01 نوفمبر 2024
من تل أبيب إلى الخارجية التونسية وزيراً
لا يريد هذا المقال أن يعود إلى التاريخ البعيد للتونسيين في علاقتهم بالقضية الفلسطينية، ودعمهم لها من دون أي حسابات سياسية، أو انتماءات أيديولوجية وعقدية ضيقة، وما ترتب عنه من عداء مطلق للكيان المسمى "إسرائيل"، فذلك أمر فصّلنا القول فيه في مؤلّف منشور حول الإسلام والعروبة والتونسة. ولكن، نبتغي، هذه المرّة، الوقوف عند حيثيات الاختراق الخطير للمؤسسات القيادية والسيادية للدولة التونسية من "تيار التطبيع التونسي" مع الكيان الصهيوني الذي تدرّج في التسرّب إلى أن بلغ أعلى المناصب في الدولة.
أثيرت المسألة مجدداً على خلفية تعيين خميس الجيهناوي وزيراً للخارجية التونسية في حكومة الحبيب الصيد، ضمن تحوير (تعديل) وزاري، نال بموجبه ثقة البرلمان التونسي يوم 11 يناير/كانون الثاني الجاري. وقد بات معلوماً أن الوزير المذكور كلّف بمهام رئيس مكتب رعاية مصالح الجمهورية التونسية في تلّ أبيب، طبقا للأمر عدد 621 لسنة 1996 المنشور في جريدة الرائد الرسمي للبلاد التونسية، عدد 32 المؤرخ في 19 أبريل/نيسان 1996، وذلك قبل أن يتدرّج في المراتب العليا لوزارة الخارجية، إلى أن بلغ مرتبة كاتب دولة سنة 2011 ووزيراً مستشاراً دبلوماسياً لدى رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، بعد انتخابات 21 ديسمبر/كانون الأول 2014.
وقد جاء هذا التعيين الذي بموجبه أقيمت علاقات دبلوماسية بين الدولة التونسية، زمن حكم بن علي، والدولة العبرية، ضمن سياقات مؤتمر مدريد واتفاقية أوسلو المخيّبة للآمال العربية في استرجاع الأرض المسلوبة، أو إقامة دولة فلسطينية، على قاعدة الأرض مقابل السلام التي انتهت إلى ضدّها، أي التنازل عن الأرض مقابل السلام. وبدأ هذا المسار منذ سبتمبر/أيلول سنة 1993، عندما صافح وزير الخارجية التونسي، الحبيب بن يحيى، وزير الخارجية الصهيوني، شمعون بيريز، إثر لقاء جمعهما في واشنطن، مقدمة للاعتراف المتبادل بين الدولتين الذي انطلق سنة 1994، ووصفه بيريز بأنه إنجاز من الدرجة الأولى، معتبراً أن "تونس موطئ قدم مهم جدا للدبلوماسية الإسرائيلية في شمال أفريقيا". وقد عرفت السنتان التي تولى فيهما الوزير التونسي الجديد للخارجية، خميس الجيهناوي، مكتب رعاية المصالح التونسية - "الإسرائيلية" مداً ملحوظاً في العلاقة بين الحكومة التونسية والدولة الصهيونية. ولكن هذه العلاقات تراجعت، ووصلت إلى حدّ التجميد، بسقوط بيريز وحزب العمل وصعود نتنياهو وحزبه، لتنتعش من جديد بدعوة الرئيس التونسي بن علي رئيس الوزراء الصهيوني أرييل شارون، رمز الجريمة والقتل، لحضور القمة العالمية لمجتمع المعلومات في تونس سنة 2005، بعد أن سبقتها عودة الاتصالات في لقاء لاهاي بين وزير الخارجية التونسي، عبد الباقي الهرماسي ونظيره الصهيوني سيلفان شالوم، الذي زار تونس، ونزل بطائرته في جزيرة جربة، ونظمت له السلطات التونسية زيارة لمسقط رأسه في مدينة الحامة في الجنوب التونسي التي تحتوي مزاراً يهودياً. وتلا ذلك فتح خط جوي مباشر بين تل أبيب وجزيرة جربة، لنقل اليهود الصهاينة لزيارة المعبد اليهودي المعروف بالغريبة، كما فتحت السلطات التونسية الأبواب على مصراعيها أمام المؤتمرين الصهاينة، للمشاركة في المؤتمرات الكشفية والعلمية والطبية والتاريخية، بعد أن مهد الطريق إلى ذلك أساتذة جامعيون يؤمنون بالتطبيع، وزاروا "إسرائيل" في مناسبات كثيرة، كانوا ينتمون إلى الحزب الشيوعي التونسي الذي يحمل، اليوم، مسميات جديدة، يصمهم الرأي العام الوطني التونسي بأنهم مطبّعون وعملاء ومدافعون عن كيان عنصري محتلّ للأرض، وقاتل للأطفال والأبرياء من النساء والرجال.
