من قاعدة بلاد الرافدين إلى داعش..كرونولوجيا تحليلية (2-2)
كانت المرة الأولى التي سُمع فيها اسم أبو مصعب الزرقاوي حين أعلن جورج بوش أنه قدم من أفغانستان إلى العراق، بعد الاحتلال الأميركي للعراق بعام تقريباً. لم يكن أحد يعرف به، سوى من أرسله وبعض "المجاهدين" في أفغانستان. ويقال إنه لم ينخرط في صفوف تنظيم القاعدة التي يقودها بن لادن هناك، وشكّل مجموعة "منزوية". ويبدو أنه من المجموعات التي هربت باتجاه إيران، ومنها دخل العراق (ومعروف أن هذه المجموعات كانت معروفة لدى المخابرات الإيرانية، وعلى تواصل معها، كما أقرّ أخيراً أبو محمد العدناني الناطق الرسمي باسم داعش). كانت الأجواء تشير إلى أنه، والمجموعة التي أتت معه، أتوا العراق من أجل "مقاومة الاحتلال"، حيث كان يركز الإعلام على هذا الدور لتنظيم القاعدة ولـ"المجاهدين". وبدأت تنشأ "قواعد" للتنظيم في المنطقة الغربية من العراق (أي المنطقة السنية التي كانت مركز مقاومة الاحتلال) بعدما تشكّل تحت اسم "تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين" (وهو الاسم الذي وحّد فيه اسم تنظيم القاعدة، والمجموعة التي كان قد شكلها في أفغانستان، باسم التوحيد والجهاد).
وجدت مجموعات تنظيم قاعدة الجهاد في مناطق وجود المقاومة العراقية التي كانت مشتعلة ضد الاحتلال الأميركي، وعلى الرغم من أن الحديث عن مقاومة الاحتلال لم يظهر أي دور جدّي لتنظيم القاعدة، لكن السياسة التي اتبعها الزرقاوي قامت على الصراع ضد (الروافض)، وقد أعلن ذلك مراراً، واعتبره الأولوية. بمعنى أن معركته في العراق كانت ضد الروافض (أي الشيعة). لهذا، ركّز نشاطه في تفجير الحسينيات ومواكب العزاء، وعموماً في المناطق الشيعية. هذا هو الدور الأساسي الذي لعبه تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين. وفي الأثناء، استغلّ اسمه للقيام بتفجيرات واسعة في مختلف مناطق العراق، الشيعية خصوصاً، وفي بغداد. وكان واضحاً، في هذه المرحلة، أن الهدف هو افتعال صراع طائفي، لكن، بالأساس، تحريض الشيعة طائفياً، وتكتيلهم ضد السنّة. ولقد فتحت عمليات أبو مصعب الزرقاوي باباً لممارسة تنظيمات شيعية تطهيراً طائفياً في بغداد وممارسة العنف الطائفي ضد السنّة. منها تنظيم "عصائب أهل الحق" بقيادة أبو درع، الذي كان جزءاً من التيار الصدري، لكنه طرد لممارساته الطائفية وأُهدر دمه، لكنه كان محمياً من المخابرات الإيرانية. ولكن، أيضاً، فيلق بدر وحزب الله العراق، وميليشيات طائفية عديدة مارست التطهير الطائفي في المناطق الشيعية. وهي المرحلة التي رسّخ نوري المالكي سلطته فيها، بتوافق أميركي إيراني، وأصبح يحكم عبر الميليشيات التي تشكلت في خضم هذا الصراع الطائفي، وحيث أخذ يقيم جيشاً مسيطراً عليه طائفياً.
