08 نوفمبر 2024
من دروس أصحاب "السترات الصفراء"
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
تعيش فرنسا، للأسبوع الثالث على التوالي، على وقع احتجاجات حركة "السترات الصفراء"، التي لم تنل أعمال الشغب والعنف التي رافقت تظاهراتها، في الآونة الأخيرة، من شعبيتها داخل المجتمع؛ فوفق أحدث الاستطلاعات، لا تزال الحركة تحظى بتأييد 72% من الفرنسيين، في وقت تنخفض فيه شعبية الرئيس إيمانويل ماكرون إلى مستويات قياسية.
تأتي هذه الاحتجاجات ضد قرار الحكومة الفرنسية، زيادة أسعار الوقود، التي ارتفعت بحوالي 23% خلال سنة، حيث وصل سعر اللتر الواحد من الغازوال إلى 1,51 يورو، وهو أعلى ارتفاع يسجل في البلد منذ عام 2000. وقد برّر الرئيس إيمانويل ماكرون هذه الزيادة بالرغبة في تشجيع استعمال الوقود النظيف الداعم للبيئة، معلناً عزمه إقرار زيادة أخرى العام المقبل؛ قصد تمويل استثماراتٍ في مجال الطاقات المتجدّدة.
تعود البدايات الأولى لهذه الحركة في فرنسا إلى مطلع الصيف الماضي، عندما انتشرت في أوساط الفرنسيين عريضةٌ إلكترونية، تعبر عن رفض الضرائب الحكومية الجديدة المقرّرة على المحروقات، في ظل تراجع القدرة الشرائية للمواطنين من الطبقة المتوسطة الصغرى. وتمكّنت هذه العريضة من حصد مئات آلاف من التوقيعات، ليتم بعدها نقل النضال من الافتراضي إلى الواقعي، من خلال تحويل الموقعين لتعبيرهم الاحتجاجي إلى سلوك عملي، ترجم بالنزول إلى الشارع العام، دلالة على الغضب والاستياء.
دفع المسار الذي أخذته تطورات الأحداث، نهاية الأسبوع المنصرم، الحكومة إلى التفاعل
مكرهةً مع مطالب المتظاهرين، بعد أن هدّدت، في وقت سابق، بإعلان حالة الطوارئ؛ التي تعني الإخفاق السياسي والأمني، قبل أن تتراجع عن ذلك، وتستسلم في معركةٍ سريعةٍ ومفاجئة، كلّفت فرنسا خسائر بشرية ومادية على الصعيد الداخلي، وندوبا غائرة في صورتها على المستوى الخارجي.
قرّرت الحكومة الفرنسية، إذن، إرجاء تطبيق تلك الزيادات، المفروض أن تدخل حيز التنفيذ بداية العام المقبل حتى وقت لاحق، فاتحة الباب أمام المشاورات مع البرلمان والأحزاب والإدارة المحلية والنقابات، بهدف التوصل إلى صيغةٍ مُرضيةٍ لتنزيل هذه الإصلاحات، بعدما أيقنت أن حركة السترات الصفراء التي لم تولها كبير اهتمام وعناية عند انطلاقتها، أضحت تشكل خطرا على أمن البلد واستقراره، وقد يمتد التهديد متى استمرت على النهج نفسه، ليصل إلى الحكومة نفسها.
ما جرى في فرنسا طوال الأسابيع الماضية تحوُّل عميق، ومؤشر دالّ على أن أمورا عديدة تغيرت، وأن الدول تدخل منعطفا جديدا. حقيقة لم تعد تخطئها العين، فمسلسل الأحداث كشف عن متغيرات بالجملة في السياق الداخلي الفرنسي، والتي يمكن أن تنسحب على باقي البلدان، بعدما أضحى الجميع هدفا لهذه التحولات، لا فرق بين هذه الدولة وتلك.
تُعد مسألة تدويل الفعل الاحتجاجي أو عالميته أول الدروس التي تقدّمها الوقائع على أرض الجمهورية الخامسة، حيث تؤكّد أن السلوك الاحتجاجي فعل إنساني عابر للحدود، غير محصور في منطقة جغرافية محدّدة، أو طائفة معينة، أو حضارة بذاتها. إذ جعلت التحولات العالمية، في الاقتصاد قبل السياسة، الدول المتقدمة في مرمى الاحتجاجات، على غرار ما يحدث عادة في البلدان النامية، متى تبيّن لمواطنيها أن الحاجة ماسة لهذا السلوك، لتبليغ رسالة ما إلى جهات معينة.