ويقرأ المهتمون بالشأن السياسي التونسي في تعيين الجيهناوي وزيراً للخارجية استجابة لتدخل
أجنبي في الشأن التونسي، واختياراً شخصياً من رئيس الجمهورية الذي يمكّنه الدستور من تعيين وزيري الدفاع والخارجية، بعد التشاور مع رئيس الحكومة. ولكن دلالات التعيين، هذه المرّة، تشير، بكل وضوح، إلى أن الرئيس الباجي قائد السبسي يريد أن يستثمر في علاقات وزيره القديمة باللوبيات اليهودية والصهيونية في السياسة الخارجية لتونس التي ترجع بالنظر إلى قصر قرطاج، وليس إلى قصر القصبة، فالرئيس التونسي لم يكن يرى حرجا في الجلوس إلى مسؤولين ووزراء صهاينة، منذ تولى وزارة الخارجية التونسية، في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، بين سنتي 1981 و1986، فقد شهدت تلك الفترة، وتحديدا في أكتوبر/تشرين الأول من سنة 1985، العدوان الصهيوني على حمام الشط في الضاحية الجنوبية للعاصمة التونسية، في محاولة لتصفية قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ونتج عن ذلك العدوان سقوط شهداء فلسطينيين وتونسيين امتزجت دماؤهم، وتولى قائد السبسي الملف في مجلس الأمن، ولم ير مانعا آنذاك من الجلوس مع مندوب الدولة العبرية، في وقتٍ كانت الوفود العربية تغادر قاعة الاجتماعات، عندما يتكلّم ممثل "إسرائيل"، ليفاوضه حول التعويضات التي أقرّها مجلس الأمن لتونس، بعد قبول التغاضي عن حقوق الفلسطينيين الذين يصنفهم الأميركيون و"الإسرائيليون" إرهابيين يجوز قتلهم.
كان القبول بالجيهناوي وزيراً للخارجية في الحكومة التونسية أمراً ثقيلاً ومحرجاً ومؤلماً ومثيراً للجدل في البرلمان التونسي، ذي الأغلبية الإسلامية النهضوية، بعد تفتت كتلة حزب نداء تونس ذي الأغلبية في الانتخابات التشريعية التي جرت يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول 2014. ويبدو أن تصويت قلّة قليلة جدا من النهضويين ضد هذا الوزير، وعدم منحه الثقة، وبالتالي الخروج عن الانضباط الحزبي، يدلّ على أن الأمر كان محلّ خلاف داخل كتلة حركة النهضة ما بين مدافع عن الخيارات البراغماتية لقيادة الحركة التي قبلت وزيراً مطبّعاً مع الكيان الصهيوني، في إطار تحسين التموقع داخل الحكومة، وفي المشهد السياسي الوطني، والعالمي الذي أُبلغت مراكز قراره بهذا الخيار الاستراتيجي للإسلاميين التونسيين، على حساب المبادئ الأساسية والالتزام التاريخي تجاه أم القضايا، ومجموعة صغيرة مازالت تعطي للقضايا الكبرى، مثل القضية الفلسطينية، حمولة رمزية المقدّسات الإسلامية المكانة التي تليق بها في بورصة السياسة ولعبتها التي لا تخلو من سقوط قيمي. أما بقية مكونات الائتلاف الحكومي من أشلاء حزبي نداء تونس وآفاق تونس والاتحاد الوطني الحرّ، فلا يبدو أن وجود وزير له علاقات مع "إسرائيل"، واشتغل فيها، يحرجهم، أو يشكّل عائقاً في التعامل معه، ولا يرون في الأمر خطراً على دولة ذات سيادة. وعلى عكس هذا التوجه، كان صوت المعارضات العروبية، وحتى اليسارية، عالياً في مجلس نواب الشعب ضدّ هذا الاختراق المدوي، ما اعتبره بعضهم وصمة عار في تاريخ مجلسٍ منتخبٍ من المفترض أن يمثّل الإرادة الشعبية، ويعبّر عنها. هذه الإرادة التي تعتبر القضية الفلسطينية قضية وطنية تونسية وقضية قومية عربية وقضية إسلامية وإنسانية، وقد سالت دماء تونسيين كثر من أجلها في فلسطين، وفي لبنان، وفي مختلف جبهات القتال التقليدية، وكذلك في تونس. ولطالما يقع تذكير الطبقة السياسية في تونس بأن الشارع التونسي كان يرفع شعار "الشعب يريد تحرير فلسطين" بالتوازي مع رفعه شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" إبّان ثورة 17 ديسمبر. إلا أن هذه الطبقة، وخصوصاً المجموعات الحاكمة، سرعان ما ضربت بالشرعية الشعبية عرض الحائط، وانساقت وراء بعض يوتوبيات السياسة، من أن الدخول إلى الأسواق الدولية السياسية والاقتصادية والمالية والاستمرارية في الحكم هو رهين الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني، والارتباط باللوبيات اليهودية المنتشرة في كل أصقاع الدنيا، لاسيما في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا المتحكمة في القرار السياسي، متناسين، بسرعة، أن هذه الخيارات لم تحم أسلافهم من حكام تونس ومصر في شهر يناير/كانون الثاني من سنة 2011 لمّا أفل نجمهم، وحلّت ساعة الإلقاء بهم في مزابل التاريخ، فلم ينفعهم تطبيعهم مع دولة الاحتلال الغاصبة للأرض، والمدمرة للإنسان، كما تدلّ على ذلك شواهد التاريخ والجغرافيا، أو الاعتراف بها والاحتماء بلوبياتها النافذة، بديلاً عن الشرعية الشعبية، الحامي الحقيقي للحكام عند حلول لحظات الشدّة والألم.