ويشير تناول دور أبو مصعب الزرقاوي، في هذه المرحلة، إلى أن ما قام به هو تفجير الصراع الطائفي، والتأسيس لانقسام العراق إلى أقاليم طائفية. فقد أشعل الصراع ضد الشيعة، الأمر الذي حرّض طائفيي الشيعة (تربوا في إيران سنوات طويلة بعد أن طردهم من العراق صدام حسين نهاية سبعينيات القرن الماضي) على تشكيل المناطق الشيعية على أساس طائفي "نقي". وبات واضحاً أن "الكتلة الشيعية" تبلورت، وتحددت، وسيطرت على مناطقها. هذا ما كانت تقود إليه سياسة الزرقاوي فعلياً، هل نشكك؟ سنرى الأمر كيف انقلب بعدئذ.
دولة العراق الإسلامية
في عملية سوبرمانية، قتل الزرقاوي على يد الجيش الأميركي في 8/6/2006، حيث جرى اكتشاف مخبئه، لتهبط طائرة محملة بالجنود، وتنفّذ أمر قتله (بدل اعتقاله). تسلم تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين أبو عمر البغدادي، وسرعان ما أعلن قيام "دولة العراق الإسلامية" في 15/1/ 2007، ووضع حدودها، بحيث لا تتجاوز المنطقتين، الشمالية والغربية، من العراق، أي المنطقة السنية فقط. بمعنى أنها لم تشمل كل العراق، ما يعني أنه لم يعد في صراع مع الشيعة الروافض، بل بات يهدف إلى ترسيخ أسس الدولة في المنطقة السنية من العراق. بمعنى أن الصراع انتقل من أولوية الحرب ضد الشيعة "الروافض" إلى أولوية "تطبيق الشريعة"، أو تطبيق "أركان الإسلام" كما يفهمها هؤلاء بإقامة الدولة الإسلامية التي بات اسمها "دولة العراق الإسلامية"، وأصبح أبو عمر أميرها، وعيّن الوزراء.
أبو مصعب الزرقاوي |
في هذه السنوات، كانت المقاومة العراقية قوية في تلك المناطق، وكانت ممارسات الزرقاوي قد شلّت إمكانية نهوض مقاومة في الجنوب ضد الاحتلال الأميركي، خصوصاً بعدما حطّم الاحتلال قوى التيار الصدري، حيث باتت المقاومة تعني السنّة فقط، وتهدف إلى إنهاء حكم الشيعة "المدعوين من الاحتلال". بالتالي، كان هذا التحوّل في سياسة تنظيم دولة العراق خطراً، لأنه أدخل المنطقة الغربية والشمالية في صراع معه، بعدما عمل على فرض قيمه التي هي قيم قروسطية. وأصبح في اشتباك مع كتائب المقاومة، الأمر الذي فرض انقسام هذه الكتائب بين مستمر في مقاومة الاحتلال ومن وافق على التفاهم مع الاحتلال ضد تنظيم دولة العراق، الأمر الذي فرض تشكيل "مجالس الصحوة" من العشائر، ومن كتائب كانت تقاوم الاحتلال. وفي هذه العملية، تراجعت مقاومة الاحتلال، وانكفأت المنطقة السنية على ذاتها. ولم يكن الاحتلال يريد أكثر من ذلك، فقد ضعفت المقاومة واستردّ سيطرته سنتي 2007 و2008، وبات مرتاحاً في ترتيب الوضع العراقي.
وهذه هي السنوات التي كان يعمل الاحتلال الأميركي فيها على تقسيم العراق، بعدما شكّل لجنة في الكونغرس برئاسة جو بايدن (النائب الحالي للرئيس باراك أوباما)، أقرت اللجنة على ضوء الصراع الطائفي القائم، وانقسام العراق إلى جنوب شيعي وغرب سني وشمال كردي، تقسيم العراق إلى ثلاث دول. وحينها أقرّ مجلس الشيوخ التوصية.