يتعلق ثاني الدروس بإثبات جانبٍ من الأزمات التي تنخر مؤسسات الدولة الوطنية التقليدية،
حيث عمّق أصحاب السترات الصفراء أزمة المؤسسات التقليدية من أحزابٍ ونقابات، المفروض فيها الاضطلاع بدور الوسيط بين القمة والقاعدة؛ أي بين الدولة والمواطنين، فالظاهر أن الفعل الاحتجاجي العفوي لهذه الحركة غير المسيسة المفتقدة للقادة والزعماء تجاوز سقف النظام السياسي التقليدي، القائم على ثنائية اليمين واليسار منذ عقود، كما أحرج الحركة النقابية في بلدٍ يعد تاريخيا معقلا لها على الصعيد العالمي.
ثالث تلك الدروس لرجال السياسة، في الشمال والجنوب على حد سواء، يتعلق بمشكلة العدالة الاجتماعية، فأصحاب السترات الصفراء كشفوا للعالم عن حجم الهوة العميقة التي تنخر فرنسا، بعدما بات الجميع يتحدّث عن الشرخ الحاصل في المجتمع الفرنسي، الذي لم ينشئه ماكرون، ولكنه ساهم بسياساته الفئوية في تعميق فجوته، منذ وصوله إلى قصر الإليزيه. فهناك هوة بين المدن الكبرى المرتاحة والضواحي والمناطق الريفية التي تعاني. وهوة اجتماعية تعبر عنها شريحة من المجتمع، وهي من العمال وصغار الموظفين التي تأثرت بارتفاع الضرائب والمعيشة.
أخيرا، تثبت هذه الحركة فعالية وسائل التواصل الاجتماعي، بمختلف أنواعها، في تحريك المواطنين وتنظيمهم لصون حقوقهم والدفاع عنها، بعيدا عن الأنساق التقليدية المؤطرة للفعل الاحتجاجي، فلا ماكرون ولا غيره من الفريق الرئاسي توقعوا أن تهتز فرنسا بسبب حركة مجهولة حديثة النشأة بلا زعامة، ما جعل الحكومة حائرةً لحظة البحث عن طرف/ ممثل للحركة من أجل الحوار بغرض التهدئة.
يخطئ من يربط ما يجري في فرنسا بمجيء ماكرون إلى الرئاسة، فما وقع آتٍ لا محالة، لم تقم إصلاحات الرجل سوى بتسريع وتيرة وقوعه، فهو في النهاية حصيلة تراكماتٍ لها جذور عميقة، تعود إلى الخـيارات الاقتصادية المتخذة على مدى عقود؛ منذ حقبة الرئيس الأسبق جاك شيراك. ونالت معظم الدول نصيبها من هذه الخيارات؛ بدرجات متفاوتة، ما يعني أن أحداث فرنسا ليست سوى الحلقة الأولى من مسلسل إخفاقات قادم، يتهدد دولا عديدة (بلجيكا مثالا)، جراء سنوات من السياسات الاقتصادية ذات الأفق المحدود والضيق، والتي لا يتعدى منظورها أمد ولايات الرئيس.
تأتي هذه الاحتجاجات ضد قرار الحكومة الفرنسية، زيادة أسعار الوقود، التي ارتفعت بحوالي 23% خلال سنة، حيث وصل سعر اللتر الواحد من الغازوال إلى 1,51 يورو، وهو أعلى ارتفاع يسجل في البلد منذ عام 2000. وقد برّر الرئيس إيمانويل ماكرون هذه الزيادة بالرغبة في تشجيع استعمال الوقود النظيف الداعم للبيئة، معلناً عزمه إقرار زيادة أخرى العام المقبل؛ قصد تمويل استثماراتٍ في مجال الطاقات المتجدّدة.
تعود البدايات الأولى لهذه الحركة في فرنسا إلى مطلع الصيف الماضي، عندما انتشرت في أوساط الفرنسيين عريضةٌ إلكترونية، تعبر عن رفض الضرائب الحكومية الجديدة المقرّرة على المحروقات، في ظل تراجع القدرة الشرائية للمواطنين من الطبقة المتوسطة الصغرى. وتمكّنت هذه العريضة من حصد مئات آلاف من التوقيعات، ليتم بعدها نقل النضال من الافتراضي إلى الواقعي، من خلال تحويل الموقعين لتعبيرهم الاحتجاجي إلى سلوك عملي، ترجم بالنزول إلى الشارع العام، دلالة على الغضب والاستياء.