أثيرت المسألة مجدداً على خلفية تعيين خميس الجيهناوي وزيراً للخارجية التونسية في حكومة الحبيب الصيد، ضمن تحوير (تعديل) وزاري، نال بموجبه ثقة البرلمان التونسي يوم 11 يناير/كانون الثاني الجاري. وقد بات معلوماً أن الوزير المذكور كلّف بمهام رئيس مكتب رعاية مصالح الجمهورية التونسية في تلّ أبيب، طبقا للأمر عدد 621 لسنة 1996 المنشور في جريدة الرائد الرسمي للبلاد التونسية، عدد 32 المؤرخ في 19 أبريل/نيسان 1996، وذلك قبل أن يتدرّج في المراتب العليا لوزارة الخارجية، إلى أن بلغ مرتبة كاتب دولة سنة 2011 ووزيراً مستشاراً دبلوماسياً لدى رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، بعد انتخابات 21 ديسمبر/كانون الأول 2014.
وقد جاء هذا التعيين الذي بموجبه أقيمت علاقات دبلوماسية بين الدولة التونسية، زمن حكم بن علي، والدولة العبرية، ضمن سياقات مؤتمر مدريد واتفاقية أوسلو المخيّبة للآمال العربية في استرجاع الأرض المسلوبة، أو إقامة دولة فلسطينية، على قاعدة الأرض مقابل السلام التي انتهت إلى ضدّها، أي التنازل عن الأرض مقابل السلام. وبدأ هذا المسار منذ سبتمبر/أيلول سنة 1993، عندما صافح وزير الخارجية التونسي، الحبيب بن يحيى، وزير الخارجية الصهيوني، شمعون بيريز، إثر لقاء جمعهما في واشنطن، مقدمة للاعتراف المتبادل بين الدولتين الذي انطلق سنة 1994، ووصفه بيريز بأنه إنجاز من الدرجة الأولى، معتبراً أن "تونس موطئ قدم مهم جدا للدبلوماسية الإسرائيلية في شمال أفريقيا". وقد عرفت السنتان التي تولى فيهما الوزير التونسي الجديد للخارجية، خميس الجيهناوي، مكتب رعاية المصالح التونسية - "الإسرائيلية" مداً ملحوظاً في العلاقة بين الحكومة التونسية والدولة الصهيونية. ولكن هذه العلاقات تراجعت، ووصلت إلى حدّ التجميد، بسقوط بيريز وحزب العمل وصعود نتنياهو وحزبه، لتنتعش من جديد بدعوة الرئيس التونسي بن علي رئيس الوزراء الصهيوني أرييل شارون، رمز الجريمة والقتل، لحضور القمة العالمية لمجتمع المعلومات في تونس سنة 2005، بعد أن سبقتها عودة الاتصالات في لقاء لاهاي بين وزير الخارجية التونسي، عبد الباقي الهرماسي ونظيره الصهيوني سيلفان شالوم، الذي زار تونس، ونزل بطائرته في جزيرة جربة، ونظمت له السلطات التونسية زيارة لمسقط رأسه في مدينة الحامة في الجنوب التونسي التي تحتوي مزاراً يهودياً. وتلا ذلك فتح خط جوي مباشر بين تل أبيب وجزيرة جربة، لنقل اليهود الصهاينة لزيارة المعبد اليهودي المعروف بالغريبة، كما فتحت السلطات التونسية الأبواب على مصراعيها أمام المؤتمرين الصهاينة، للمشاركة في المؤتمرات الكشفية والعلمية والطبية والتاريخية، بعد أن مهد الطريق إلى ذلك أساتذة جامعيون يؤمنون بالتطبيع، وزاروا "إسرائيل" في مناسبات كثيرة، كانوا ينتمون إلى الحزب الشيوعي التونسي الذي يحمل، اليوم، مسميات جديدة، يصمهم الرأي العام الوطني التونسي بأنهم مطبّعون وعملاء ومدافعون عن كيان عنصري محتلّ للأرض، وقاتل للأطفال والأبرياء من النساء والرجال.