بمعنى أن المرحلة الثانية من دور تنظيم قاعدة الجهاد الذي بات يسمى تنظيم دولة العراق الإسلامية تمثلت في إجهاض المقاومة، وترويع الشعب، وإيجاد تماسك سني في حدود المنطقة السنية. بالتالي، يكون قد أكمل المهمة الأولى التي تمثلت في إيجاد صراع طائفي، وفرض تماسك المنطقة الشيعية. وفي كل هذه المراحل، ظل وجوده غطاء للتفجيرات التي حدثت، وقامت بها قوى طائفية شيعية وأجهزة مخابرات عالمية (أميركية) وإقليمية (سورية، سعودية وربما أكثر).
بعد ذلك، جرت عمليات تصفية لأبي عمر البغدادي، وربما لآخرين، قبل أن يتسلم أبو بكر البغدادي القيادة في إبريل/ نيسان سنة 2010. خلال هذه الفترة، ضعفت المقاومة العراقية كثيراً، وباتت "العملية السياسية" مدخل "السنة"، بعد أن قاطعوها طويلاً، وبالتالي، ضعف كثيراً دور تنظيم دولة العراق، بعدما طاردته العشائر، وظل فقط شماعة لعمليات التفجير التي كانت تحدث كلما توترت العملية السياسية. ثم هدأ دوره بعد أن تسلّم ابو بكر البغدادي القيادة، وكاد يُنسى لولا أن موجة الثورات العربية قد وصلت إلى العراق، فعاد يلوّح بدور، ولقد تصاعد دوره بعدما تصاعد نشاط المنطقة الغربية والشمالية ضد الحكومة منذ نهاية سنة 2012 وسنة 2013، وخصوصاً منذ بداية سنة 2014، حيث عادت المشجب الذي يستخدمه نوري المالكي، على الرغم من أنه كان يشوش على الحراك الشعبي، الأمر الذي دفع "العشائر" والشباب في الأنبار للصدام معه، في صدامهم مع قوات المالكي، بداية العام الجاري.
الوصول إلى داعش
تشكلت "داعش" من فرض دمج جبهة النصرة التي تشكلت في سورية صيف 2012 وتنظيم دولة العراق الإسلامية. وظل دور تنظيم دولة العراق ضعيفاً، منذ تراجع دور المقاومة، وتشكّل مجالس الصحوة التي خاضت معارك ضدها بدعم أميركي، ومن ثم "استقرار" العملية السياسية. وظهر، بعد مقتل أبو عمر البغدادي، أن دور إيران في التنظيم تعاظم، ربما بفعل الصدام مع مجالس الصحوة. فقد أرادت أميركا أن تحوّل الصراع من صراع المقاومة ضدها إلى صراع العشائر ضد التنظيم، الذي كان يعلب دوراً يخدم سياساتها كما أشرنا للتو، وبدا أن هذا هو دوره الأخير، المتمثل في إنهاك المقاومة وإنهائها. ومن الواضح أنه نجح في ذلك، حيث تراجعت المقاومة إلى حدّ التلاشي تقريباً. في هذه الوضعية، تعززت العملية السياسية، لكن أميركا كانت قد بدأت في طرح مشروعها التقسيمي الذي كان من المفترض أن تكون مجالس الصحوة قوته في المناطق الغربية. في هذه اللحظات، انفجرت الأزمة المالية (15 سبتمبر/أيلول 2008)، ونجح باراك أوباما رئيساً على أكتاف الأزمة. لهذا، بات التقسيم غير ممكن، بعدما توضّح أن أوباما يريد الانسحاب من العراق.
ربما جعلت هذه الوضعية إيران قادرة على السيطرة على التنظيم (وأظن أنها كانت تخترقه من قبل)، وبالتالي، كان مجيء أبو بكر البغدادي في هذا السياق. فقد بات احتياطياً للدور الإيراني، والغطاء للتفجيرات التي تحدثها المخابرات الإيرانية خدمة لتعزيز سيطرتها على "العملية السياسية". ظهر ذلك في الدور الذي عاد إلى التنظيم بعد التظاهرات التي حدثت بتأثير الثورات العربية، ومن ثم في تحركات المحافظات "السنية"، وآخرها في الأنبار بداية 2014، حيث اضطرت العشائر للاشتباك معه، في وقت كانت تقاتل قوات نوري المالكي، وكان واضحاً أن يتدخل لتخريب الحراك، بافتعال أولويات مناقضة للحراك نفسه. خصوصاً أن كل نشاطه يتركز في المحافظات الغربية فقط.
