عاد للواجهة مصطلح "الحرب التجارية" بعد الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على واردات بلاده من الصلب والألمنيوم، ثم تهديده بفرض مزيد من القيود على الواردات من الصين والاتحاد الأوروبي والذي قوبل بتهديد مماثل من الطرفين بفرض رسوم على الصادرات الأميركية.
وعلى رغم أن الحرب التجارية هي المصطلح الأبرز حاليا، إلا ان هناك خلطا في بعض الأحيان بينها وبين الحروب الاقتصادية.
في العلوم السياسية، فإن العلاقات الدولية ليست سلمية بشكل صرف أو حربا صريحة تشن من جانب على أخر، لكن بين السلم والحرب درجات عدة تقترب او تبتعد من أيهما.
والحرب الاقتصادية هي أحد الأدوات في الحروب بين البلاد، وقد تكون بديلا أو مقدمة للحرب الشاملة التي تتضمن استخدام القوة العسكرية بعد أن كان مفهوم الحرب يقتصر في بعض الأدبيات على القوة العسكرية فقط.
ومن ثم فإن شن حرب اقتصادية من طرف دولة على أخرى يعد أحد أدوات الصراع المستخدمة لإرغام الطرف الأخر على الخضوع للطرف الأول بما يحقق مصالحه سواء شمل ذلك تنفيذ سياسات معينة او الامتناع عن أخرى.
والحرب الاقتصادية، تتضمن كل الأدوات الاقتصادية التي يمكن أن يستخدمها طرف أو أطراف ضد أخر أو أخرين، ومن ثم فهي تشمل الحرب التجارية مثل فرض الرسوم الجمركية، والحرب المالية كحظر الأنشطة المصرفية والتحويلات المالية، والمقاطعة الاقتصادية بالحظر الشامل على سلع ومنتجات الدولة، أو الحصار الاقتصادي الشامل أو الجزئي، وصناعة الأزمات الاقتصادية كالتلاعب بالبورصة او العملة المحلية والسندات، واستخدام الأموال الساخنة في الإضرار باقتصاد الدولة وسياسات الاحتكار لسلعة أو سلع استراتيجية تطلبها الدولة المستهدفة بمنعها عنها او إغراق أسواق الدولة بمنتج أو منتجات معينة لضرب منتجاتها الوطنية.
وهناك نماذج دولية عديدة كانت من طرف واحد او أطراف عدة لشن حرب اقتصادية على دولة ما، فما تعرض له العراق منذ عام 1991 وحتى الاحتلال الأميركي عام 2003 والحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ عام 2007 وحتى الآن، والحصار الذي يفرضه التحالف العسكري بقيادة السعودية على اليمن، وكذلك الحصار الذي تفرضه السعودية والإمارات والبحرين ومصر على قطر، والعقوبات الأميركية الشاملة ضد السودان منذ عام 1998 والتي بدأت في رفعها خلال العام الجاري، وغيرها من نماذج الحروب الاقتصادية المتبعة عالميا.
أما الحرب التجارية فهي أحد أوجه الحرب الاقتصادية وأدواتها الهامة وهي غالبا ما تنفذها دولة ما بفرض رسوم جمركية على سلعة تستوردها دون تحديد مصدرها أو تشمل عدة منتجات من دولة أخرى.
والحرب التجارية ليست جديدة في العلاقات الدولية، فالمبدأ الاقتصادي الشهير (laissez faire laissez passer) أو " دعه يعمل، دعه يمر" الذي راج خلال القرون الثلاثة الأخيرة كان بالأساس لمواجهة تدخل الدولة في الاقتصاد ولمواجهة الحمائية التجارية وفرض القيود على حركة السلع بين الدول.
وهناك تجارب تاريخية للحرب التجارية والتي كانت الولايات المتحدة طرفا في العديد منها سواء بعد استقلالها عن بريطانيا عندمت فرضت قيودا على التجارة معها، ثم مبدأ مونرو الذي أطلقه الرئيس الأميركي جيمس مونرو عام 1823 والذي تزامن مع بدء سياسة العزلة الأميركية وفي أحد جوانبها الحمائية التجارية، وهو المبدا الذي استمر حتى إعلان الرئيس ويلسون المبادىء الأربعة عشر ومن بينها حرية التجارة عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى.
