامسة معاناة المواطنين ومشكلاتهم اليومية، ومتابعتها وتحويلها إلى قضايا رأي عام، فلم يقدم جورج زريق وسواه على حرق أجسادهم من أجل إدانة السلطات الحاكمة فقط، بل من أجل تحويل قضيتهم إلى قضية رأي عام، بعدما فقدوا الأمل بقدرتهم على انتزاع حقوقهم البسيطة عبر الوسائل المتاحة، وبعدما أيقنوا أنهم لا يملكون القدرة على تغيير الواقع من دون نصير أو عون من شركائهم في الوطن والمعاناة والظلم. لقد كان الموت طوعا وما زال وسيلة المواطن العاجز عن استعادة حقوقه عبر الوسائل القانونية والدستورية، أو عن عرض معاناته أمام الرأي العام، أو عبر النقابات والأحزاب المعنيّة بتفاصيل الحياة اليومية، فإن كان حرق البوعزيزي نفسه قبل تسعة أعوام بمثابة جرس إنذار بشأن هول الفظائع المحدقة بالفقراء والمهمّشين، فإن إقدام اللبناني جورج، أو أي مواطن عربي آخر، على حرق نفسه اليوم، يمثل إدانة لنا، ناشطين ومثقفين وسياسيين لا ينتمون إلى جوقة السلطات الحاكمة.
لسنا الآن في معرض جلد أنفسنا على وقع خسارتنا جورج زريق أو غيره من المظلومين في وطننا العربي، بل نحن مطالبون بنقد أنفسنا، وتحمل مسؤولياتنا الوطنية والاجتماعية والسياسية، بشكلٍ مغاير لما كان، بعدما أثبت جورج فشلنا في مساعدته ودعمه ومساندته في معركته أو معركتنا الوطنية، من أجل محاسبة الفاسدين والمسؤولين عن كل هذا الحضيض الذي نعيشه، والذي يعيشه جورج وآلافٌ غيره، بالإضافة إلى تحويل مشاعر الغضب والقهر والعجز إلى طاقاتٍ جبارة تحرق بنى الفساد والنهب والظلم، وتبني عوضا عنها بنىً ومؤسساتٍ وطنية، إنسانية؛ تساوي بين جميع مواطنيها في الحقوق والواجبات، وتقضي على مسبّبات الفقر والبطالة والجهل، وتضمن للجميع الحق في الحياة الكريمة والتعليم الناجع والطبابة المجانية، من دون إهانةٍ أو منّة، ومن دون الحاجة إلى دعم وعطف حزب سياسي أو رجل دين أو زعيم طائفي أو عشائري.
نعلم جميعا أن التغيير الذي ننشده بعيد المدى، ويتطلب منا تضحياتٍ ونضالات اجتماعية وسياسية كثيرة. وعليه، لن يحظى المواطن العربي، اليوم أو قريبا، بجميع حقوقه المسلوبة، 
ولكن آن الأوان كي نحظى ويحظى كل مواطن عربي بمنبر إعلامي وطني وملتزم، يتيح له الفرصة كي يعبر عن مشكلاته الشخصية، وعن أوجه استغلاله اليومية، وهو ما سوف يحوّل القضية من فرديةٍ إلى جماعيةٍ، يشاركه فيها آلاف المواطنين، فضلاً عن الحاجة إلى أطر اجتماعية ونقابية تحمل قضايانا الفردية المتفرقة، وتصهرها في بوتقةٍ جماعيةٍ واحدةٍ، وتخوض من أجلها نضالا جماعيا. وبالتالي، علينا الخروج من حالة اليأس والعجز الفردي إلى التكاتف والتعاضد على امتداد بلدات الوطن وقراه وحاراته، كما حان وقت طرح البديل السياسي والاقتصادي الحقيقي، والقادر على تجاوز تبعات النهج السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الريعية والمافيوية السائدة حاليا، والذي ينطلق من تحليل الواقع وتفكيكه، كي يعبر عن الحلول العملية لجميع مشكلاتنا اليومية، بعيداً عن ألق الشعارات والخطابات الرنانة الفاقدة مدلولاتها الحياتية، والغارقة في جدالات ثقافية ومصطلحية نخبوية.
أخيرا لن نختلف على تحمل السلطات الحاكمة مسؤولية الفقر والتخلف والظلم السائد في مجتمعاتنا العربية، نتيجة النهج المتبع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، كما لن نختلف في اعتباره السبب الأول لجميع مظاهر الاحتجاج الفردي، اليائسة والمحبطة، كالموت حرقا وإقدام الأب أو الأم على تخليص نفسها وعائلتها من ألم البقاء على قيد الحياة، من دون أيٍّ من حقوقهم الطبيعية والبسيطة، وفي تفشّي مظاهر العنف الاجتماعي، وتراجع مستويات الأمان الفردي والجماعي، وانتشار مظاهر التسوّل والموت على أبواب المستشفيات، وعمالة الأطفال، والاستغلال الجنسي، ومئات المظاهر الاجتماعية الناجمة عن غياب الحقوق، وشرعنه الاستغلال الفردي. كما يجب أن لا نختلف على فداحة موت جورج المتعمد، وإن كان احتجاجا، وعلى آثاره النفسية العميقة التي تضرب المجتمع وأصدقاءه وأحبابه، وخصوصا ابنته التي فقدت والدها، كما فقدت مئات اللحظات والذكريات الجميلة والمستقبلية التي تجمعهما على بساطتها. لذا لا بد من نبذ هذه الوسيلة الاحتجاجية إعلاميا، وتجسيد وسائل احتجاج مجدية عمليا، وبأسرع وقت ممكن.
دلالات
75812723-2689-4553-B56D-72CE271905DB
حيّان جابر
كاتب فلسطيني، مشارك في إعداد ملحق فلسطين.