أما جبهة النصرة فقد تشكلت من كادراتٍ كانت معتقلة لدى النظام السوري، وأطلق سراحها على دفعات آخرها شمل 500 كادر أُطلق سراحهم في إبريل/نيسان سنة 2012، ومنهم أبو مصعب السوري. وحين تشكّل، كان واضحاً أن فروع جبهة النصرة في المحافظات السورية تشكلت من هؤلاء المفرج عنهم. كما تشكلت تنظيمات سلفية قريبة منها، مثل "أحرار الشام" و"صقور الشام". وكل هؤلاء هم من "الجهاديين" الذين ذهبوا للقتال مع تنظيم قاعدة الجهاد، ثم تنظيم دولة العراق الإسلامية في العراق. ومارست، منذ البدء، السلطة في المناطق التي كانت خارج سيطرة الدولة، وأعلنت عن تشكيل الدولة الإسلامية من حلب، وأخذت تمارس فرض الأصولية، و"الحكم الشرعي"، من دون أن يكون لها دور مهم في قتال قوات النظام. على العكس، بدأت، وهي تفرض سلطتها، تحتك بالكتائب المسلحة الأخرى، وتحاول أن تفرض هيمنتها عليها. وفي حالاتٍ عديدة ذكرت، كانت السلطة في المناطق التي تضطر للانسحاب منها تسلم مواقعها للجبهة. وكل المعلومات التي تسربت من السجن، حيث كان هؤلاء كانت تشير إلى اختراقات أمنية أساسية في بنية الجبهة. كما أن عمليات تفجير عديدة، قامت بها السلطة ذاتها، أعلنت باسم الجبهة (مثل تفجير كفر سوسة ضد مركز أمن الدولة، حيث صدر بيان باسم الجبهة، ولم تكن قد شُكّلت بعد).
فجأة، أعلن أبو بكر البغدادي ضم جبهة النصرة إلى تنظيم دولة العراق وتأسيس الدولة الإسلامية في العراق والشام. رفض أبو محمد الجولاني الأمر، واعتبر أنه فرع لتنظيم القاعدة، وأخذ دعم أيمن الظاهري الذي طالب البغدادي بفض الوحدة، والتزام العمل في العراق، لكن الأخير رفض الأمر. وخلال ذلك، انضم كثيرون ممن كان في جبهة النصرة إلى داعش، خصوصاً أن كلاً منهم يعرف الآخر، التي باتت هي التنظيم الأساس. وأخذت تسيطر على مناطق الشمال والشرق السوريين، واتخذت من الرقة مقراً لها، كما أخذت في تطبيق "شرعها". وبهذا، باتت في صدام مع الشعب في المناطق "المحررة"، ومع الكتائب المسلحة، حيث عبرها تمت تصفية قيادات وكادرات عديدة في "الجيش الحر"، وناشطين إعلاميين وإغاثيين. وظهر، في أكثر من موقع، أنها تنسق مع السلطة (سقوط مطار منغ، مثلاً، حيث جرى تسليمه للتنظيم، ومواقع أخرى عديدة).
الآن، وبعدما تحوّل الصراع في محافظات العراق الشمالية والغربية من شكله السلمي إلى الشكل المسلح، وتقدّم المجلس العسكري لثوار العراق للسيطرة على بغداد، أخذت داعش تعبث، كما فعلت في سورية. ما هو دورها؟ ولماذا باتت البديل عن تنظيم القاعدة؟ أسئلة تحتاج إلى بحث.