وتنبع أهمية حرية التجارة التي تأسست بعد ذلك منظمة دولية خصيصا لحمايتها ووضع أسسها وهي " منظمة التجارة العالمية" في أمرين:
الأول: هو تصريف الفائض الصناعي الضخم والذي كان حتى وقت قريب في أغلبه من المعسكر الرأسمالي الغربي الذي شهد ما يسمى الثورة الصناعية خلال القرون القليلة الماضية، ومن ثم فإن أي قيود على حرية التجارة ستمثل ضربة للاقتصاد الصناعي.
ووفقا لتقرير لوكالة "فرانس برس" عن التبعات المحتملة لحرب تجارية عالمية فإن نمو الاقتصاد العالمي يعتمد على التبادلات التجارية في كل انحاء الكرة الأرضية.
وحذر صندوق النقد الدولي مرات عدة منذ تولي ترامب مهامه بأن أي محاولة حمائية سيكون لها انعكاسات عالمية، كما أقر الرئيس الجديد للاحتياطي الفدرالي الأميركي والذي عينه ترامب، جيروم باول، بأن حربا تجارية ستمثل "خطرا أكبر على الافاق الاقتصادية"، وهو ما شدد عليه رئيس المصرف المركزي الأوروبي ماريو دراغي أن "الميل نحو الحمائية يشكل خطرا جديا على نمو الانتاجية والنمو المحتمل للاقتصاد العالمي".
ونقلت الوكالة عن خبراء اقتصاديون لدى "اوكسفورد ايكونومكس" أن "تباطؤ (اقتصاد) الصين بسبب الرسوم الجمركية سينعكس سلبا على الاقتصادات الأخرى في آسيا، وخارجها على ألمانيا".
الأمر الثاني: هو قيمة ما تمثله التجارة من أهمية بالغة في نقل التكنولوجيا والسلع وتوفير أجواء المنافسة ومقاومة الاحتكار مما يؤدي إلى تقديمها للمستهلك النهائي بأسعار تنافسية.
ففرض الضرائب على الواردات سيؤدي حتما لزيادة في الأسعار في مختلف القطاعات، وهو ما أكدته شركة "تويوتا" لتصنيع السيارات من أن ارتفاع أسعار الصلب سيرفع حتما أسعار سياراتها، كما حذرت الصين من أن فرض الرسوم "ستمس بشكل مباشر مصالح المستهلكين الأميركيين"، كما ستؤدي زيادة اسعار المواد الاستهلاكية إلى إبطاء الاستهلاك، ما يشكل خطرا على النمو الأميركي الذي يعتمد عادة على استهلاك الاسر.
يقول صندوق النقد الدولي إن القرار الأميركي بفرض رسوم جمركية على واردات الصلب والألمنيوم "سيلحق أضرارا ليس فقط خارج الولايات المتحدة بل أيضا بالاقتصاد الأميركي نفسه، بما في ذلك على صعيد قطاعات التصنيع والبناء حيث الطلب مرتفع على الصلب والألومينيوم".
الأمر الأخطر أن فرض رسوم على منتج أو أكثر أو على سلع يمكن ان يفتح الباب أمام إجراءات بالرد ستؤثر بشكل كبير على قطاعات أخرى، ومن ثم تتدحرج كرة الثلج من حرب تجارية محدودة إلى عالمية تهدد اقتصادات العالم، وربما تنشا حروب عسكرية بسببها وهو أحد التفسيرات المطروحة لسبب قيام الحرب العالمية الثانية أنها اندلعت بسبب الحمائية التي فرضتها الولايات المتحدة في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين.
أما المصطلح الاحدث في إطار السجال الدائر عالميا حول الرسوم الجمركية فهو "الترهيب الاقتصادي" والذي استخدمته الناطقة باسم وزارة الخارجية الصينية هوا شونينغ اليوم الإثنين بالقول في ايجاز صحافي إنه "كان من الأنسب القول إن الوقت حان لانهاء الترهيب الاقتصادي والهيمنة الأميركية".
وقالت هوا "لدينا الثقة والقدرة على حماية مصالحنا المشروعة والقانونية مهما كانت الظروف" مضيفة أن "الكرة الآن في ملعب الولايات المتحدة".
ويفهم من تصريحات المسؤولة الصينية أن الصين وربما غيرها من التكتلات الاقتصادية تخشى التحول من "الحرب التجارية" إلى "الترهيب الاقتصادي" والذي لا يشمل فرض الرسوم فقط بل ربما يتعداه إلى سياسات وقيود أخرى بهدف "ترهيب" الطرف المستهدف من تحول الحرب التجارية إلى حرب اقتصادية أشمل.