من حكايات إيسوب
تكتب الشعوب نفسها، وتتعلم الحياة عبر دروس الخطأ والصواب في حكاياتها وأغانيها وقصائدها وأمثالها الشعبية. وعلى الرغم من تشابه التجارب بين البشر، كل على حدة، وبين الشعوب كل على حدة، إلا أن الاختلافات تصنع الحكايات الخاصة، والمفارقات تصنع الآراء. ربما، لهذا تحتفي الشعوب بحكاياتها الشعبية الموروثة، وتراكمها جيلا بعد جيل، كمخازن للحكمة كلما جدّ جديد!
من الحكايات الشعبية المثيرة التي احتفت بها الذاكرة الإنسانية، وترجمتها بلغات مختلفة حكايات إيسوب، التي ظهرت في اليونان في القرن السادس قبل الميلاد، منسوبة لإيسوب العبد الذي امتلك الحكمة وامتلكه الآخرون، فمن دون حكمته على ألسنة الطيور والحيوانات وكائنات الأرض والسماء الأخرى، تاريخاً بشرياً متحركاً، جاء الآخرون، ليضيفوا إليه ما جعله، في النهاية، إرثاً شعبياً إنسانيا مشتركا، يمكننا أن ننتمي إليه، بمجرد أن نفتش بين خبايا ما يمثلنا في لحظة من اللحظات.
ظلت حكايات إيسوب واحدةً من حكاياتي المفضلة دائماً، حتى إنني حاولت مرة أن أضيف إليها ما توّهمت أنه جزء يسيرٌ في سياقها من كتاباتي القديمة.
تلك الحكايات الشهيرة، أجد متعةً متجدّدة كلما أعدت قراءتها، وعند كل حكايةٍ أقف لمحاولة قراءة ما وراء الكلمات القليلة التي تكوّن الحكاية، بمفارقاتها وحسها الفكاهي وسخريتها اللاذعة.
من الحكايات التي وقفت عندها اليوم مطولاً حكاية لطيفة، ملخصها أن الأنهار التي كانت تجري في أرض ما قرّرت الاجتماع يوماً لأمر مهم وخطير، يتعلق بوجودها كله، بعد أن لاحظت أن هذا الوجود مهدّد بالفناء الأبدي، باعتباره ماءً عذباً صالحاً لسقيا الكائنات الحية، فهذه الانهار ما أن تتجه إلى مصبّاتها في البحر، حتى تتلاشى عذوبتها في ملوحته، ولا تعود تصلح لشيء.. تختفي تماماً من الوجود، ويموت عنصر تميّزها الوحيد عن البحر المالح، فتصبح مجرد مياه بحرٍ مالحةٍ، لا يكاد يتذكّر تاريخها العذب أحدٌ ممن تذوقها، وساهمت في بقائه على سبيل الحياة. في نهاية الاجتماع، قرّرت الأنهار الغاضبة ألا تسكت بعد الآن، ولا بد أن تذهب إلى البحر، لتشكوه إلى نفسه، وهذا ما حدث.
قالت الأنهار، بصوتٍ واحدٍ حرصت على أن يجاري هدير البحر المعتاد، بدلا من انسايبتها الناعمة: لماذا، أيها البحر، تغيرنا هكذا؟ نحن نأتيك من أماكن مختلفة، ونصب مياهنا العذبة الصالحة للشرب، ولسقيا كائنات الحياة، وما هي إلا ثوان قليلة، حتى تحيل تلك المياه الى ملح أجاج، لا يصلح لشيء، ولا يضيف إليك الكثير، فلماذا لا تترك مياهنا كما هي؟
لم يبد على البحر أنه تغير، أو تفاجأ، بعد أن سمع الشكوى الجماعية للأنهار الغاضبة بين يديه. انتظر قليلاً، وهو يراقب انحدارها المتشوق لأن تصبّ من كل حدب وصوب في قلبه المالح الكبير، ثم أجابها بهدوء: إنها مشكلةٌ حقيقيةٌ، لكن علاجها، لحسن الحظ، بسيط جداً، أيتها الأنهار الجميلة. ما العلاج، أيها البحر الطيب؟ قالت الأنهار بصوتٍ واحد، وهي تلامس الشاطئ، وتكاد تندفع في عمقه، فقال وهو يوليها ظهره، متأكّدا أنها ستجري وراءه. الحل يكمن أن يبقى كل نهر في مكانه.. في منبعه البعيد، وألا يأتيني أبداً. سيحتفظ كل نهرٍ، عندئذٍ، بعذوبته ووجوده الحر المستقل، ولا يعود للشكوى أي معنى، خصوصاً وأنني أعد كل نهر في هذا العالم ألا أذهب إليه، وألا أستدعيه.. لكنني لن أفعل شيئاً عندما يقرّر المجيء إليّ بنفسه وبإرادته.. لن يكون في وسعي، عندها، سوى استقباله، كما يليق به.
وتنتهي القصة، من دون أن تسجل لنا رد فعل الأنهار الأخير، ذلك أننا نعرف تماماً أنها اندفعت باحثةً عن فنائها.. وما زالت تفعل.. تماماً كما تفعل شعوبٌ كثيرة عذبة، وهي تندفع إلى فنائها، في قلب العدو المالح، ذلك أن الحكايات ليست مادةً للتسلية وتزجية الوقت وحسب، لكنها تاريخ الأمم الفانية، والتي ما زالت تقاوم.. حتى لا تلاقي مصير الأنهار.