دفع المسار الذي أخذته تطورات الأحداث، نهاية الأسبوع المنصرم، الحكومة إلى التفاعل
قرّرت الحكومة الفرنسية، إذن، إرجاء تطبيق تلك الزيادات، المفروض أن تدخل حيز التنفيذ بداية العام المقبل حتى وقت لاحق، فاتحة الباب أمام المشاورات مع البرلمان والأحزاب والإدارة المحلية والنقابات، بهدف التوصل إلى صيغةٍ مُرضيةٍ لتنزيل هذه الإصلاحات، بعدما أيقنت أن حركة السترات الصفراء التي لم تولها كبير اهتمام وعناية عند انطلاقتها، أضحت تشكل خطرا على أمن البلد واستقراره، وقد يمتد التهديد متى استمرت على النهج نفسه، ليصل إلى الحكومة نفسها.
ما جرى في فرنسا طوال الأسابيع الماضية تحوُّل عميق، ومؤشر دالّ على أن أمورا عديدة تغيرت، وأن الدول تدخل منعطفا جديدا. حقيقة لم تعد تخطئها العين، فمسلسل الأحداث كشف عن متغيرات بالجملة في السياق الداخلي الفرنسي، والتي يمكن أن تنسحب على باقي البلدان، بعدما أضحى الجميع هدفا لهذه التحولات، لا فرق بين هذه الدولة وتلك.
تُعد مسألة تدويل الفعل الاحتجاجي أو عالميته أول الدروس التي تقدّمها الوقائع على أرض الجمهورية الخامسة، حيث تؤكّد أن السلوك الاحتجاجي فعل إنساني عابر للحدود، غير محصور في منطقة جغرافية محدّدة، أو طائفة معينة، أو حضارة بذاتها. إذ جعلت التحولات العالمية، في الاقتصاد قبل السياسة، الدول المتقدمة في مرمى الاحتجاجات، على غرار ما يحدث عادة في البلدان النامية، متى تبيّن لمواطنيها أن الحاجة ماسة لهذا السلوك، لتبليغ رسالة ما إلى جهات معينة.
يتعلق ثاني الدروس بإثبات جانبٍ من الأزمات التي تنخر مؤسسات الدولة الوطنية التقليدية،
ثالث تلك الدروس لرجال السياسة، في الشمال والجنوب على حد سواء، يتعلق بمشكلة العدالة الاجتماعية، فأصحاب السترات الصفراء كشفوا للعالم عن حجم الهوة العميقة التي تنخر فرنسا، بعدما بات الجميع يتحدّث عن الشرخ الحاصل في المجتمع الفرنسي، الذي لم ينشئه ماكرون، ولكنه ساهم بسياساته الفئوية في تعميق فجوته، منذ وصوله إلى قصر الإليزيه. فهناك هوة بين المدن الكبرى المرتاحة والضواحي والمناطق الريفية التي تعاني. وهوة اجتماعية تعبر عنها شريحة من المجتمع، وهي من العمال وصغار الموظفين التي تأثرت بارتفاع الضرائب والمعيشة.
أخيرا، تثبت هذه الحركة فعالية وسائل التواصل الاجتماعي، بمختلف أنواعها، في تحريك المواطنين وتنظيمهم لصون حقوقهم والدفاع عنها، بعيدا عن الأنساق التقليدية المؤطرة للفعل الاحتجاجي، فلا ماكرون ولا غيره من الفريق الرئاسي توقعوا أن تهتز فرنسا بسبب حركة مجهولة حديثة النشأة بلا زعامة، ما جعل الحكومة حائرةً لحظة البحث عن طرف/ ممثل للحركة من أجل الحوار بغرض التهدئة.
يخطئ من يربط ما يجري في فرنسا بمجيء ماكرون إلى الرئاسة، فما وقع آتٍ لا محالة، لم تقم إصلاحات الرجل سوى بتسريع وتيرة وقوعه، فهو في النهاية حصيلة تراكماتٍ لها جذور عميقة، تعود إلى الخـيارات الاقتصادية المتخذة على مدى عقود؛ منذ حقبة الرئيس الأسبق جاك شيراك. ونالت معظم الدول نصيبها من هذه الخيارات؛ بدرجات متفاوتة، ما يعني أن أحداث فرنسا ليست سوى الحلقة الأولى من مسلسل إخفاقات قادم، يتهدد دولا عديدة (بلجيكا مثالا)، جراء سنوات من السياسات الاقتصادية ذات الأفق المحدود والضيق، والتي لا يتعدى منظورها أمد ولايات الرئيس.
دلالات
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
محمد طيفوري
مقالات أخرى
23 أكتوبر 2024
11 أكتوبر 2024
22 سبتمبر 2024