ويقرأ المهتمون بالشأن السياسي التونسي في تعيين الجيهناوي وزيراً للخارجية استجابة لتدخل
كان القبول بالجيهناوي وزيراً للخارجية في الحكومة التونسية أمراً ثقيلاً ومحرجاً ومؤلماً ومثيراً للجدل في البرلمان التونسي، ذي الأغلبية الإسلامية النهضوية، بعد تفتت كتلة حزب نداء تونس ذي الأغلبية في الانتخابات التشريعية التي جرت يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول 2014. ويبدو أن تصويت قلّة قليلة جدا من النهضويين ضد هذا الوزير، وعدم منحه الثقة، وبالتالي الخروج عن الانضباط الحزبي، يدلّ على أن الأمر كان محلّ خلاف داخل كتلة حركة النهضة ما بين مدافع عن الخيارات البراغماتية لقيادة الحركة التي قبلت وزيراً مطبّعاً مع الكيان الصهيوني، في إطار تحسين التموقع داخل الحكومة، وفي المشهد السياسي الوطني، والعالمي الذي أُبلغت مراكز قراره بهذا الخيار الاستراتيجي للإسلاميين التونسيين، على حساب المبادئ الأساسية والالتزام التاريخي تجاه أم القضايا، ومجموعة صغيرة مازالت تعطي للقضايا الكبرى، مثل القضية الفلسطينية، حمولة رمزية المقدّسات الإسلامية المكانة التي تليق بها في بورصة السياسة ولعبتها التي لا تخلو من سقوط قيمي. أما بقية مكونات الائتلاف الحكومي من أشلاء حزبي نداء تونس وآفاق تونس والاتحاد الوطني الحرّ، فلا يبدو أن وجود وزير له علاقات مع "إسرائيل"، واشتغل فيها، يحرجهم، أو يشكّل عائقاً في التعامل معه، ولا يرون في الأمر خطراً على دولة ذات سيادة. وعلى عكس هذا التوجه، كان صوت المعارضات العروبية، وحتى اليسارية، عالياً في مجلس نواب الشعب ضدّ هذا الاختراق المدوي، ما اعتبره بعضهم وصمة عار في تاريخ مجلسٍ منتخبٍ من المفترض أن يمثّل الإرادة الشعبية، ويعبّر عنها. هذه الإرادة التي تعتبر القضية الفلسطينية قضية وطنية تونسية وقضية قومية عربية وقضية إسلامية وإنسانية، وقد سالت دماء تونسيين كثر من أجلها في فلسطين، وفي لبنان، وفي مختلف جبهات القتال التقليدية، وكذلك في تونس. ولطالما يقع تذكير الطبقة السياسية في تونس بأن الشارع التونسي كان يرفع شعار "الشعب يريد تحرير فلسطين" بالتوازي مع رفعه شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" إبّان ثورة 17 ديسمبر. إلا أن هذه الطبقة، وخصوصاً المجموعات الحاكمة، سرعان ما ضربت بالشرعية الشعبية عرض الحائط، وانساقت وراء بعض يوتوبيات السياسة، من أن الدخول إلى الأسواق الدولية السياسية والاقتصادية والمالية والاستمرارية في الحكم هو رهين الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني، والارتباط باللوبيات اليهودية المنتشرة في كل أصقاع الدنيا، لاسيما في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا المتحكمة في القرار السياسي، متناسين، بسرعة، أن هذه الخيارات لم تحم أسلافهم من حكام تونس ومصر في شهر يناير/كانون الثاني من سنة 2011 لمّا أفل نجمهم، وحلّت ساعة الإلقاء بهم في مزابل التاريخ، فلم ينفعهم تطبيعهم مع دولة الاحتلال الغاصبة للأرض، والمدمرة للإنسان، كما تدلّ على ذلك شواهد التاريخ والجغرافيا، أو الاعتراف بها والاحتماء بلوبياتها النافذة، بديلاً عن الشرعية الشعبية، الحامي الحقيقي للحكام عند حلول لحظات الشدّة والألم.